المُلا عثمان الموصلِيّ والذكرى المئوية لرحيله- الجزء الثالث

                                                      

                 الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
                     أستاذ متمرس/ جامعة الموصل

     

المُلا عثمان الموصلِيّ والذكرى المئوية لرحيله- الجزء الثالث

يُعد المُلا عثمان الموصلِيّ رمز عراقي شامخ، وهو من الشخصيات الأكثر تأثيرا في المشرق في مجال تلاوة القرآن الكريم والموسيقى. وهو رجل عصامي امتلك العديد من الخصائص والمزايا والتي جعلته يتبوأ مواقع مقدمة في المجتمع.

تكمن أهمية المُلا عثمان أنه رائد pioneer مميز وفريد بعطائه النفيس وبآثاره الخالدة من أعمال نفيسة وتلاميذ عظام في العديد من البلدان.

لقد أحب الموصلِيّ بلده العراق وقدَّم له الكثير من العطاء المميز من أقصى شماله لأقصى جنوبه، كما أحبه الناس في أنحاء العراق وكذلك في البلدان التي عاش فيها ورددوا ألحانه.

بهذا الخصوص أستشهد بحدثين واحد من جنوب العراق والآخر من شماله: يذكر المؤرخ البصري حامد البازي (1920- 1995) في جريدة القادسية الصادرة في 7/7/1988: "إن الشيخ عثمان الموصلِيّ زار البصرة مرتين بعد الانقلاب العثماني ولقي فيها الكثير من الحفاوة والتكريم واتصل بعلماء البصرة ووجهاءها والفنانين فيها، وقد أكرم (طالب باشا النقيب) الذي كان مرشحا لعرش العراق قبل الملك فيصل الأول المُلا عثمان وأقام له الحفلات والدعوات".

وينقل المؤرخ البازي أن الموصلِيّ غنى على مسرح (اولكه) أغنية من نغم الرسم. كما لحن الموصلِيّ أغنية (شمس الشموسة) في البصرة؛ وقد غنتها المغنية البصرية (طيرة) على يخت الشيخ خزعل أمير المحمَّرة الذي كان راسيا في شط العرب بالعشّار وبحضور الشيخ خزعل نفسه. وقد اشتهر بهذه الأغنية فيما بعد كل من سيد درويش وفيروز.

وأما الحدث الثاني فهو من شمال العراق. فقد زار الولد الثاني للمُلا عثمان (فتحي عثمان الموصلِيّ) مدينة السليمانية، ولما عرف شيوخ السليمانية أنه ابن المُلا عثمان زوجوه إحدى بناتهم (مريم عزيز)، وقد كان أغلب أحفاد المُلا عثمان من هذه السيدة الفاضلة.

لقد كتبت الكاتبة (زينب زنگنة) من القاهرة: " المُلا عثمان الموصلِيّ عبقري الغناء العراقي .. إنه واحد من أكبر مغني العراق في فجر العصر الحديث ومن عباقرة الموسيقى والغناء الديني وله دور كبير في تطوير المقام العراقي وتدريسه. ويعتبر حلقة وصل تاريخية بين عصرين، كما أن موسيقاه تشكل منعطفاً مهماً".

لقد ترك الموصلِيّ العديد من الآثار في البلدان التي عاش فيها، وبخاصة في: العراق وتركيا ومصر وسوريا. وقد نقل المقامات العراقية والتركية إلى مصر.

من الألحان الشهيرة للموصلِيّ لحن أغنية (البنت الشلبيَّة) التي اشتهرت في تركيا، وأشهر من غناها المغنية التركيةDeniz Seki تحت عنوان
Böyle Gelmiş) Böyle Gider). وقد انتشر هذا اللحن عالميا في العديد من البلدان وتغنوا به بلغات مختلفة.

وبعد قرابة ثلاثة عقود من وفاة المُلا عثمان، ظهر هذا اللحن في الهند. ويذكر (سلامة عبد الحميد) في مدونته بتاريخ 15 ديسمبر 2010 أن أغنية "البنت الشلبيَّة" التي غنتها فيروز مقتبسة أصلا من لحن هندي مطابق عام 1959. ويؤكد ذلك أيضا الكاتب العراقي المعروف (زيد خلدون جميل) وأن أغنية (البنت الشلبيَّة) قد اُقتبست من قبل أحد المغنيين الهنود عام 1959 ثم غنتها فيروز.

لقد كان الموصلِيّ شاعرا مبدعا فضلا عن كونه موسيقارا بارعا، ومن قصائده الشهيرة قصيدة (قدُّك المياس يا عمري). ويدرج موقع (المعرفة) أغنية (قدُّك المياس) ضمن أشهر أعمال المُلا عثمان في الموسيقى، ويذكر أن اسمها بالتركية ada sahillerinde. كما يدرج هذا الموقع (قدُّك المياس) مع كل من (يا غزالاً كيف عني أبعدوك) و (آه يا حلو يا مسليني) اللواتي غناهما أيضا العملاق الحلبي صباح فخري (1933 - 2021) من ضمن أشهر أعمال الموصلِيّ في الموسيقى.

وتُعد (قدُّك المياس) أيقونة الغناء الحلبي الذي تَكَنّى باسمها، ويطلق عليه (قدود حلبية) نسبة إلى أغنية (قدُّك المياس).

من أبرز تلاميذ الموصلِيّ في تركيا الموسيقار التركي كاظم أوز، وسامي بيك رئيس أكبر فرقة موسيقية تركية، وكذلك المغنية نصيب.

ومن تلاميذ الموصلِيّ من السوريين الشيخ أحمد أبو الخليل القباني (1833- 1903م)، الذي أخذ عن أستاذه فن النغم والألحان؛ لاسيما الموشحات، ومن أشهر ألحانه: (صيد العصاري يا سمك بني)، (يا طيرة طيري يا حمامة... وديني لدمّر والهامة)، (يا مال الشام يا الله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي).

ولو انتقلنا إلى مصر فإن من أشهر تلاميذ الموصلِيّ من المنشدين والموسيقيين المصريين هو (إمام المنشدين) الشيخ على محمود (1880ـ1946) الذي، حاله كحال أستاذه المُلا عثمان، جمع السلطتين: إماما للمنشدين ومرجعا للملحنين. ومن أشهر تلاميذ الشيخ على محمود: إمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد (1896- 1961) الذي أكد أن أستاذه الشيخ علي محمود أخذ الموشحات التركية من المُلا عثمان وهو الذي أدخلها إلى مصر.

ومن تلاميذ الموصلِيّ أيضا في مصر كامل الخلعي (1881-1931) الذي أخذ منه الموشحات المقامة على الأوزان التركية والشامية، وسيد درويش (1892-1923) الذي درس على يدي الموصلِيّ لفترتين منفصلتين في سوريا.

ففي العام 1909 تعرَّف سيد درويش بالمُلا عثمان الموصلِيّ في الشام وتتلمذ على يده، وكان عمر سيد درويش سبعة عشر عاما، حيث كان ضمن فرقة عطا الله الغنائية المصرية، وقد مكث سيد درويش في الشام عشرة أشهر.

وفي العام 1912 قامت فرقة عطا الله برحلتها الثانية إلى حلب، وقد مكث سيد درويش مع أستاذه الموصلِيّ فترة أطول، وقد أتيحت الفرصة لسيد درويش لتعلم الموسيقى وأصولها بشكلٍ أكبر على يد الموصلِيّ، وقد أخذ منه أصول الموشحات التركية والشامية والعربية.

لقد ذكر الكاتب المصري محمد علي حماد (أن تلك الرحلة كانت حجر الأساس في بناء شخصية سيد درويش الفنية وقد استفاد كثيرا من أستاذه المُلا عثمان). أما الشيخ المصري محمود مرسي فيقول (إن الشيخ سيد درويش عاد بعد هذه الرحلة أستاذا كبيرا في ميدان الموسيقى العربية).

من أشهر الأعمال التي اقتبسها سيد درويش من أستاذه الموصلِيّ أغنية (زروني كل سنة مرة) والتي نال منها شهرة كبيرة؛ وهي في الأصل موشح ديني للموصلِيّ عنوانه (زُر قبر الحبيب مرة). وهناك أيضا أغنية (آه يا زين العاشقين) وهي أغنية عراقية للموصلِيّ عنوانها (النوم مُحرَّم لأجفاني).

ومن أعمال الموصلِيّ التي غنتها واشتهرت بها فيروز (البنت الشلبيَّة)، وقد أثير جدل واسع حول أصل لحن (البنت الشلبيَّة)، وقد نطق عَاصِي الرَّحبانِيّ (1923-1986) واعترف صراحة أن أصل اللحن حلبي، وأنه قد قام بإجراء إضافة طفيفة عليه.

وهناك أيضا أغنية (الروزانا) والتي اشتهرت بها فيروز أيضا وغناها كذلك صباح فخري وآخرون. وهي أغنية عراقية موصلية للشاعر الدفتردار عبد الله راقم أفندي الموصلِيّ (1853-1891م) ومن ألحان صديقه المُلا عثمان الموصلِيّ، كما أكد ذلك بشكل واضح المؤرخ العراقي الأستاذ الدكتور سيار كوكب علي الجميل.

لقد ناقش المؤتمر الموسيقي العربي الثاني الذي انعقد في قاعة الشعب في بغداد عام 1964 موضوع اقتباس ألحان الموصلِيّ. ومن الشخصيات التي شاركت في المؤتمر الدكتور محمد صديق الجليلي (1903-1980) الذي كان يمتلك مكتبة عامرة تضم نوادر الأسطوانات الموسيقية.

لقد قدَّم الدكتور الجليلي لمؤتمر الموسيقي العربي الثاني وثائق سمعية وبصرية تؤكد بما لا يقبل الشك عائدية الكثير من أشهر الأغاني الشائعة في العراق والسوريا ومصر إلى المُلا عثمان الموصلِيّ. ومن بين هذه الأغاني بعض الأغاني المنسوبة إلى تلميذه الشيخ سيد درويش، مثل (طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة) و (زوروني بالسنة مرة) وغيرها.

وبعد أن أيقن المؤتمر بالأدلة القاطعة عائدية هذه الألحان للمُلا عثمان، أوصى بأحقية المُلا عثمان بها.

https://www.youtube.com/watch?v=TXFN4HeegbU

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1979 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع