أحمد العبدالله
ناظم كزار؛ يا أهل تكريت.. قد جئتكم بـ(الذبح)!!(٢-٢)
السياسة في العراق بشكل خاص, لعبة قذرة, بل هي في غاية القذارة, ولكن مع كل ذلك تبقى مغرية لكثيرين, خاصة للباحثين عن مال حُرموه أو جاه افتقدوه, من الذين يعيشون على هامش المجتمع أو في قاعه, ويستعجلون الوثوب والصعود السريع وتحقيق طموحات معظمها غير مشروعة, فيجدون في الأحزاب والحركات(الثورية)*, خير مطيّة يمتطونها لبلوغ مآربهم وأهدافهم. ومن لديه شيئ من الحكمة وبعد النظر فلا يمكن أن يقرَبها, ولا يلوّث نفسه بولوج دهاليزها المظلمة, ومآلاتها المأساوية الدموية.
ومن خلال تتبعي لجانب كبير من تاريخ العراق السياسي المعاصر وما كتبه سياسيو تلك الفترة في مذكراتهم, لاحظت أشياء غريبة ومنكرة, منها؛ استسهال الحنث باليمين ونكث العهود, والغدر.. التملّق للحاكم وأعوانه ثم التنكّر لهم بعد مغادرتهم السلطة أو خلعهم منها.. الروح الثأرية والانتقامية بين (رفاق السلاح والعقيدة) كما يُفترض.. النفَس التآمري والطموح الزائد, فلا يكاد يجتمع اثنان من السياسيين؛ مدنيين أو عسكريين, حتى يكون محور حديثهم, هو التخطيط لانقلاب جديد, وإزاحة الحاكم بشكل دموي في الغالب, وإذاعة (البيان رقم واحد). وكل ذلك بذريعة (خدمة)الشعب والأمة وتحرير فلسطين, و(مقتضيات المصلحة العامة)!!.
وبالنسبة لمؤامرة ناظم كزار, فلو إن الأقدار لم تلعب لعبتها فتفشل المحاولة في حلقتها الأهم؛ مطار بغداد الدولي, لوقعت مجزرة رهيبة وغير مسبوقة على أرض المطار لن ينجوَ منها أحد, أولهم الرئيس ونائبه, ثم يلحقهما؛ أعضاء القيادة والوزراء وأعضاء السلك الدبلوماسي الحاضرين في مراسم الاستقبال وغيرهم. لأن خطة كزار الجهنمية كانت تقوم على قيام مفارزه المتحكمة في المطار والمسيطرة على أبنيته المشرفة على ساحة الاستقبال, بفتح النار على الجميع في لحظة نزول الرئيس البكر من الطائرة. وستردّ حتماً الحمايات الخاصة بالرئيس ونائبه وعناصر مكتب العلاقات العامة المتواجدين في المطار على مصادر النيران, ويختلط الحابل بالنابل**. وقد تقود لأتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر, كالتي حصلت بعد الاحتلال ولكن أعنف وأقسى منها بكثير, ولدخلت البلاد في نفق مظلم ولا نهاية له.
ولو افترضنا جدلاً إن النيران لم تحصد في طريقها شريكيه في التآمر؛عبد الخالق السامرائي*** ومحمد فاضل, الحاضريَن مع المستقبلين في المطار, ونجيا من الهلاك المحتوم, واستتبت الأمور لناظم كزار, فإنه على الأغلب سيستخدمهما كجسر وواجهة لفترة قصيرة من الزمن, ثم يصفّيهما ويتخلص منهما ليخلو له الجو. فشخص طموح مثله يقوم بكل هذه المخاطرة, من المستبعد, بل من المستحيل أن يسلّم كرسي الحكم لغيره, فتلك في عداد (الأماني الضالّة), ولا مكان لها في عقول السياسيين العراقيين المتكالبين على السلطة. وهو تكرار لسيناريو قام به حافظ أسد, حيث صفّى كافة منافسيه على مراحل, وفي الحلقة ما قبل الأخيرة, وضع شخصا (سُنيّاً) مغموراً على رأس الدولة لعدة أشهر, ثم ركله وتربع على كرسي الحكم لثلاثة عقود مليئة بالمجازر والدماء, وبعد (نفوقه) ورّثها لولده بشار, والذي سار على نهجه, بل فاقه اجراماً ودموية. وهذا الذي وقع في سوريا عام 1971, كان مخططاً له أن يحصل في العراق عام 1973, ولكن إرادة الله كانت فوق غدر الغادرين ومكائدهم.
جمع كزار حوله شلّة من أرباب السوابق والفاشلين والساديّين من كل المكوّنات العراقية, من الذين وجد فيهم ضالته ويخضعون لرغباته بلا تردد أو مناقشة. وهؤلاء كانوا يصبّون جام حقدهم المتأجّج على كل من يقع في قبضتهم, بدوافع ثأرية انتقامية أو طبقية أو سياسية. ولكنها في العمق تحرّكها نزعة طائفية متخفيّة, ولا يخرج أحد من (باستيلهم), إن كُتب له الخروج, إلاّ بقايا إنسان فاقد القدرة والفعل, من كثرة ما ذاق من عذاب وإهانة وإذلال يفوق الوصف. وكان الأكثر استهدافا هم قادة المجتمع ووجوهه البارزة من علماء الدين وكبار الضباط والوزراء السابقين وأعيان المجتمع وغيرهم. وأنا هنا لا ألقي الوزر على أكتاف ناظم كزار وزبانيته فقط, بل إن المسؤولية الأولى يتحملها الرئيس البكر ونائبه صدام حسين.
ولا يبدو على ناظم كزار للوهلة الأولى, إنه يحمل نَفَساً طائفيا ظاهراً, أو يتصرف على أساسه, ولكن الغوص في أعماق شخصيته وتحليلها وفق ما بدر منه من كلام, يؤكد إن النزعة الطائفية كانت متحكمة في العديد من أفعاله وأقواله, ومهما حاول من كتمان ما بدواخله, فلا بد من ظهور ما يكنّه من خلال فلتات لسانه. ومن الدلائل المهمة على ما قلته, هو حقده المتأجّج وكأنه بركان يغلي وعلى وشك الانفجار على مدينة تكريت وأهلها, بحجة إن؛(التكارتة قد ملأوا القصر الجمهوري)!!****. وقد نقل عنه غير واحد, إنه قال في أكثر من مناسبة؛ (والله ما أخلّي تكريتي يعيش حتى لو كان في آخر الدنيا, وأرض تكريت ما تعيش بيها حتى الحشرات مدى الدهر)!!. ووفقاً لشهادة الكاتب مؤيد عبد القادر, فإن (ناصر فنجان), وهو أحد أعوان كزار وقد أعدم معه, وهو من سكنة الصرائف في منطقة الوشاش, عندما كان يسكر ويصل لحد الثمالة, في الفترة التي سبقت المحاولة الانقلابية, كان يتوعّد قائلا؛ (انتظروا أياما, وسنطيّر كل التكارتة)!!, ومن المؤكد إنه يتحدث بلسان (عمّه).
إن عدد (التكارتة) الذين عملوا في القصر الجمهوري في السنوات الأولى بعد 1968, كان لا يتجاوز العشرات, وليس بذلك الحجم الذي صوّره كزار, ومعظمهم عملوا في الحمايات الخاصة لبعض المسؤولين أو في الحراسات. وتكريت ليست؛(المدينة الفاضلة), ففيها الصالحون وفيها الطالحون, كحال غيرها من المدن, وإن منها من استغلّ سلطته بسبب قرابته لهذا المسؤول أو ذاك, ومنهم من أساء, ومنهم من شغل موقعا لا يستحقه, وهؤلاء يُحاسبون وفق القانون. ولكن بأيِّ شريعة أو منطق تنوي إبادة وتدمير مدينة بقضِّها وقضيضها, بل وملاحقة وقتل (كل تكريتي) حتى لو كان يعيش في(آخر الدنيا)!!, وليس هذا فقط, بل جعل المدينة, بعد تدميرها, غير صالحة لسكن البشر إلى الأبد !!!.
ولا أجد تفسيراً مقنعاً لذلك سوى الدافع الطائفي الذي يحمله في قلبه, ويختزنه في عقله الباطن بحكم البيئة الطائفية التي نشأ فيها وتربّى عليها, ولكنه يخفيه بستار كثيف من(التقيّة). فالشيعي بشكل عام, ولا أريد أن أعمّم, يبقى أسير(عقدة المظلومية), ويسعى حال تمكنه, للثأر والانتقام من(المخالفين) باعتبارهم(نواصب وأحفاد يزيد)!!, يجب سحقهم واجتثاثهم بأعنف الطرق والوسائل, وبلا أدنى قدر من الشفقة. والغريب إن ما عجز ناظم كزار؛(البعثي العلماني)!! عن فعله قبل هلاكه, قد(حققه) له بعد أربعين سنة, الحشد الشيعي الإيراني الطائفي الإجرامي. ولكن هذه المرّة لم تكن تكريت هي المستهدفة فقط, بل كلّ مدينة وقرية سُنيّة على امتداد العراق, وكأن روح ناظم كزار قد تلبّست في أجساد؛ الهالكي والعامري والخزعلي وصولاغ والفياض وأبو درع وأبو عزرائيل,...ألخ, وفق عقيدة(تناسخ الأرواح), التي تعتقد بها بعض فرق الشيعة!!.
................................
* في تلك الأحزاب, قد تجد الجندي مسؤولاً عن الضابط, وفرّاش المدرسة مسؤولا عن مديره, والممرض مسؤولا عن الطبيب. وهذا من شأنه أن يؤدي لتدمير المجتمع, فيستوي الذي أدنى بالذي هو خير, بل قد يفوقه!!. فمثلاً؛ كان ناظم كزار وهو بدرجة مدير عام, هو المسؤول الحزبي لوزيري الدفاع والداخلية!!. وهما يتقدمانه؛ رتبة ومنصبا وتاريخا وعمرا.
** كانت خطة ناظم كزار مركبة ويمتزج فيها الخبث بالدهاء. فمفرزة القناصين المكلّفة بالاغتيال, وهي بأمرة الملازم الأول محمد مطر(من أهالي الفلوجة), كانت هناك مجموعة أخرى قريبة منها مكلفة بتصفيتها فور إنهاء عملها, لدفن سرّها معها. وهذا المغفّل؛محمد مطر, آخر من يعلم!!.
*** لا أدري كيف اجتمع النقيضان؛(درويش الحزب وناسكه ومفكره)!!,كما يصفوه, مع مجرم أولغ في إجرامه مثل ناظم كزار؟!!. ولكن في الأحزاب الثورية, ومنها حزب البعث, تقوم التكتلات على نوازع فردية ومصالح ذاتية وأطماع شخصية, ويجمعهم النفَس التآمري على رفاق آخرين من باب الحسد أو الحقد, من المفترض إنهم في مركب واحد. ولكن كل واحد منهم يحوك الدسائس والمكائد لغيره, فتحسبهم جميعاً, ولكن قلوبهم شتّى.
**** في الوقت الذي كان ناظم كزار يطلق تهديده ووعيده على تكريت, كان العديد من أبرز رجالها وقادتها قد أصابتهم لعنته وعذابه. فقد ساق اللواء رشيد مصلح التكريتي إلى المقصلة بتهمة باطلة. ولاحق الفريق الطيار حردان التكريتي إلى منفاه ليقتله غيلة وغدرا. ويُنزِل أشدَّ العذاب الجسدي والإذلال النفسي وبإشرافه المباشر, بحق رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيى التكريتي, ليخرج بعد سنوات من(قصر النهاية), فاقد البصر ومحطماً, وليموت في بيته قهراً وكمدا. ثم ختم كزار سجلّه الإجرامي بقتله الفريق حماد شهاب التكريتي وزير الدفاع بأخسّ الطرق, فعندما حاصرته القوات العسكرية برّاً وجوّاً قرب الحدود الإيرانية وهو في رحلة هروبه الأخيرة, في تلك اللحظات الفاصلة بين الموت والحياة, والتي لا يفكر فيها الإنسان السويّ إلاّ بالنجاة بنفسه, ولكنه تجاوز كل ذلك, ولم يعد يشغله سوى أمراً واحداً؛ فأسرع إلى السيارة التي يحتجز فيها الفريق حماد وآخرين معه, وليقتله وهو مقيّد بالأصفاد, برصاص مسدسه !!. فأيّ حقد يحمله هذا المخلوق على تكريت وأهلها ؟!!!.
3170 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع