محمد حسين الداغستاني
قراءة في نصوص الشاعرة رمزية مياس -إبتهالات الوجد في محراب الحزن النبيل
نشرتُ في العام ٢٠٠٧ مقالاََ نقدياََ تناولتُ فيه المجموعة الموسومة (سحر) لرائدة الكتابة النسوية في كركوك الشاعرة رمزية مياس، ومنذ ذلك الحين ولغاية هذه السنة ، قطعتْ الشاعرة مسافة حافلة بالعديد من مجاميعها باللغتين العربية والتركمانية التي افاضت بها على المشهد الادبي والشعري ، وكنتُ آنذاك قد أخذتُ على اسلوبها التقريري والمباشر والبساطة المتناهية في مضمونها البنيوي ، وتعذر خلق حالة التوتر والشحن اللذين لابدّ منهما لتنويع وإثراء نصها الرومانسي الذي كانت تسعى الى بلورته بدأب واضح ، إلا انه يجب الإقرار بأن الأعوام التالية صقلت من ادواتها الشعرية وأضافت إلى تجربتها الأدبية زخماََ متدفقاََ، وبات نصها زاخراََ بالصور الحية، ومثقلاََ بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية خاصة عقب رحيل نجلها المهندس الشاب الى الرفيق الأعلى في العام الماضي فكان للحدث الصادم وقعاََ مدوياََ وعميقاََ عليها، فكرست جلّ انتاجها لمناغاته واستذكار سويعاتهما الحميمة والمفعمة بالسعادة المفقودة :
نبرات صوتك الرخيم الاتي..
من المنفى البعيد .
كغنوة رقيقة تلامس هلوساتي..
تشاكس هواجسي وتبعثر اشلاء ذكرياتي..
تدعوني الى ادراج ذهبت بها الرياح العاتيات..
تتسلق كاللبلاب على شرفاتي..
وتقتحم منافذ خلواتي..
تلوح اعواد النور من بعيد ..
وتغازل في غسق الليل نجماتي .
تهديني قمرا ..
وسوارا من زمرد ..
وتتوجني سوسنة بين الاميرات…
لقد بدا واضحاََ ان رمزية مياس وهي الأم المفجوعة تخوض في نتاجاتها المتأخرة نتيجة مأساتها الاليمة تجربة شعرية عريقة لكنها مريرة وهي تنأى بنفسها عن النمط التقليدي في تناول القضايا الاجتماعية التي تتصدى لها عندما تضيف الى التراث الشعري المعهود لادب كركوك محصلة نوعية تتمثل بشعر الرثاء، فتثير في الاذهان المساحة الواسعة لهذا الجنس الشعري الذي برز قبل الاسلام في شعر الخنساء ثم وعلى امتداد عصور صدر الإسلام و العباسي والاموي وصولا الى احمد شوقي وحافظ ابراهيم والاخطل الصغير، مراثي مثقلة بالتوجع ومليئة بالتأوه وتعكس الرثاء الصادق الملتاع والجزع من مآسي فقدان الاحبة وفيض الحنين إلبهم ، وهي ذات الأحاسيس التي تنبري لترثي ابنها البكر في بوح فريد تجمع به بين سعادة الأم بمولودها لحظات حركاته داخلها قبل مولده وبين لوعتها وهي تفقده الى الأبد بعدما صار رجلا بالغا يضج بالحياة والحيوية :
تعاهدني على البقاء والوفاء
وترحل دون وداع مع سبق الاصرار
الى اين ؟
ومازلت تلعب وترتع في الأعماق
وتركل بقدميك كريات دمي
في ساعات الفراق.
ليس في سمة البساطة في البنية اللغوية التي تضم نصوص رمزية المتأخرة ثلمة على نتاجها الابداعي ، فإستخدام لغة الحديث اليومي شائع ومعروف لدى جمهرة واسعة من الشعراء العرب المهمين كالشاعر أمل دنقل وخاصة في ديوانه ( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، كما أن عدداًَ من النقاد وجدوا ان الشاعر نزار قباني أيضاََ كان يتقصد الكلام العادي في العديد من قصائده واستدلوا بقوله (قد أصل في خطابي الشعري الى مستوى الكلام العادي وقد أتهم بالنثرية حيناََ وبالتقريرية حيناََ آخرا لكنني لا أغضب مما يقال لأنني لا أعتقد ان الفاصل بين الشعر والنثر سوف ينهار عما قريب، كما إنهار جدار برلين) !. إلا أن ميزة نصوصها الرمزية تفيض بنغمة الحزن الدافقة بحيث صارت تلفت الانظار، بل يمكن التأكيد على ان احاسيس الأسى باتت تشكل محوراََ أساسياََ في معظم كتاباتها وهي ظاهرة تبصم الشعر العربي الحديث عموما لاسباب لا يتسع الَمجال لإيرادها هنا. وعلى اي حال فإن الكثير من النقاد يرون ان الكتابة النثرية هي أقرب الى طبيعة المرأة لحاجتها الى البوح السردي والتخفبف عن وطئة الوقائع الحياتية التي تمر بها وحاجتها الى التعبير والتنفيس عن مكبوتاتها بدقة واسهاب :
تزحف رمال الذكريات كل مساء
اتكيء على عكازة الاحزان
الاشواق كالأشواك
أجلد القلب بسياط الاوهام
هجرتني بصمت
وانا بعدك اجرجر الأيام
احترق بلا دخان
انوح كالحمام
واغرق في بحور الدموع
واذوب كالشموع !
وعلى العموم فإن رمزية لو إستطاعت ان توظف لغتها الشعرية بعفوية معتمدة على خزينها الثري والمرادفات المتكررة وتجربتها الشعرية المديدة وذلك بالتخفيف عن استعمالها للقافية بشكل غزير والابتعاد عن السجع المقصود لكي لا يتحول النص الى قطعة نثرية ، ستنجح في الارتقاء بالنص الى مستوى إبداعي يتصف بالمتانة اللغوية ويمنح سبكها الشعري حرية أوسع وينتشل المضمون من الرتابة والقصدية :
أربت على كتف النفحات اليتيمة
أكتبها على صفحات السحاب
انحت رسالة يتيمة
على وجه القمر الشاحب
أسقيها بكأس الدمع المنهمر
أرميها في زوبعة بحيرة لجية
اودعها في زوارق ورقية
تتقاذها الموجات العتية
وتضيعها الموجات العصية..
وليس غريباً أن يستهوي هذا النمط الشعري ، وهذا الإيقاع الحزين مساحة واسعة لدى القراء ويستميل نفوسهم ويجدون فيه إنعكاساً يلامس معاناتهم نتيجة الظروف الحياتية العصيبة التي يمر بها مجتمعنا ، وهذا ما دفع رمزية مياس الى نشر العديد من النصوص الرثائية التي كانت ايضا يشكل تنفيساً لما يعتمل في نفسها من مشاعر العزلة والصمت الذي يلف وحدتها في خريف العمر :
الهواجس تختبيء في صومعة النسيان
تصارع صخب الشتاء
السماء تمطر زخات مبتورة
حنجرة البلابل مقطعة
فصول العمر كئيبة
وملامح الفجر في جب عميق
لم اعد أصدق اساطير الأعتذار
احترقت قصاصات أمنياتي
في يوم عاصف
استتر في صومعة الصمت الرهيب
البس معطف الكهولة
واتوارى خلف جدار الخريف
وفي خضم هذا السيل المتدفق من الوجع تتقاطر الكلمات النابضة بين آونة وأخرى بالود الجميل ، تلامس الوتر الحميم في نفس المتلقي :
باقات زهورك الفواحة
وقمصانك الملونة
محفوظة في خزانة صدري
تغازلني ، تسامرني كل مساء
يتبخر صقيع احزاني
اكتب قصيدة مبتورة
على اكمام قميصك الحريري الابيض
اسحب خيوطه
انسجها بخيوط مذهبة
اطرزها بحرف النون
اصنع منه ثوبا
لألبسه يوم القاك
وتمضي رمزية في مشوارها ملتفتة الى ما حولها لترصد ظواهر مختلفة تجذب انتباهها، عابرة لهمومها الذاتية لتعود الي معترك الحياة فتثير في احد نصوصها محنة المرأة المكبلة بالمصدات والمحددات الاجتماعية في بيئة ذكورية ، فتوجه سؤالها الى أولئك الذين يحجبون عنها فرص التعبير عن إنسانيتها ودواخلها، ويجهدون في كتم تلك البذرة المهيئة للإنبثاق والنمو :
لاني خبأت وردة حمراء بين اوراقي
حكموا بمصادرة دفاتري واقلامي
لاني نسقت حروف قصيدة الغزل
حكموا بقطع اصابعي
لاني قبلت عيون القمر
حكموا علي بالوقاحة
فبأي حكم تقاضون حلمي ؟
يقول جبرا إبراهيم جبرا في معرض وصفه للمرأة الصلبة التي تقارع الخطوب وتتحدي الصعاب بانها ( تلك التي رأت من الحياة ما رأت وبقيت على كبريائها تقاوم ) ، ورمزية مياس في حياتها وشعرها لم تتخلى يوما عن هذه الخصلة الأصيلة .. مقاومة الحزن بالكبرياء !
2906 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع