سيف الدين الدوري
نوري باشا السعيد بعد ٦٤ عاما على مصرعه ونهاية الحكم الملكي في العراق ١٩٥٨
إن تاريخ الشخصيات السياسية المتميزة، ونشاطهم أمر جدير بالاهتمام ، ونوري السعيد أحد هذه الشخصيات ، فكان مالىء الدنيا وشاغلها فقد قضى نصف قرن من حياته في عالم السياسة، إذ كان خلالها أكثر رجال الساسة العربية دهاءا ونفوذا وأمضاهم كلمة وأشدهم قوة وصلابة، كانت شخصيته نادرة في التاريخ العراقي المعاصر، إذ حاول نوري السعيد أن يحقق ذلك التوازن الشديد بين المصالح البريطانية والمطامح الوطنية للشعب العراقي ، وبين أبناء العشائر وأبناء المدن ،كما لعب دورا مميزا في تسيير دفة الحكم الملكي والنهوض به، بالرغم مما شاب تلك الفترة من عقبات وعثرات وإنقلابات وإنتفاضات، إتسمت بالسخونة والتصفيات الجسدسة أحيانا.إلا أن خاتمة هذا الرجل موضع كتابنا كانت فاجعة هائلة لم يسجل التاريخ قبل ذلك لها مثيلا في فضاعتها.
إن دراسة نوري السعيد في قيادة السياسة في العراق لحقبة تقارب أربعة عقود من الزمن وكذلك سلوكياته وأفكاره مسألة أساسية لفهم تأسيس دولة دستورية ناشئة إذ كان نوري السعيد رجلا ذكيا يتمتع بكاريزما هائلة أي جاذبية فعالة، وهو سياسي مستبد ومحنكّ وعنيف مع أعدائه يتمتع بذكاء متميز في المناورات والمؤامرات السياسية غالبها في الخفاء كما له القدرة الفعالة التي أرهبت الكثير من الساسة العراقيين الذين لم تكن لديهم القدرة على مواجهة كاريزمائية قوية، خاصة حينما كانت مدعمة من قبل الادارة الانكليزية بل ويمثلها . أعجب نوري السعيد بسعد زغلول الشخصية الوطنية العربية في مصر، وكان يرى في الزعيم التركي كمال أتاتورك بأنه فلتة من فلتات التاريخ لا يجود الزمان مثله بسهولة.
كان أسلوب الأقناع سلاحه الناجح في السياسة وخارجها ويشهد بذلك المعارضون من مواطنين وأجانب على حد سواء. كان يستعين في مناقشاته بالمزح والدعابة حتى في مجالات السياسة للرد على المنتقدين.كانت قوة ذاكرته تسعفه على الدوام إذ كان يتذكّر خصائص أغلب من يقابلهم وظروف المقابلة حتى لو مرّت عليها سنون طويلة. وكانت كذلك النكتة وسرعة الخاطر تسعف نوري السعيد في مواقف عديدة.
لقد إحتل نوري السعيد طيلة هذه الفترة موقع القائد السلطوي الأبوي في قيادة الخطوط العريضة لسيرورات الحكم في العراق وبسبب توافق طموحاته مع رغبات الإدارة الإنكليزية، تمكّن من أن يتولى هذا الدور، وقد قَبِلَ الكثير من أفراد المجتمع العراقي بدوره المستبد، كما ان الفكر السياسي عامة خضع له، وإجتذب الدور الذي تولاه الكثير من السياسيين والإداريين، فإستسلموا له أو سايروه. فقد إرتبط إسمه بالبريطانيين إرتباطا وثيقا، فهو الذي ثبتّ السيطرة البريطانية على العراق بمجهوده ومناوراته، فكانت لا تسقط حكومة عراقية أو تشكّل أخرى إلا برأيه ، فهو محور كل شيء، ويعتقد غالبية العراقيين أن معظم الساسة الذين لعبوا دورا على المسرح السياسي العراقي هم تلامذة نوري السعيد، فقد كان مدرسة سياسية قائمة بذاتها تفرز شخصيات تدور في فلك المبادىء والآراء التي يؤمن بها، وقد أحاطت بشخصيته هالة لا تقتحم تتميز بالرهبة يخشاها الجميع عراقيون وعرب.
لقد كانت شخصية نوري السعيد غامضة ومهيبة تثير خيال السامعين وتطرح صورا مرعبة في أذهانهم ، فقد كان عارفا وخبيرا بأخلاق ونفسيات الساسة المحيطين به والمتسابقين الى إقتناص المناصب والثروات، فيعالجهم ويمسك بخناقهم حتى يروض العاقين منهم، فلا يشذّ أحد منهم عن خططه ونواياه وأهدافه، ومن يشذّ عن ذلك يحيك له نوري السعيد مؤامرة خلف الابواب المغلقة تليق به فيلوي يده ويضعه في مكانه الطبيعي . فقد كان قاسيا لا يرحم خصومه فقد أتهم بقتل عدد من السياسيين المعارضين له وقيل انه المحرّض على مقتل توفيق الخالدي سنة 1924 الذي شغل منصب وزارة الداخلية والذي كان يطالب بالجمهورية ويعارض العائلة الملكية والمتهم بقتل الضابط المتقاعد شاكر القره غولي أحد رجالات نوري السعيد والذي قيل أنه كان يستخدمه لتصفية خصومه السياسيين، كما حامت حول نوري السعيد تهمة مصرع الملك غازي إنتقاما لمقتل جعفر العسكري .
لقد عرف نوري السعيد قوة وضعف الشعب العراقي فإستخدم الثغرات الكامنة فيه ببراعة وإلتفّ عليه وسخرّه لتنفيذ أغراضه، فَخَلَقَ حوله فئة من المسبحين بحمده واللاهثين وراء المناصب والجاه والثروة. لقد كان نوري مدرسة فريدة ونسيج وحدة لها نهجها وأسلوبها وطرقها في تخريج التلاميذ وصياغة الآراء، فلا حاجة به لتلقين أحد ممن إنتموا الى تلك المدرسة ما يجب أن يفعله، فهم يعرفون غاياته فينفذونها دون عناء أو إرشاد أو توجيه.
كان نوري السعيد شابا وسيما ضعيف البنية معتدل القامة لا يوجد من ينكر ذكاءه وفطنته وقوة ذاكرته وثقته العالية بنفسه وبساطته ووفاءه وكرمه وروحه المرحة وحبه للنكات وطرائف الامثال، لذا فأنه كان أيضا أنيسا لطيف المعشر الأمر الذي جلب اليه أنظار الصحافة الغربية في وقت مبكر ففي عام 1932 كتبت عنه مجلة- النيرايست- اللندنية أن( نكاته محببة وعابثة بحيث يجد فيه الجليس رفيقا أنيسا) وفي الوقت نفسه كان نوري السعيد حاد المزاج سريع الغضب وسريع الانفعال أحيانا والى حد التهور حسب وصف التقرير البريطاني عن الشخصيات العراقية ومع ذلك كان صبورا في أحيان كثيرة يتحمل النقد اللاذع، وقلما عاصره حاكم شرقي تمتع بنفوذه وموقعه . وكان شجاعا وحازما فقال عنه لورنس أن ما تحلى به نوري السعيد من شجاعة وثقة ورباطة جأش هي التي جعلته زعيما مثاليا متميزا. وأضاف ( أكثر الرجال يتكلمون بسرعة حين إطلاق النار وتبدو على تصرفاتهم علائم الإنفعال،أما نوري السعيد فقد كان يزداد هدوءا)
وكان نوري السعيد يستيقظ عادة الساعة السادسة صباحا ليستمع الى نشرة أخبار(صوت امريكا) ومن ثم يتناول قهوته ثم يبدأ الجولة الاولى من إجتاماعاته مع وزرائه عبر الهاتف ثم يعود ليتناول فطوره المكوّن أساسا من البيض . ثم يمشي على قدميه على الجسر الذي يربط بين الكرخ حيث مسكنه والرصافة حيث مكتبه في دار السرايا و ما يسمى بالقشلة الكائن على نهر دجلة.
وكانت الخطوة الاولى لنوري السعيد هي أعطاء التوجيهات بخصوص كيفية الرد على رسائل الحكومة ،ويكتب بخط يده رسالة الى أحفاده في إحدى المدارس الخاصة في إنكلترا، ثم يعود الى منزله بحلول الثانية ظهرا ليستمع الى نشرة أخبار الـبي بي سي قبل ان يتناول الغداء وينام مطولا خلال فترة الظهيرة. وفي حال كون الجو جيدا في بغداد فأنه يتناول الشاي في باحة حديقته وهو يتابع سرب البط وهو يسبح في مياه دجلة.
وكان يقضي بقية يومه في منزله مع مجموعة من أصدقائه ومع مسؤول الإعلام خليل إبراهيم ومع وزير الاعمار ضياء جعفر وكذلك مع وزير المالية خليل كنة.كما كان نوري السعيد يزور القصر الملكي عدة مرات في الأسبوع الواحد من أجل تبادل وجهات النظر مع الوصي الامير عبد الاله، كما يزور وزارة الدفاع التي طالما كانت مكتبه الامين . إلا أن اهتمامه في الآونة الأخيرة من حياته تحوّل الى مجلس الاعمار.
كما شكلّ نوري السعيد مجلسا من القضاة للنظر في قضايا الفساد الإداري والمالي تحت عنوان( من أين لك هذا) وقد أسفر عمل لجنة القضاة هذه عن فصل حوالي 300 مسؤول في الدولة عن مناصبهم بينهم 7 محافظين.
كان نوري السعيد من الرعيل الأول الذين أسسوا المملكة العراقية الهاشمية والذين ساندوا الملك فيصل الأول في الجهاد. كما أنه عاصر الملوك الهاشميين ،وهم الملك فيصل الأول ثم الملك غازي وأخيرا الملك فيصل الثاني. وقد إستمر في خدمة العرش الهاشمي الى النهاية سواء في الحكم أو خارجه إذ كان يعتبر نفسه مسؤولا عن تنفيذ الخطط المرسومة التي تحافظ على سلامة العراق وعرشه.
ومما لا جدال فيه هو أن التربية العسكرية كان لها أكبر الأثر في تكوين شخصيته، فكانت البساطة واضحة في مظهره وتصرفاته وطريقة معيشته، ولم يكن في يوم من الأيام يكترث بالعظمة والابهة.
كان يقوم مبكرا وبانتظام وكأنه في ثكنات الجيش فيذهب بنفسه الى المطبخ دون أن يوقظ زوجته أو الإستعانة بالخدم ليجلب لنفسه ماء الحلاقة الساخن وكوب الشاي المعتاد. وفي السنوات الأخيرة كانت تلحق به قطته المفضلة فيقدم لها الحليب بنفسه في إنائها الخاص، ثم يتجه رأسا الى حجرة الراديو ليستمع لكل ما يدور حول العالم قبل الذهاب الى دائرة العمل.
كان نظرا لكثرة مشاغله قرر نوري السعيد في السنوات الأخيرة أن يكتفي بإستقبال الضيوف وأصحاب الأعمال رسميا في مكتبه برئاسة الوزراء إلا في الأحوال الإستثنائية أو عند إقامة دعوات رسمية. ورغم ذلك ظلّ باب مكتبه في المنزل مفتوحا على الدوام لعدد من السنين، من بينهم ضباطا قدماء من زملائه كالسيد توفيق السويدي والحاج منير إذ كانوا يواظبون على الحضور عصرا في أغلب الأيام لإتقاء شر الوحدة في منازلهم ،وكانهم من أفراد العائلة. كان يحييهم ويلاطفهم من حين لآخر وهو يتصفح الجرائد أو يستمع الى الراديو. ويشترك أحيانا معهم في الحديث عندما يحتسون القهوة أو يأكلون بعض ما لذّ وطاب.
كان يعامل الخدم والحراس بكياسة وتواضع ويمر في الأسواق بديمقراطية ملحوظة فيرحب بقدومه صغار التجار، إذ كان يحييهم ويداعبهم أحيانا ويسألهم عن أحوال السوق، ويختار بنفسه الفواكه التي يشتريها منهم، ويقال أن هذه الفئة هي أكثر من إفتقدته بعد الإنقلاب .
نوري بأشا السعيد
-------------
هو نوري بن سعيد بن صالح بن طه من وجوه عشيرة ألقره غول، ولد في بغداد يوم الاثنين الثاني من كانون الثاني عام 1888 من عائلة، إختلفت الآراء حول اصولها ، حيث تشير مصادر الي أن أسرة نوري السعيد كانت تقطن أصلا منطقة طور خورماتو أو كفري، وتؤكد أخرى أن أجداده كانوا من سكنة بغداد، وأن جده الأكبر كان يدعى ملا (لولوا)، قد سكن مدينة بغداد منذ ثلاثمائة سنة ونيف.
وكان لولوا فخورا بأن لديه مسجدا في العاصمة العراقية بغداد وقد تولى مسؤولية القيام بشؤونه ،فكان بمثابة الوطن بالنسبة اليه.
ففي أحد الايام كانت بغداد على موعد كعادتها مع الغزو الفارسي، الذي إستهدف تحويل مساجد بغداد الى إسطبلات لخيولهم. وهنا قرر لولوا في ذلك الوقت أن يشد الرحال الى العاصمة العثمانية، فمشى فعلا على مدى ستة أشهر حتى وصل الى تركيا، وقابل السلطان العثماني عارضا شكواه.وحينما سمع السلطان بما جاء به لولوا من أخبار، حتى ثار وغضب وقرر إرسال جيش مع لولوا الذي نجح بالفعل في طرد الغزاة، بعد أن وجد لولوا أن زوجته وأطفاله قد قتلوا حالهم حال العدد الكبير من سكان بغداد. ولم يكتف السلطان العثماني بالانتصار بل أكركم لولوا وخصص له راتبا شهريا قدره ليرتان، كما أرسل له إحدى حريمه الملكيات التركيات ذات العيون الزرقاء لكي يبدأ حياته من جديد وتستمر سلسلة وارثيه حتى وصلت العام 1888 الى طفل صغير حمل العينين الزرقاوين المشعتين ذاتهما وسمي تبعا لذلك باسم نوري.
ولم تتفق المصادر أيضا على تحديد نسب نوري السعيد، فمنها ما تؤكد أرومته الكردية، ومنها من تذهب الى إعتباره من أصل عربي، وتنسبه أما الى عشيرة ألقره غول البغدادية أو الى قبيلة شمر المعروفة ،إذ يقول المرحوم محمد صالح السهروردي في كتابه – لب الألباب- أن ألملا طه أفندي جد نوري السعيد كان أحد وجوه عشيرة ألقره غول في بغداد، فيما تؤكد مصادر أخرى أنه تركي الأصل، ومرد هذا الاختلاف الى أن نوري السعيد نفسه لم يشر في كتاباته الى إنتمائه، أو لعدم إكتراثه للموضوع من جانبه . فقد كان عراقيا بصورة عامة وبغداديا أصيلا، فقد قال عنه فاضل الجمالي أن نوري السعيد كان يمثل الثقافة والأخلاق البغدادية العريقة بنفس كريمة وضيافة قلبية للرفاق. بدأ حياته الدراسية لدى الملا وهو في الثامنة من عمره. وكان أبوه موظفا في دائرة الأوقاف ببغداد في العهد العثماني، وكان له شقيقان آخران هما غناوي ومصطفى . أما والدة نوري فتدعى فاطمة بنت عبد الرزاق من عشيرة أبو مفرج، وقد أنجبت فضلا عن نوري أربع بنات عاشوا في جو عائلي متمسك بالشعائر الدينية ، ويقال أن صالحا والد سعيد وجده طه كانا من خطباء جامع ألا حمدية قرب محلة الميدان . ومع ذلك كانت اللغة التركية هي لغة المخاطبة بين أفراد الاسرة ،شأنها شأن الأسر المشابهة لها. ولا شك أن ذلك ترك أثره على إمكانات نوري في اللغة العربية.
التحق نوري السعيد بأحد الكتاتيب في بغداد لتعلم القراءة والكتابة وحفظ آيات القرآن الكريم، فتعلم مبادىء الخط والانشاء والحساب وقراءة القرآن. لقد أثر التعليم في الكتاب على شخصية نوري السعيد ويرجع ذلك الى نظام الكتاب، والذي يتسم بالكبت الشديد للشخصية بالاضافة الى إسلوب المعاقبة البدنية. ولكن نوري السعيد كان ينَفِس عن هذا الكبت عندما يعود للعب في الشوارع مع أقرانه والشجار معهم، وقد أدى ذلك الى إزدواج شخصية نوري السعيد كما يقول على الوردي . تلك الازدواجية التي تميز غالبية الشعب العراقي. وعلى الرغم من تردده دخل نوري السعيد في الثامنة من عمره مدرسة الرشدية العسكرية، وذلك بتشجيع من الجنرال رجب باشا قائد الفرقة العثمانية السادسة ببغداد، ولرغبة أهله الذين فضلوا له التعليم العسكري، لانه كان مجانيا وتتحمل الدولة العثمانية نفقات الدراسة، بل أنها تدفع راتبا مناسبا للطلاب، وفي الوقت نفسه كانت العسكرية توفر للطالب فرصة ذهبية للارتقاء الاجتماعي، مقارنة بما هو متاح لهم في المهن الاخرى. وقد قضى نوري السعيد في هذه المدرسة أربع سنوات ،درس خلالها مبادىء التاريخ وجغرافية الدولة العثمانية والهندسة والحساب والصحة واللغات العربية والتركية والفرنسية. وبعد إتمام دراسته في الرشدية، دخل الاعدادية العسكرية ببغداد سنة 1899 ودرس فيها المثلثات والجبر والهندسة والصحة والفلك والجغرافية والتاريخ والدين واللغة العربية والتركية والفرنسية والانكليزية . وقد تخرج فيها عام 1902 حيث قطع نوري السعيد مرحلتي التعليم الابتدائي والاعدادي بصورة طبيعية ودون رسوب أو تعثر.(د. محسن محمد المتولي العربي، نوري باشا السعيد ، من البداية الى النهاية،الدار العربية للموسوعات،الطبعة الاولى 2005 ميلادية- 1426 هجرية ،بيروت ،لبنان ص 22-23 )
وفي سنة 1903 سافر نوري الي عاصمة الدولة العثمانية( القسطنطينية) أو الاستانة أو ما عرفت فيما بعد باستنبول لبدء دراسته الاكاديمية للالتحاق بالكلية العسكرية هناك حيث عاش في (كرفان) وهو عبارة عن غرفة مصنوعة من الحديد وصفائح الالمنيوم.، وكان يتقاسم المكان مع 72 طالبا آخر يقتربون من عمره . وقبل الوصول الى هناك كان على نوري السعيد الانتقال خلال 27 يوما الى لواء الاسكندرونة ومن ثم يصل الى تركيا فقد إستغرقت رحلته 40 يوما .
وقد درس نوري السعيد على يد ضابط الماني هو (فان لوسو) وكان وقتها ضابطا صغيرا يستعد للدخول الى الحرب العالمية الاولى. وخلال أحد الدروس كلفت مجموعة من الضباط بالهجوم على قرية مزعومة، فيما قامت المجموعة الثانية بالهجوم عليها ، وكان نوري السعيد على رأس المدافعين ، ولان التحصينات كانت قليلة في القرية، قرر السعيد من مبدأ انساني أن يسحب قواته لمواجهة القوات الهجومية خارج القرية ، وقد كان هذا لافتا وكان هذا الدرس من أهم العوامل المؤثرة في حياته.
ويتذكر نوري تلك اللحظات بالقول " قرر الكولونيل أن يوقف التمرين وقرر القاء محاضرته على مدى ساعتين ونصف الساعة قائلا( إن التحصينات دائما تكون قليلة حتى وإن أردت الدفاع عن قريتك اليوم، فان الدفاعات وأسلحتك الحديثة ستكون قديمة في اليوم التالي بسبب وجود أسلحة وتكتيكات جديدة، وأن القائد الناجح يجب أن ينجح في الدفاع عن قريته بالموارد المتاحة، المسألة مسألة واجب وطني ، ومن أجل ذلك يجب على القائد أن يستخدم عقله وطاقته بما وضع بين يديه، حتى وإن تسبب في ذلك سقوط قريته في نصف ساعة لأن بعد ذلك سيعني محاكمة ورصاصة فقط)"
ما قاله الكولونيل الالماني ظل درسا رافق نوري السعيد طوال حياته فيقول نوري" لقد أعطاني كلامه الفكرة التي خصصت لها حياتي فيما بعد، وهي أن تكون عمليا وألا تكون مثاليا . من ينتقدونني دائما يريدون مني أن أكون مثاليا ، فاذا كل شيء يأتي كما تشتهي فما نفع مصطلح( القدرة؟) هذا ما أؤمن به أن لا أكون مثاليا أستخدم ما هو تحت يديك ، لا تنتظر حتى يكون كل شيء مثاليا لكي تتحرك وتفقد في النهاية فرصتك"
إن دراسة نوري السعيد العسكرية جعلت مستواه الثقافي أرقى مما كان سائدا نتيجة لتحصيله الدراسي العالي واتقانه لغات عديدة واحتكاكه بالثقافات الاخرى ، وكانت ثقافته مسيسة الى حد كبير جدا خاصة أنه تأثر بالثقافة التركية عامة والعسكرية على الأخص، من خلال معايشته لطبيعة الأوضاع التي سادت تركيا منذ بداية القرن العشرين والتي أفرزت مكانة وسلطة حقيقية للضباط ،مما دفعه الى الولوج في عالم السياسة وتكتلاتها السرية ، كما إقتبس وتشبع بالسمات الرئيسة للعسكرية التركية المعتمدة على مبدأ القوة كأداة للتغيير، وحل لاشكاليات الحياة ومعضلاتها، حتى أمست الأتاتوركية كاسلوب المثل الأعلى له مما ترك أثره على سلوكه السياسي والاداري، عندما أدار دفة الحكم في العراق لاحقا . وبعبارة أخرى لقد كان نوري متأثرا بالعثمانية بكل ما فيها من شدة وإنضباط وتعصب، إذ كانت نشأته ودراسته وتدريباته ذات قيم عثمانية نشأ وتطبع عليها، وكوّنت النسيج النفسي والسلوكي اليومي له في حياته الخاصة والعامة.(د.محسن محمد المتولي العربي، المصدر السابق، ص 24- 25 ).
كان نوري في الرابعة عشر من عمره وبعد وصوله أليها بفترة قصيرة، توفي والده وتولت أمه مهمة تربية أخواته . وفي أيلول تخرج في الكلية العسكرية برتبة ضابط وهو في الثامنة عشر من عمره، ثم عاد الى العراق عام 1906 والتحق بالجيش التركي السادس المرابط في العراق. ثم عاد الى استنبول ورقي الى ملازم أول سنة 1911 ثم التحق بمدرسة أركان الحرب . وعندما نشبت حرب البلقان سنة 1912 خاض غمارها في ساحة تراقيا. وعاد مرة أخرى الى العراق وكان فخورا بلباسه العسكري وبشواربه السميكة حيث عين في إحدى وحدات المشاة التي كانت مكلفة بجمع الضرائب على المواشي من العشائر الرحالة وتسمى( القوطة) وبقي في هذه الوحدة أربع سنوات ،تعرف خلالها على أحوال العشائر ومناطق سكناهم .ثم سلمت له مسؤولية بلدة حدودية مع ايران لتكون تحت أمرته وهناك التقى مرة أخرى بجعفر العسكري الذي يكبره بأعوام عدة.
في عام 1910 تزوج نوري من فتاة عراقية من عائلة العسكري وهي نعيمة مصطفى العسكري شقيقة جعفر العسكري الذي تولى منصب أول وزير دفاع في العراق في وزارة عبد الرحمن الكيلاني، قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة.المولودة في بغداد سنة 1891 وتوفيت في لندن سنة 1964 ، فأنجبت له ولدين هما قحطان الذي مات صغيرا اثر وقوعه في حفرة، وصباح الذي كان ضابطا طيارا ثم أصبح مديرا عاما لسكك الحديد العراقية سنة 1955 الذي قتل صبيحة يوم 14 تموز 1958 .
2243 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع