مع العقّاد في مقالته "حول النقد" إطلالة على أزمة النقد المعاصر

                                                   

                           خليل حمد - الكاميرون*

مع العقّاد في مقالته "حول النقد"إطلالة على أزمة النقد المعاصر

في جو الأمسيات الشعرية والملتقيات الأدبية 1التي دأب كاتب المقالة أن يحضرها في النوادي الأدبية والروابط الثقافية بالقاهرة، تيسّر له التعرّف على الكثير ممن شهد جيل العقاد وطه حسين والزيات و محمود شاكر والرافعي ، واستفاد من بعضهم2.

وفي هذه البيئة الفكرية الثرية تمكّن من الاطلاع على بعض تراث العقاد في الميادين الأدبية والفكرية، كما قام بزيارة بلدة العقاد ( أسوان)، والتعرف على جوانب من حياة العقاد الاجتماعية والثقافية؛ و تفرّغ لقراءة شيء من كتبه و مقالاته.

و سبق للكاتب أن فاز – ضمن العشرة الأوائل - في مسابقة أدبية بالقاهرة 2005م عنوانها "العقاد ومقالاته عن شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي-دراسة أدبية تحليلية في20صفحة"، نظمتها إدارة رعاية الشباب بالأزهر عام 2005.

و تناولت في رسالتي للماجستير- التي نشرت في دار حميثرا بالقاهرة-:" المقال الأدبي عند العقاد جمعا و دراسة"، حيث وقع الاختيار على بعض مقالات العقاد الأدبية والنقدية ، فسارت الدراسة التحليلية بعد اختصار المقالة المختارة قدر الممكن ، مع توخّي سلامة المعنى ووضوح الفكرة و قصد الإيجاز في اللفظ.
و يسعدني أن أشارك قراء مجلة" الكاردينياAlgardenia" بنظرات عابرة على "أدب المقالة "عند العقاد.

لمع اسم العقاد في ربوع العالم العربي و الإسلامي، حتى صار من نافلة القول أن يتساءل المثقف العربي العادي في هذا العصر: من هو العقاد؟
فقد ملأ العقاد عالم الأدب و الفكر و شغل الناس بكتاباته و معاركه النقدية و القضايا التي تناولها أو أثارها، و اضطلع بمهمة عظيمة في صالح الدراسات الأدبية والنقدية.

و لفظ"الأستاذ" كاد ينحصر إطلاقه- في مصر-3 علماً على عباس محمود العقاد، أديب وناقد وشاعر ومفكر وباحث فليسوف مصري ، ولد في 28 يونيو 1889م، وتوفي العقاد في 12 مارس 1964م، ومصر تحت تأثير هزيمة النكسة القاسية، والتي أحس العقاد بمقدمها يوما ما قبل أن تطويه عزلته عن السياسة مع شعب من حوله كان بين مطرقة الخوف وسندان النفاق.

كان للعقاد أعمال أدبية تندرج تحت فنون كثيرة، فقد قال الشعر وأكثر، وشارك في تنشيط الحياة النقدية في عصره، وكتب مقالات متعددة في موضوعات متنوعة.

ولم تشغله المقالة السياسية عن المقالة الأدبية والعناية بالأدب وفنونه ، ويتقدم الزمن فإذا به يكثر من المقالات الأدبية في صحيفة "البلاغ" ثم تصدر هذه الصحيفة ملحقا أسبوعيا فيغذيه بمقالاته، وقد بدأ اتجاهه في الأدب والنقد يظهر ويتسع ليكون بعد ذلك فكرا قائما بذاته يتعدى حدود لينتشر في ربوع العالم العربي كله.

و خلف العقاد ثراء أدبيا وفيرا، وإرثا فكريا راقيا، ومؤلفات ثقافية متنوعة، إلى جانب أعداد هائلة من المقالات المتنوعة في الآداب و الفكر والعلوم والتراجم والسير والسياسة، و لا تخفى إسهاماته في تناول الشخصيات التاريخية لا تؤذن بحصر، إضافة إلى كونه المؤسسَ الحقيقي لمدرسة الديوان النقدية في الشعر العربي.
مقالة"حول النقد4" للأستاذ العقاد

من المعروف عن الناس جميعًا أنهم يميلون إلى الثناء والتقريظ، وينفرون من الذم والانتقاد، وحب الثناء في جملته خصلة حسنة محمودة العاقبة؛ لأنه يدعو إلى طلب الكمال، وما لم يكن نزوة من نزوات «الأنانية» العمياء، ولكن كراهة النقد ليست بصفة محمودة في جميع الأحوال؛ لأنها تنطوي على أخطاء كثيرة تدل على ضيق العقل، كما تدل على ضيق الخلق وضيق المجال.

أول هذه الأخطاء: اعتقاد المرء أن الناقد أفضل دائمًا من المنقود.. وقد يكون المنقود أفضل من الناقد فيما يتعلق بذلك العيب وفيما يتعلق بسواه. والحقيقة المُشَاهَدة أن الناقد لا يكون
أفضل من المنقود في عيوبه، ولا أقدر منه على عمله المنتقد ولا على سائر أعماله. كل منا يستطيع أن ينظر إلى بيت من البيوت فيرى أنه سخيف البناء غير صالح للسكن، ولكننا لا ندعي لهذا أننا أقدر على البناء والهندسة من بانيه ومهندسه..

وقصة المصور الصيني معروفةٌ: كانت له صورة يعرضها ويتوارى خلف ستار المصنع ليستمع إلى أقوال الناظرين إليها، وكان منهم إسكاف عاب شكل الحذاء؛ لأنه لا يطابق القالب المخصص لصنعه، فأخذ المصور بملاحظته وأصلح عيبه كما اقترح الإسكاف، وعاد هذا في اليوم التالي فأطمعه التفات المصور إلى رأيه وأكثرَ من الملاحظة على أجزاء الصورة من الرأس إلى القدم، فبرز له المصور..: إنك أحسنت فيما عرفت، فلا تُسِئ فيما تجهل، وقِفْ بقدميك على حذائك ولا تزد عليه. ومهما يكن من إحسان هذا الناقد في ملاحظته، فهو إحسان كلام لا إحسان عمل..

فالناقد يبدي ما يشاء من العيوب، ولا يجعله ذلك أفضل ولا أقدر على إصلاح العيوب من صاحب العمل إذا كره الاستماع إليه أنفةً من التسليم له بالتفوق عليه،.. ويحسن بالناقدين والمنقودين جميعًا أن يذكروا أن القدرة على إظهار العيوب أسهل جدًّا من القدرة على إظهار الحسنات؛.. وما برحتْ معرفة العيوب قريبة إلى أصحاب العيوب، ومعرفة الحسنات عسيرة على غير أصحاب الحسنات.

ومن أخطاء الكارهين للنقد أن كراهيتهم تنم على ضعف الثقة بالنفس كما تنم على ضعف الثقة بالناس، وضعف الثقة بالقيم الأدبية، وكل قيمة من قيم التقدير والكرامة.

فالرجل الذي يعرف عمله لا يضيره أن يجهله غيره، والرجل الذي يملك ثروته ويأمن عليها لا يضيره أن يحسبه هذا أو ذاك في عداد الفقراء..
فليس أدل على ضعف الثقة بالنفس من خوف النقد واتقاء المزاعم، كذلك يدل على ضعف الثقة بالناس أن يحسبهم الكارهون للنقد ألعوبة يلعب بها كل ناقد، وأرجوحة تميل بها الأهواء مع كل جاحد وحاقد. وما كان في وسع أحد قط أن يلعب بآراء الناس كافة، وإن وسعه أن يلعب بآراء القليلين منهم إلى حين، وقديمًا قيل ما قيل عن نوابغ الدنيا وعباقرة الأزمان، فذهب القيل والقال، وبقيت مآثر النبوغ والعبقرية ساطعة سطوع الشمس، راسخة رسوخ الجبال.

.. ولسائل أن يسأل: لماذا يحرص الإنسان على سمعة لا قيمة لها؟ وما قيمة السمعة التي لا تحفظ نفسها بنفسها؟ وما معنى الخوف على قيمة محفوظة يراها العارفون فلا يخلطون بينها وبين الأعراض والقشور؟

.. إن خوف النقد عادة غير محمودة العاقبة في جملتها، عادة لا يؤمن صاحبها بحقه على نفسه، ولا يؤمن بحق مرعي لغيره،.. فالكاره للنقد يخطئ في خوفه من النقد الصواب ينفعه وينفع الناس، ولا يصغره في نظر نفسه، ولا يفهم منه حتمًا أنه أقل قدرًا وأضعف قدرة من ناقديه.

وهو يخطئ في خوفه من النقد الخطأ؛ لأنه يحجر على آراء غيره، ولا يرى لهم حق المخالفة له ولو خالفوه مخطئين، ولعله يخطئ سبيل العزاء في الحالتين، فحسبه من عزاء لو شاء أن يتعزى أن ينظر إلى ناقديه: هل سلموا من النقد؟ وهل وافقهم الناس على كل ما قالوه؟ وهل
يرى بين الناس أحدًا يرضى عنه جميع الناس كائنًا ما كان شأنه، وبالغًا ما بلغ من العلم والرفعة ومحاسن الأخلاق؟

قال الحكيم الأندلسي ابن حزم — الملقب بإمام النقاد: «من قدَّر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون، ومن حقق النظر وراضَ نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمة؛ كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه.»

.. وأما ذم الناس إياه، فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سببًا إلى تجنبه ما يعاب عليه. وهذا حظ عظيم، وإن كان بباطل فصبر اكتسب فضلًا زائدًا بالحلم والصبر.

وأحسن الحكيم فيما قال وفيما علل، ولو شاء لزاد عليه أن الاغتباط بالذم كثيرًا ما يكون من قبيل الثناء المعكوس، وإنه لثناء معكوس لا رياء فيه إذا صدر عن حسد ورغبة في إنكار الفضل الذي يشعر به الحساد، فيحاولون إخفاءه بالذم والإنكار، وربما كان إنكار اللئيم أبلغ في الشهادة لصاحب الفضل من ثناء الكريم. ولقد كان ابن حزم مبتلًى في زمانه بحسد الحساد، فأثاروا عليه الخاصة والعامة، وأحرقوا كتبه، وحرموا قراءته، فقال:

لئن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي*ملأت به القرطاس بل هو في صدري

ثم بقي ابن حزم في كتبه المأثورة وزال حاسدوه، فلا يذكرهم الناس إلا إذا ذكروه ليصغروهم ويكبروه.

.. وأشفق بعضهم من التأليف؛ لأنه يجر إلى القدح والتعنيف، لا بل جاء في الأمثال أن من أراد بعدوٍّ سُوءًا فليزين له تأليف كتاب، أو تحبير مقال.

فإن صح هذا المثل فهو صحيح على شريعة السيد المسيح: «أحبوا أعداءكم، وباركوا لَاعِنِيكم.» فمن تمنى لعدوه أن يُؤلِّف، فتلك أمنية صديق لصديق، أو أمنية عدو لعدو محبوب.
نعم، وكالتأليف في أمر النقد كل عمل باقٍ تبنيه الهمم والعقول، وتقول فيه الألسنة ما تقول.

تحليل نص من مقالة "حول النقد" المختارة

نشرت المقالة في مجلة "الشهر" بالقاهرة، في فبراير 1959م

يضع العقاد في هذه المقالة الأدبية المعايير العلمية و الفنية لطبيعة النقد، ودوافعه كما يوضح طبيعة الناس تجاه النقد. فالمقالة موضوعية يتناول الكاتب من خلالها تحليل طبائع الناقدين والمنقودين، من ذلك أنهم ((يميلون إلى الثناء والتقريظ، وينفرون من الذم والانتقاد)) ، وإنما مخطئ مَن يكره النقد، فليس ذلك بصفة حسنة.

وبعد المقدمة أخذ يفصل القول ويناقش القضية بمراياه النقدية الخاصة، فذكر وجوه خطأ الكاره للنقد عادة، وعدّ منها: ((اعتقاد المرء أن الناقد أفضل دائمًا من المنقود..))، ووجه الخطأ أنه لا يلزم من النقد
تفوق الناقد على المنقود، بل هو رأى آخرلم ينتبه له صاحبه، ولا يعني ذلك أنه قادر على الإجادة لمجرد الملاحظة؛ لأنه إصلاح لفظي، وليس بعمل قام به.

فهذا الصيني المصور يعرض الصورة ويختفي خلف ستار ليسجل ملاحظات المشاهدين، فعاب إسكافي شكل الحذاء؛ لأنه لا يطابق القالب المخصص لصنعه. ((فأخذ المصور بملاحظته وأصلح عيبه))، مما أطمعه إلى تكلف النقد فبرز له المصور، وقال له: ((إنك أحسنت فيما عرفت، فلا تُسِئ فيما تجهل، وقِفْ بقدميك على حذائك ولا تزد عليه)).

ومن الأخطاء ثانيا: أن كراهية النقد ((تنم ّعلى ضعف الثقة بالنفس كما تنم على ضعف الثقة بالناس..))؛ لأن الواثق بنفسه لا يضيره جهل غيره، ولا يكبر عليه الاستماع إلى الصواب وقبول الحق، ولن يكون كالريشة تهب بها الريح حيثما اتجهت، بل يفكر ويقلب النظر حتى يهتدي إلى ما تطمئن به نفسه.

هذا، ونهاية الخوف من النقد وخيمة، ليس في أمن من يضيق بالنقد؛ فهو يخطئ أن"الصواب ينفعه وينفع الناس، ولا يصغره في نظر نفسه، ولا يفهم منه حتمًا أنه أقل قدرًا وأضعف قدرة من ناقديه"؛ كما أنه يحجر على آراء غيره، فليس في الحياة من يسلم من النقد، كما أنه ليس هناك من يوافقه جميع الناس.
استشهد العقاد بقول الإمام ابن حزم :"من قدَّر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون، ومن حقق النظر وراضَ نفسه على السكون إلى الحقائق..؛ كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه"، وإنما النقد نافع، فهو إما أن يكون صوابا فتقوم به عملك وأداءك ويزداد إتقانا وإما أن يكون بدافع حسد، فتصبر ويزيدك فضلا وكرما، [قال الشاعر: و إذا أراد الله نشر فضيلة*طويت وأتاح لها لسان حسود]. وابن حزم نموذج مثالي في الصبر على النقد المنبعث من الحقد والضغينة، حيث ابتلي"في زمانه بحسد الحسّاد، فأثاروا عليه الخاصة والعامة، وأحرقوا كتبه، وحرموا قراءته، فقال: لئن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي*ملأت به القرطاس بل هو في صدري".

"ثم بقي ابن حزم في كتبه المأثورة وزال حاسدوه، فلا يذكرهم الناس إلا إذا ذكروه ليصغروهم ويكبروه".

و عليه يقرر أن كراهة النقد مذمة وخطأ فاضح؛ لأنه يحرم النفس من الصواب، و يؤدي إلى سوء فهم للقدرات على الإبداع. ولن يستطيع أحد "ن يلعب بآراء الناس كافة، وإن وسعه أن يلعب بآراء القليلين منهم إلى حين". والشواهد كثيرة على أن العمل الجيد يبقى قائماً شامخاً ينتفع به الناس جيلاً بعد جيل، و أما الزبد فيذهب جفاء. وهذه الحقيقة تصدق في كل عمل باقٍ "تبنيه الهمم والعقول، وتقول فيه الألسنة ما تقول".
وصف العقاد أنماطاً من تصرفات الناس تجاه النقد، و بيّن جوانب الخطأ حين يتهرب المبدع من انتقاد نتاجه من قبل المتلقين؛ و قد يكون هذا نتيجة تصوّره أن الناقد – بنقده –يكون أفضل منه، أو لضعف ثقته بالنفس ، و الاستخفاف بمدى قدرة القراء الناقدين-أو بعضهم- على الغوص في أعماق النص؛ و في كل الأحوال فهو يحمل كبرياء لا يليق بمقام المبدع الفنان.

و بهذا يكون العقاد النقّاد البارع قد شخّص أحد أبرز القضايا التي تمثل أزمة النقد قديماً وحديثاً؛ و رؤيته في الموضوع عميقة و دقيقة من الناحية الفكرية والنفسية، ومن جمال التعبير قوله:" ولكن كراهة النقد ليست بصفة محمودة في جميع الأحوال؛ لأنها تنطوي على أخطاء كثيرة تدل على ضيق العقل، كما تدل على ضيق الخلق وضيق المجال".

و قد أشار العقاد إلى " اتقاء النقد" بصفته حالة نفسية في ردّه على الدكتور زكي نجيب محمود حين نشر جملةً من مقالاته في مجموعة سمَّاها باسم إحدى هذه المقالات، وهي «جنة العبيط»، فما كان من العقاد إلا أن نقده تعريف المقالة عند الغربيين فيما نقله الدكتور، وقال العقاد في نقده:"ومما لا خلاف عليه أن هذا التعريف يصدق على نوع من المقالة يزداد شيوعًا بين الغربيين كُلَّما شاعت الصحافة وشاعت معها أساليبُ الكتابة العاجلة، ولكنه لا يحصر جميع المقالات الأدبية..

فالكلمات التي تُطلَق على المقالة في اللغات الأوربية يوشك أن تُفِيد كلُّها معنى المحاولة والمعالجة؛ فكلمة Essay وكلمة Sketch وكلمة Treatise بل كلمة Study، وهي تُترجَم أحيانًا بمعنى الدراسة لا يعدو القصد منها في بداية وضعها أن تُفِيد معنى المحاولة التي يعوزها الصقل والإنجاز، وينقلونها إلى الموضوعات الأدبية على سبيل الاعتذار لا على سبيل الاشتراط، كأنهم يتَّقُون نقدَ الناقد بهذه التسمية...".5

إن"خشية النقد امتداد لحالة نفسية لازمت الإنسان منذ القدم، وهي الخوف، لدرجة الرعب أحياناً من النظر في المرآة، ففي أوروبا ساد اعتقاد في القرون الوسطى بأن النظر إلى المرآة مخيف وغير مرغوب فيه، حيث كان يُعتقد أن الشيطان هو من منح المرآة للإنسان، وهذا يشير إلى «الغرائبية والعجائبية» المتعلقة بالمرآة وعلاقتها مع الذات الناظرة، وهي ذات الصورة في علاقة الكتاب، وربما جمهور القراء كذلك بالنقد. فالإنسان يظل غير راضٍ عن مظهره أمام المرآة، والتي لا تعكس الشكل فقط؛ بل الدواخل، أيضاً ، حيث إن انفعالات الوجه تظهر الغضب أو السرور، وبالتالي تعكس ما في الروح، وتلك هي صورة الكاتب أو النص بكل تفاصيلها
ومنحنياتها وأسرارها في مرآة النقد، لكونه فعلاً تنقيبياً وبحثياً وتفكيكياً وتفسيرياً وتأويلياً، تتطور أدواته في كل مرحلة. ولقد جبل الإنسان على الخوف ممن ينقب وراءه، أو ممن يحاول أن يقترب من دواخله ويكتشف أسراره وعوالمه الخفية"6.

بنظرة عاجلة إلى بنية المقالة يتضح أن الكاتب كان يتوخّى الاقتصاد في الألفاظ ، بصفة عامة، و يعمد إلى إفراغ مادة معانيه في أوجز لفظ و أبينه ، فتخيرها لتكون أحسن وعاء لفكره الذي حرص على تنظيمه و ترتيبه في تسلسل، أيده بأدلة منطقية ، و تتميز اللغة هنا بالجزالة ، كما يتسم الأسلوب بحرص الكاتب على الإقناع ، من خلال دقة الأفكار و وضوحها و عمق الرؤية و اتساعها.7

تندرج هذه المقالة في قائمة المقالات التي وضع بها العقاد تعريفاً لطبيعة النقد الأدبي ، و بعض المعايير الفنية التي يصدر عنها الناقد الأدبي البارع؛ في إشارة ضمنية منه إلى حتمية إقامة العلاقة التفاعلية بين المبدع( منتج النص)، و المتلقي( القارئ=الناقد) ، و يُفهم منه أهمية الفهم و سبر العمل المنقود أولاً؛ فهناك في كل عصر يوجد مهاد مشترك يتداوله المهتمون بالشأن المعرفي، على اختلاف الحقول العلمية، و لكن موضوع الفهم ذاته أكبر من يهمل، و كما يقول ناصف:" لا نزال محتاجين إلى الشعور بأهمية نضج الفهم و أهمية الحديث العلمي عنه"،8، و الغريب أننا لا نكاد نتفق على أن مشغلة النقد الجديد الأساسية هي تجربة الفهم كيف تكون، و لكل جيل تصوّره لشؤون الشعر و الأدب و التركيب و البنية.9هناك ضرورة إلى مراجعة يقظة للنقد الجديد الذي يسرف أحيانا في افتعال صخب كثير، و أقام مسافة واسعة بينه و بين القارئ، و لكنه على كل حال يحيل على تجربة.10

ونلاحظ أن طه حسين قد أدخل الناقد نفسه داخل المرآة؛ أي أنه غير منفلت من سلطة المراجعة، والرقابة، في سياق الدراسات التي تتناوله، وهذا ما يسمى بنقد النقد، حيث تفحص القيمة النقدية للدراسات التي تنتج في هذا الحقل، فهو لا يقوم بسلطته مطلق اليدين، بل مقيد بشروط وأدوات صارمة حتى لا يستسلم الناقد للكسل، والاستسهال، والأهواء، فهو مجال يهتم بمراجعة القول النقدي ذاته وفحصه، ومراجعة مصطلحاته، وبنيته التفسيرية، وأدواته الإجرائية، وهذا عينه ما ذهب إليه جابر
عصفور، الذي يوضح كيفيته وتبيانه بالقول: «ممارسة نقد النقد من الممكن أن تكون على شاكلتين: الأولى نقد العمل النقدي، حيث المقالات المقدمة لنقد الأعمال الأدبية، والثانية الحركة النقدية بصورة عامة، على غرار الأعمال التنظيرية الخاصة بالتنظير في الأدب والفنون»11.

في بعض علاقات الاتصال تكون اللغة نمطا سريا لا يفهمه الغرباء، وفي أحوال كثيرة الآن يحرص الكتّاب على الانتشار غير المحدود، يقولون إن للعشب حقوقا أعلى من سائر الحقوق، وفي سبيل هذا الاتصال يتخير الكاتب أساليب معينة تقربه، وقد يخلق بمهارته بعض هذه الأساليب، ومن أهمها تنمية نوع من لغة الحديث. وقد يبذل الكاتب في سبيل القراءة كل ما يستطيع من أجل اليسر والإمتاع وتجنب الرهق. ولكن السؤال الصعب هو: هل يضر الكاتب قراءه المعجبين به الحريصين عليه؟

إن القراء الأكفاء قليلون ويجب أن نعاونهم على الكشف، وعمل الكاتب الجاد هو أن يجد هؤلاء.

كان الدكتور طه يقول: يجب أن يرفع الكاتب الشعب لا أن يهبط إليه. كان يقول : بعض الإسفاف ممتع وبعض الدوافع تجد رواجا في ظروف معينة، والتماس هذه الدوافع وتغذيتها يحقق منافع شخصية، ويضر ببعض القراء من حيث لا يحتسبون. نحن عادة نعجز عن أن نميز بين ما يمتعنا وما يفيدنا12.

و مما يستدعي منا إعادة القراءة المتأنية أن التواصل اليوم في جانب كبير ينتفع بذكاء قوي، وإحساس هش بالمسؤولية، وقد اختلط في الأذهان مفهوم اللغة الإبداعية بمفهوم اللغة الناجحة اختلاطا مروعا.13

و أخيراً: يا تُرى لو كان الأستاذ العقاد حيّاً فماذا عساه أن يقول ، حيال هذا السيل الجارف من النتاجات – في المشهد الأدبي و الفكري-غير الناضجة، و التي ترتكز على النظرة الأحادية الضيقة غير المتفاعلة مع معطيات العصر الثقافية و الفكرية والفنية ؟

إلى جانب هذا الرُّكام الهائل من النتاجات الانتقادية الهشّة ، سِمَتهٌا الأساسية التكرار المقيت و الدوران في حلقات مفرغة- بقصد و بدون قصد-؛ مما يرسم صورة حقيقية عن الأزمة التي يعاني منها النقد المعاصر ؛ حتى بعد عصر صناعة " المرايا" النقدية الجديدة؟
-------------
1-كانت الندوات ثرية بمشاركات شعراء و أدباء وطلائع من ناشئة الأدباء،من عدة دول عربية، إلى جانب أعلام النقاد و المثقفين. 2-أذكر منهم على سبيل المثال:1-أستاذنا الشاعر الناقد محمد علي عبد العال رئيس رابطة الأدب الحديث بالقاهرة-رحمه الله-، عضو اتحاد كتّاب مصر،لقي الأستاذ العقاد، و تجمعهما بلدة واحدة( أسوان) بصعيد مصر. وكان يحكي لنا عن العقاد- وعن جيله -حكايات طريفة يستمتع بها الحاضرون في ندوة الثلاثاء بالرابطة؛ و مما أذكره حكايته قصة العقاد مع الصحفي الذي ضربه الأستاذ بحذائه، و كان عبد العال يومها قد دخل منزل العقاد لمشاهدة الواقعة. 2-أستاذنا الدكتور الناقد سعيد سعد أبو عبادة-محقق ديوان سقط الزند للمعري، و كان من طلاب شاكر. 3-الشاعر المبدع الكبير محمد التهامي-الفائز بجائزة شاعر العروبة والإسلام، لقي طه حسين، و تجرأ أن يلقي عليه بعض كلماته، كما كان يحكي لنا.
3-يُطلق الأستاذ على العقاد كثيرا في زمانه، و في الصالون الأدبي إذا أُطلق اللفظ فلا يتجرأ أحد أن يلتفت غير العقاد، وكان يرى أنه أحق الناس بهذا الاسم،كما يحكي ذلك تلميذه أنيس منصور في كتابه" في صالون العقاد كانت لنا أيام".غير أن هناك في مصر في تلك الفترة أستاذ آخر أيضا يرى أحقيته بهذا الاسم،وهو الإمام محمد عبده؛ فهما أستاذان؛ و لهذا كان بعضهم يقول في تلك الفترة:"الأستاذ الإمام" حيى يميز الإمام محمد عبده من العقاد الذي يصفه بالأستاذ الأديب، أو عملاق الأدب؛ لكن الوصف رافق –أيضا-اسم "لطفي السيد"أيضا يُعتبر" أستاذ الجيل"، فهم أساتذة، أعيان الأساتذة. و أحب الأوصاف إلى العقاد أ ن يقال عنه:"شاعر"، و لكن لم يشتهر به؛و إن كان حقاًّ شاعراً له إبداعاته. 4 -- نشرت المقالة في مجلة "الشهر" في فبراير 1959م.
5 - كتب العقاد الرد في مقالة عنون لها" أدب المقالة" نُشرت في مجلة "الرسالة" التي كان يصدرها الأديب أحمد حسن الزيات بالقاهرة 2/08/1948م.
6 -علاء الدين محمود، مقال بعنوان"النقد مرآة النص، صحيفة الخليج،يوم 27 يوليو 2020. 7 - د. شوقي ضيف، مع العقاد. القاهرة: دار المعارف، 1988م:55. 8 -د.مصطفى ناصف،اللغة و التفسير و التواصل،سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب،العدد 193، السنة1995 ، ص257. 9 - المرجع نفسه، ص159. 10 -المرجع نفسه، ص

*كاتب ناقد من الكاميرون-عضو رابطة الأدب الحديث بالقاهرة

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2255 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع