قاسم محمد داود
مدن أعالي الفرات / مدينة حديثة
جنوب مدينة عانة بمسافة 75 كيلومتر، ومدينة الرمادي عاصمة الأنبار شمالاً بمسافة 130 كيلومتر وعلى مبعدة 250 كيلومتر عن بغداد، تسترخي مدينة حديثة على ضفاف نهر الفرات مباشرة بامتداد مسافة 25 كيلو متر، بين ماء الفرات الذي يمتد في جسدها كالشرايين، والصحراء المحيطة بها إحاطة السوار بالمعصم في عيونها وآبارها وواحاتها ووديانها. تقع (حديثة الفرات) على مستوى جغرافي واحد من مدن أعالي الفرات، هذه المدينة إن لم تكن عروسة الفرات فهي واحدة من أحلى عرائسه.
يعود تاريخ مدينة حديثة إلى العصر الآشوري القديم والعهد البابلي الحديث (منتصف الألف الثاني قبل الميلاد). كانت إحدى المستوطنات قبل الإسلام. نزلها العرب في عهد عمر بن الخطاب فعربوا اسمها الآرامي القديم (حدثا) وتعني المدينة المحدثة، وذكر ياقوت الحموي أن المدينة كانت تضم كنيستين قبل الفتح الإسلامي. وقالت بعض المصادر إن اسم حديثة الحالي يعود لأبي مدلاج التميمي الذي قاد جيشاً أمر به عمار بن ياسر والي الكوفة من قبل عمر بن الخطاب لفتح ما فوق الفرات، وبعد ان سكنتها القبائل العربية تغيرت تسميتها إلى (الحديثة) أو (حديثة النورة) لتميزها عن التسمية القديمة. يقول السير وليم ولكوكس (مهندس بناء بريطاني عمل في مصر والعراق وتركيا. أنشأ سدة الهندية):" عندما اتجهت قبائل الجزيرة العربية الى الفرات تاركة وطنها الأصلي، كانت الواحة الأولى التي واجهتها هذه القبائل في طريقها هي البقعة الكائنة بين عانة وهيت، والفرات في هذه المنطقة يمر بسلسلة من الشلالات غير المنتظمة فمارسوا الزراعة، وكان هؤلاء المهاجرون مزودين بخبرة فنية في الري والزراعة التي مارسوها في وطنهم الأصلي ثم استغلوا الإمكانات التي وفرتها لهم البيئة النهرية الجديدة في تكوين حضارتهم من جديد في مستوطناتهم الجديدة ثم اضطرتهم الحاجة إلى توسيع رقعة أراضيهم الزراعية بعد تكاثر عددهم فأتقنوا هندسة الري المشتملة على شق الجداول السيحية ونقل المياه إلى مسافات طويلة واستخدام العجلة، والطاقات المائية والحيوانية في تدويرها حتى أصبحت هذه المنطقة(جنة) مليئة بالنخيل والأشجار، إضافة إلى حقول الذرة والقطن والكروم، وكان المناخ والتربة هنا يصلحان بطبيعتها لنمو الأشجار المثمرة، عانةـ حديثةـ هيت على نهر الفرات هي موقع جنة عدن التي أسسها العرب الجزريون، والتي نقلت أخبارها التوراة حيث جاءت أوصافها مطابقة لوضع المنطقة الممتدة من عانة إلى هيت، فحدد موقع الجنة في أعلى دلتا الفرات حيث تبدأ تفرعات نهر الفرات إذ وصف العهد القديم الجنة بذكره أن نهر الفرات بعد أن يسقي الجنة يتفرع إلى أربعة فروع هي فيشول وجيحون وحداقل والفرات، فيمثل الأول منخفض الحبانية وأبا دبس، ويمثل الثاني نهر الهندية الحالي، والثالث مجرى الصقلاوية القديم، اما الرابع فهو نهر الفرات أي المجرى القديم المعروف بنهر كوثي." إن التاريخ يحدثنا بأن طريق الفرات هو طريق هجرة سكان الجزيرة العربية إلى بلاد الرافدين، وهو طريق الغزوات وقوافل التجارة. وتشير المصادر الأثرية إلى إن حديثة والمناطق المحيطة بها كانت من المراكز الآشورية المهمة التي تربط الحواضر بسواحل البحر الأبيض المتوسط، وتضم المدينة سد حديثة والبحيرة التابعة له كما كانت محطة مهمة لنقل النفط عبر الخط الاستراتيجي من كركوك إلى ساحل المتوسط في سوريا. أبرز نواحيها ناحية بروانة وآلوس، وتنتشر في حديثة العديد من المناطق السياحية والمعالم الأثرية ومنها قلعة قديمة في حويجة حديثة (جزيرة وسط الفرات). زارها الرحالة ابن بطوطة سنة 748 هـ واصفاً إياها بأنها: " من أحسن البلدان وأخصبها والطريق فيما بينها كثيرة العمارة وقد ذكرنا أن لم نر ما يشبه البلد على نهر الصين إلا هذه البلاد"، فيما وصفها الرحالة الهولندي د. ليونهارت قائلاً: "وصلنا إلى حديثة وهي مدينة جميلة وكبيرة قديمة البناء يقسمها نهر الفرات مثل عانة إلى قسمين يقع الأكبر منها على الجهة اليمنى من النهر".
بدوره وصفها الرحالة الإيطالي غوسبار بالبي بالقول: “أخيراً وصلنا الى مدينة تسمى حديثة ورأينا بيوتاً كثيرة على عدوتي النهر وأبراجاً وبساتين وأشجاراً ونخيلاً وستة نواعير قائمة في النهر". أما الرحالة موسيل فقد أثنى على أشجار النخيل الباسقة فيها وعلى بيوتها المتزاحمة. وزارها الرحالة الإنجليزي الكولونيل فرنسيس جسني الذي كلف بالقيام بالمسح والتحري عن نهري دجلة والفرات وصلاحيتهما للملاحة النهرية لإيجاد طريق قريب للوصول إلى الهند مرتين عام 1836 ووصفها بأنها " مدينة تحتوي على 400 منزل بنيت على بقايا حديثة القديمة فيما كان النهر يأخذ بالأتساع تدريجياً". وزادت الليدي آن بلنت (مستكشفة إنجليزية مؤلفة كتاب "قبائل بدو الفرات
1878 ") بالقول " توقفنا مقابل مدينة حديثة فرأيناها كالحديقة المسورة التي تضم الكثير من الأشجار والنخيل والمزارع". تضم مدينة حديثة قرابة 35 معلماً اثرياً من المآثر التاريخية منها مساجد وقباب ومآذن وجوامع، كجامع الفاروق الذي بني عام 16 هجرية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وعدد من اضرحة الصالحين فضلاً عن آثار تعود لأكثر من 3000 سنة قبل الميلاد. ومن معالمها النواعير على ضفتي نهر الفرات، وسد وبحيرة حديثة أو سد القادسية الذي يساهم بتوليد الكهرباء، تتميز حديثة بجمال طبيعتها وتنوع تضاريسها بالإضافة إلى وجود عدد من المغارات. ومن المناظر الجميلة للمدينة منظر وادي حقلان وعيون المياه الجوفية في هذا الوادي، وفوقه الجسر الحجري الأثري الذي يربط الحقلانية بحديثة، حيث تقدم المدينة نفسها للزائرين على هيئة أربعة شرائط أو خطوط متوازية تمتد طولياً إلى قرابة عشرة كيلو مترات، يُعبر الشريط الأول الذي يقع على إلى جهة اليسار عن نفسه بسلسلة من المرتفعات الصخرية، التي تتفاوت في ارتفاعها وانخفاضها تفاوتاً كبيراً، وهي تشكيلات جميلة ناتجة عن تداخل الصخور تشكل أحد أماكن السكن في المدينة حيث بُنيَ عدد كبير من المنازل فوق تلك المرتفعات يتم الصعود اليها عن طريق السلالم الحجرية وفي بعض هذه المنازل أنشأت حدائق ومزارع خضار صغيرة. ولعل ما يزيد هذا الشريط الجبلي إمتاعاً هو كثرة المغاور والكهوف التي يبلغ ارتفاع بعضها إلى عدة أمتار فيما يمتد عمقها إلى مسافات بعيدة. ويحاذي هذا الشريط الشارع الرئيس الذي تتصل جهته الثانية بالخط او الشريط الثالث وهو سلسلة متصلة من الحقول وبساتين النخيل والفواكه، ويعد هذا الخط الأحلى لأنه يشكل الثقل السكاني للمدينة، حيث تتوزع مئات المنازل بين البساتين والأزقة الملتوية، كما أنه يطل على النهر مباشرة حيث لا فاصلة تذكر بين هذا الشريط الأخضر والفرات الذي يعج هو الآخر بالعديد من الجزر المأهولة وببقايا النواعير. أما الضفة الثانية للنهر تمثل هي الأخرى شريطاً من البساتين والخضرة والدور السكنية حيث تنهض مدينة (بروانة). ويلاحظ بأن المسافة بين المنطقة الجبلية والنهر لا تزيد في أحسن الحالات عن مئتي متر وهذه صفة تتميز بها أغلب مدن وقرى الفرات الأعلى بسبب المجرى العميق للفرات هناك.
1228 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع