د. أسعد شريف الامارة
أسم الأب وبراءة الطفل رؤية في تشكل الشخصية – شيء من التحليل النفسي
عندما نطرح موضوع من موضوعات التحليل النفسي يتبادر إلى الذهن صراع الكلمات والأفكار وما ينطقه اللسان ، كثيرة هي الافكار ولكن تجميعها في رؤية محددة تكاد أن نختزلها في أضيق معاني هذه الأفكار، فما نطرحه في السطور القادمة هي محاولة إجتهادية لدخول عالم "جاك لاكان" مع أفكار التحليل النفسي التي تعلمناها من مدرسة عين شمس العريقة أواسط السبعينات من القرن الماضي بسمتها الفرويدية الكلاسيكية ولكن التعاشق في الافكار يخلق بُعد جديد في الرؤية وهي أراء وأفكار عسى وإن تكون إضافة جديدة في التخصص في التحليل النفسي بالتعليم والثقافة العامة والفنون والعلاج النفسي التحليلي.
من المسلمات الأساسية للتحليل النفسي هو أن الإنسان يختار طريقته في الحياة، وهو مسؤول بطريقة أو أخرى عما يحدث له، وهو يدفع ثمن اختياره بان يمرض ويزداد مرضًا، أو هو يختار اسلوب حياته، ونمط شخصيته، فالفصامي شكل تفكيره بعمق إدراكه للاشياء والواقع وأمن بما رأه هو صحيح، وكذلك العصابي مثل الوسواسي، أو الشخصية المرضية القلقة، أو السيكوباثي، أو السيكوسوماتي الذي بَدل أن يُسقط الانفعالات الدفينه على الخارج جعلها ترتد إلى داخله فتمزق احشاءه برضاه، وهو صاغر ينظر لقرحة معدته، أو قولونه العصبي يتمزق، وغيرها من الاضطرابات الجسمية ذات الأصل النفسي، وفي هذا الصدد ونحن نحاول أو ندخل لعالم الطفولة ومصادرة براءة الطفل أن نرى طفل الإنسان عاجز بيولوجيًا ويحتاج إلى الاعتماد العضوي على أبويه لكي يعيش، فهو لا يستطيع أن يطعم نفسه، أو يحمي نفسه من المخاطر إلا بوساطة الكبار وهو لهذا تحت رحمتهم واختياره محدود فكيف إذن يتحمل نتائج اخطاء أبويه؟ نحن نعرف أن الطفل يتمتع بقدر من التلقائية والقرب من طبيعته التي تجعل مشاعره وسلوكه أصدق من مشاعر أبويه بصفته الطرف الأضعف في العلاقة فهو يقتل هذه البراءة والتلقائية ويبيع نفسه لكي يتجنب شر الكبار ويسعى إلى ارضائهم ويقتل هذه التلقائية كما يقول "الدكتور محمد شعلان" وهو يرتكب أول مخالفة لإحساسه الصادق، أي اول عصيان.
يرى "جاك لاكان" فيلسوف التحليل النفسي إن الأب يُعد المؤسس لقانون الآخر الكبير، ويمد الأرضية لبزوغ الرغبة وتطورها كما يقول Saman Zoleikhaei وإن الأسم الخاص بالـ - أب لا يقوم فحسب بتكسير الثنائي الأم والطفل، وإنما أيضًا بتأسيس الفالوس باعتباره دال نقصان في الآخر الكبير. وقول "فان هوت" ايضا إن للأب دورًا مؤثرًا في تكوين النفس الإنسانية في كل فرد. أما " كريك Grigg " يرى إن وظيفة الأب باعتباره المالك للفالوس *" الفالوس" كما تقول المحللة النفسية مرسيليا شعبان حسن عند جاك لاكان هو رمز للحيوية التي تميز القضيب في حالة الانتصاب، على هذا الأساس أصبح الفالوس الرمز لكل القدرة اللبيدية – الجنسية، والمرحلة الفالوسية تتميز في مواجهة هذا النقصان، أي عدم امكانية تحقيق الرغبة المحرمة عبر كبتها، سواء عنده، أو عند الآخر الذي يشكل موضوع طلبه. الفالوس بنظر "لاكان" ايضا هو الدال الاول الذي يطاله الكبت الاولي، ويحل بديلًا عنه دال ثاني. ونحن بأزاء هذه المتداولة في المعلومات ما زلنا بصدد براءة الطفل حيث أننا كأباء وامهات نصادر دون أن ندري براءة الطفل وعفويته وندفعه إلى أن يلجا إلى ارتكاب الأخطاء وهو بذلك مارس حريته وهي حرية الخطأ ويظل يدفع ثمن هذه الخطيئة بقية عمره، أي نحن ساهمنا في تشكيل نمط شخصيتة بطريقة أو بأخرى، فالطفل لكي يحافظ على استمرار وجوده بين الأبوين فإنه باع نفسه للكبار بان تركهم يفرضون عليه ما يخالف طبيعته. وسنعود إلى هذه الفكرة بعد قليل كيف تخلق منه هذه المخالفة لطبيعة الطفل حالة ذهانية "اضطراب عقلي" . ونورد في هذا الموضع من كتاب الذهانات لـ "جاك لاكان" قوله : أنتم عندما تصفعون طفلًا فإنه من المفهوم أن يبكي، في حين لا أحد يفكر في أنه ليس من اللازم البته أن يبكي، أتذكر ذلك الطفل الصغير الذي كلما صُفع يسأل" أهذه دعابة أم صفعة؟" فعندما يقال له إنها صفعة، فإنه يبكي، وأما إن قيل له إنها مداعبة فنراه مرحًا منشرحًا( لاكان، ص14) إذا نحن نتلاعب بمشاعره ونخلق الصراع في شخصيته وهي في المرحلة الاولى من حياته "أي السنوات الستة" وفي هذه الأفعال نكون قد وضعنا الطفل في حالة ذهول بين الحقيقة كما يفهما ببساطة تفكيره، وعمق الفعل وربما نكون قد قدناه إلى لوثة عقلية تختلط فيه معرفته وهي وسيلة لفقدان الصحيح والخطا من التعامل معه، ونعود إلى رأي " طبيب النفس الدكتور محمد شعلان" عن تعاملنا واسلوبنا الذي يعكس حالتنا النفسية الإنفعالية في تربية اطفالنا، قوله ليس في أمر حرية الاختيار عند الطفل كل هذه الغرابة في ضوء ما يعايشه المرضى من خلال خبرات تحليلية عميقة، أو حالات ذهانية مؤقتة وتحت تأثير العقاقير المهلوسة، أنهم في هذه المعايشة يعودون إلى حالات مبكرة في نموهم قد تصل إلى ما قبل الولادة، وأثناءها ويتذكرون في تلك اللحظة الصراع بين الرغبة" الأُمنية" في البقاء في سلام وأمن وحماية الرحم الذي يمثل في الوقت ذاته حالة الموت، وبين الرغبة في الخروج واستنشاق أول نفس للحياة وهي خبرة تحوي الإحساس بالارادة والاصرار. أما "بيير داكو" فيرى بان الاب بالنسبة للطفل يتصف بسمات فوق إنسانية، وهو موضع اعجاب شديد، بيد أن الاب الذي يضعه موضع الإعجاب ليس أباه الخاص به، وإنما الفكرة التي يكونها عن الأب بصورة عامة، فالأب بالنسبة إلى الطفل، رمز حتى قبل أن يكون ذا قوة ومجد وعصمة وإشعاع. والتساؤل الذي يطرحه "داكو" أن دور الأب عسير لأن الأب ينبغي له أن يتطابق مع رؤية طفله الرمزية، إنه لدور مرهق، فإذا لم يكن متطابقًا مع الرمز لسبب من الأسباب ظهر التناقض لدى الطفل، تناقض قد يصل إلى حد فقدان التوازن السيكولوجي، ومن هنا تذهب بنا هذه الفكرة مرة اخرى إلى رؤية "لاكان" وقوله: إن سقوط قيد الأسم الخاص بالـ - أب ينتهي بالذات في الذهان " الاضطراب العقلي" إن الأسم الخاص بالـ - أب يتم رفضه refused من جانب النظام الرمزي ويترك فجوة أو ثغرة، الذهان ينطلق بضرب من المواجهة مع أب ليس بالضرورة أن يكون الأب الواقعي للذات، هو الذي يفشل ويسقط، اما "فينيك" فيقرر ان الأب الفعلي من اللحم والدم لا يؤدي بالضرورة بشكل فوري وعلى نحو تلقائي الوظيفة الأبوية، مثلما لا يؤدي غيابه بالضرورة إلى عدم وجود الوظيفة الأبوية. إن الأب إنما هو موقع أو مكانة من الممكن شغلها بدوال متباينة. إن فراغ وخواء هذا الموقع في النظام الرمزي يؤدي إلى الذهان" الاضطراب العقلي". وفي رأي "لاكان" إن سقوط قيد الاسم *( سقوط القيد ميكانيزم دفاعي في الذهان) هو الذي يجعل العرض المرضي ضربًا من الضرورة الملحة للذات الذهانية. إن سقوط قيد الأبوة يترك ثغرات في الحياة النفسية للذات: أعني تحديدا ثغرة في النظام المتخيل وثغرة في النظام الرمزي أيضا. يقول " العلامة مصطفى زيور" إن في حب كل أب لابنه يوجد عنصر نرجسي ذلك أن الطفل صادر عن ذاته، هو ذاته مصغرة، يروق الأب أن يبذل من نفسه لها، ويضحي من أجلها. وأزاء ذلك فإن المنطلق الذي نبدأ منه هنا ليس أن الطفل مظلوم أزاء الكبير ولا أن حل التناقض هو أن يتخلص الطفل من سيطرة الكبير عليه فيعم السلام ولكن المنطلق أن العلاقة الموجودة بين الطفل والكبير مع ما فيها من تناقض مؤلمة لكليهما وان كانت صرخة الطفل – وهو الطرف الاضعف – هي الأعلى واحتياجه للمساندة هو الاعظم، وفي ذلك يقول" الدكتورمحمد شعلان" فالطفل المضطرب ليس بالضرورة مجرد طفل مريض ولكنه غالبًا ما يكون المرض الذي يشير إلى وجود أصل الداء في دائرة الأسرة، ومقابل ذلك فإن علاج الطفل لا جدوى منه اذا ما أهملنا تاثير الأسرة عليه بل قد نكتفي في بعض الحالات بعلاج الأسرة لكي تتحسن حالة الطفل إلا ان الاغلب ان العلاج يتناول الجانبين – الاسرة والطفل، أما كل على حده أو في اطار واحد، وقول العلامة "مصطفى صفوان" الأب هو النقطة التي من خلالها يحكمُ الشخص على نفسه: كي يقيم الفرد نفسه يجب ان يبتعد عن نفسه حتى يتمكن من رؤية نفسه، ونقول ولكن في البلوغ حينما نستطيع أن نُقيم أنفسنا قبل أن يداهمنا الذهان أو الاضطرابات العصابية الأخرى وهي لنا بالمرصاد دون أن نعي ونختار لا سيما أن حرية أختيار الإضطراب ونوعه متاحة للجميع.
المصادر:
- داكو، بيير( 2007) الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث، ترجمة وجيه أسعد، الدار المتحدة ومؤسسة الرسالة، دمشق.
- - زيور، مصطفى( 1986) في النفس، دار النهضة العربية، بيروت.
- شعلان، محمد ( 1979) الاضطرابات النفسية في الاطفال ج1، الجهاز المركزي للكتب الجامعية، القاهرة.
- لاكان، جاك( 2017) الذهانات، ترجمة عبد الهادي الفقير، دار التنوير، تونس، بيروت، القاهرة.
- Zoleikhaei ، Saman ( 2021) اسم الاب، سقوط القيد، الذهان، ترجمة سيد البدوي فتحي صديق. منشورة في https://www.alyp.org
2959 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع