زيارة رمضانية لبيت ومسجد المُلا عثمان الموصلي

                                                     

               الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

    

        زيارة رمضانية لبيت ومسجد المُلا عثمان الموصلي

المُلا عثمان الموصلي شخصية عراقية معروفة في العراق والعالم العربي وتركيا وبلدان أخرى، كما أنه معروف جيدا في المحافل الدينية وتلاوة القرآن الكريم؛ ومن تلامذته في العراق الحافظ مهدي العزاوي (1894-1959) والمُلا عبد الفتاح معروف (1891-1989). ومن تلامذته في مصر (إمام المنشدين) الشيخ على محمود (1880ـ1946)؛ و (قيثارة السماء) الشيخ محمد رفعت (1882-1950).

لم تقتصر شهرة المُلا عثمان بوصفه قارئا للقرآن الكريم فحسب، بل هو شيخ المُنشدين، وقد ترك إرثا ضخما من الأناشيد الدينية التي لا تزال تُردد إلى يومنا هذا في المحافل الدينية.

لقد تعرضت الكثير من أعمال المُلا عثمان للانتحال من قبل آخرين بعد تحويل أناشيده الدينية إلى أغاني عاطفية: فتحول لحن (زُر قبر الحبيب مرة) إلى (زُروني بالسنة مرة) وتحول لحن (بهوى المختار المهدي نَقّلْ ودادكْ) إلى (طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة).

كما تُنسب الكثير من الأعمال الموسيقية الخالدة والتي رددها كبار الفنانين في داخل العالم العربي وخارجه إلى المُلا عثمان؛ مثل عالروزانا وقدك المياس والبنت الشلبية وأم العيون السود وطالعة من بيت أبوها.

لقد توفي المُلا عثمان في بغداد يوم الثلاثاء 30 كانون الثاني 1923م، ويصادف يوم الثلاثاء 30 كانون الثاني 2023م مرور مائة سنة على وفاته. فلم يبقى سوى عدة أشهر للإعداد والاستعداد لهذه المناسبة الوطنية. وأجد من الواجب التنبيه على هذه الذكرى لنحتفي بذكرى هذا العَلم العراقي الشامخ من باب الوفاء له وما قدَّمه للوطن من أعمال تراثية كبيرة وآثار خالدة تناقلتها الأجيال وانتشرت في أرجاء المعمورة.

المُلا عثمان والسلطان:
لقد كان المُلا عثمان هو المُقرئ الخاص للسلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، كما كلَّفه السلطان بمهام سياسية وأرسله إلى ليبيا. ومن هناك انتقل إلى مصر عام ١٨٩٥ وبقي فيها خمس سنين وترك آثارا كبيرة في مجال تلاوة القرآن الكريم والموسيقى، ثم انتقل إلى بيروت ومن ثم إلى الشام، ثم قفل عائداً إلى إسطنبول.

ونزولاً عند رغبة عدد من وجهاء العراق وأعيانها الذين جاؤوا إلى إسطنبول لحضور اجتماعات (مجلس المبعوثان)؛ منهم عميد أسرة الآلوسي، والشيخ يوسف السويدي، والشيخ إبراهيم الراوي (رئيس الطريقة القادرية) وغيرهم؛ عاد المُلا عثمان إلى الموصل عام 1913 ليرأس التكية المولوية في مسجد (الشيخ شمس الدين) في محلة (باب جديد).

     

زيارة رمضانية:
خلال شهر رمضان المبارك الذي نتعايش معه هذه الأيام قمنا بزيارة إلى محلة (باب جديد) في أيمن الموصل من أجل زيارة مسجد (الشيخ شمس الدين) التراثي، والذي اتخذه المُلا عثمان مقرا له بعد عودته الأخيرة إلى العراق.

ومحلة (باب جديد) كانت تُعرف سابقا باسم (باب عراق) وتقع في جنوب الموصل حيث كان فيها باب في سور الموصل القديم يؤدي إلى العاصمة بغداد الحبيبة. وهذه المحلة هي مسقط رأس المُلا عثمان ولا يزال عدد من أحفاده يسكنون فيها.

ومسجد (الشيخ شمس الدين) هو من مساجد العراق التاريخية القديمة التي بُنيت قبل سبعة قرون، وقد بناه الشيخ (حسن شمس الدين) سنة 1246م، وأصبح المسجد مقراً لذلك الشيخ الصوفي.

وخلال إقامة المُلا عثمان في إسطنبول، ومن خلال علاقته الوثيقة مع السلطان عبد الحميد الثاني تمكّن من الحصول على دعم مالي من السلطان من أجل إعادة إعمار المسجد. وفي العام 1910م تولى أحمد ابن المُلا عثمان عملية إعادة بناء المسجد، وصار فيما بعد مدرسة خاصة لوالده المُلا عثمان بعد عودته إلى الموصل. وفي العام 1970م جُدد بناؤه من قبل مديرية الأوقاف العامة.

بعد وصولنا إلى موضع قريب من مسجد (الشيخ شمس الدين)، كانت هناك صدفة جميلة بانتظارنا. حيث رأيتُ رجلا ملامحه قريبة من ملامح المُلا عثمان، فتوجهتُ إليه وسألته عن (مسجد الشيخ شمس الدين)، فقال لي: ماذا تريد من المسجد؟ فقلتُ له: عندي مشروع تأليف كتاب عن المُلا عثمان وأريد أن آخذ بعض الصور للمسجد الذي قضى فيه المُلا عثمان ردحا من الزمن. فتبسم الرجل وقال لي: أنا حفيد المُلا عثمان؛ وأخذ يدندن ببعض ألحان المُلا الدينية.

لقد تعرفنا خلال هذه الزيارة بهذا الحفيد؛ واسمه (يونس ذنون يونس حسين عبد الله الدليمي) وهو من عائلة السّقا. لقد حدثنا هذا الحفيد عن إبداعات المُلا الفنية ومعاناته في مصر وسرقة ألحانه من قبل آخرين، كما ذكر أن المُلا عندما أراد الرجوع من مصر لم يكن يملك أي مبلغ من المال، وكانت عودته على حساب بعض الخيّرين.

        

لقد كان الوقت ضحى والمسجد مغلق، فأخذني الرجل إلى الجهة المقابلة تماما للمسجد من الشارع وأدخلني زقاق عتيق قائلا: تعال لأريك بيت المُلا عثمان. وفعلا بعد أن قطعنا مسافة لا تتعدى العشرين مترا وصلنا إلى بيت المُلا وهو بيت عتيق مصبوغ باللون الأخضر وأمامه مزهريات فيها نباتات، وقد أخذنا صور تذكارية هناك.

ثم عدنا إلى الشارع العام فرأينا خادم مسجد (الشيخ شمس الدين) يقوم بفتح باب المسجد فدخلنا. وذكر لنا حفيد المُلا بأن المسجد بقى على حاله مثل ما كان أيام المُلا عثمان قبل قرن، حيث تقام فيه الصلوات وتعليم تلاوة القرآن الكريم، وقد تخرَّج منه عشرات القُراء.

بغداد المحطة الأخيرة:
لقد كانت ولادة المُلا عثمان في محلة (باب عراق) في أيمن الموصل والتي أصبح اسمها فيما بعد (باب جديد). وكانت تتوطن في هذه المحلة عائلة العُمري في أطراف (جامع العُمرية).

توفي والد عثمان الموصلي وهو في السابعة من عمره، ثم فقد بصره بعد ذلك بقليل، لينشأ في كنف أحد وجهاء الموصل (محمود أفندي بن سليمان العُمري) الذي خصه بمعلم يُحفظه القرآن الكريم وجانباً كبيراً من الشِعر.

وبعد بلوغه تزوج عثمان من فتاة موصلية اسمها (أرخيته) وأنجب منها ولديه أحمد وفتحي. وقد بقي أحمد في الموصل وسكن دار والده، أما ولده فتحي فقد استقر في منطقة باب الشيخ (فضوة عرب) في بغداد بعد أن تزوج من فتاة من السليمانية من بنات الأغوات الأكراد اسمها (مريم عزيز)، ولا تزال هذه المحلة تُسمى (محلة الحاج فتحي).

لقد كانت تربط المُلا عثمان علاقات وثيقة مع المجتمع البغدادي، وفي سنة 1914 إبان الحرب العالمية الأولى غادر المُلا عثمان الموصل متوجها إلى بغداد بالكلك.

وصل الكلك إلى تكريت أولا، وتوجه المُلا عثمان إلى تكية الآلوسي حيث استقبله الشيخ علاء الدين الآلوسي الذي كان عضوا في مجلس المبعوثان العثماني فأكرم ضيافته، وارتجل الموصلي قصيدة مطلعها:

ذقتُ الصفا بحمى علاء الدين... فرع الشريعة بضعة الميمون

ثم وصل الكلك بغداد ونزل الموصلي في دار ابنه الثاني فتحي، فتسارع عليه القوم لزيارته ويتبارون في تكريمه. وبقي المُلا عثمان مقيما في دار ولده فتحي في منطقة باب الشيخ (فضوة عرب). وبالوقت نفسه كانت له غرفة يستريح فيها بعد الصلاة في جامع الخفافين.

ثم جاء عدد من رجال الدين إلى جامع الخفافين وابلغوا المُلا عثمان قرار تنصيبه شيخا لقُراء بغداد، واخبروه بأن يحضر إلى جامع (نائله خاتون) (جامع المرادية حاليا) في باب المُعظم من أجل تنصيبه.

مضت على المُلا عثمان تسع سنين في بغداد، وكان صديقا ودودا لأهل بغداد، وله أصدقاء من بينهم من أعيان المدينة كالشيخ العلّامة عبد الوهاب النائب (1852-1926)؛ والذي عُرف عنه حبه للموسيقى، وكان المُلا عثمان يحضر مجلسه ويقيم الموالد في داره.

وفي يوم الثلاثاء 30 كانون الثاني 1923 توفي المُلا عثمان الموصلي عن عمر يناهز التاسعة والستون ودفن في مقبرة الغزالية بعد أن قضى حياة حافة وترك آثار نفيسة تناقلتها الأجيال.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).


وكل رمضان وأنتم في حفظ الله.

https://www.youtube.com/watch?v=NZkaBowoUF4

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1005 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع