د. جابر أبي جابر
أندروبوف وثورة المجر
كان دعم الدول الحليفة في العالم من أهم توجهات السياسة الخارجية السوفيتية. وقد تأسست منظمة معاهدة وارسو (حلف وارسو) في عام 1955 من 8 دول في أوروبا الشرقية والوسطى بزعامة الاتحاد السوفيتي ومشاركة بولندا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وألبانيا ورومانيا وبلغاريا.
والمعروف أن الدول الاشتراكية الأوروبية رحبت بموضوعة المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي حول تنوع أشكال الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
وعقب المؤتمر المذكور بدأت في هذه الدول عمليات نزع الستالينية وإشاعة الديمقراطية وتخلل ذلك بعض الاضطرابات والهزات السياسية. وقد كان للاعتراف الرسمي في هذا المؤتمر بالجرائم، التي ارتكبها ستالين، ردود فعل قوية ليس فقط في الأوساط السياسية لبلدان أوروبا الشرقية وضمن المثقفين وإنما بالدرجة الأولى من جانب العمال، الذين كان أوضاعهم الاقتصادية سيئة وخاصة في بولندا والمجر. ففي 28 حزيران/ يونيوعام 1956 خرج عمال مدينة بوزنان البولندية في مظاهرة سلمية أفضت إلى حدوث اصطدامات مع الشرطة، مما دفع العمال إلى مهاجمة مراكز الشرطة والاستيلاء على الأسلحة الموجودة هناك ثم توزيعها فيما بينهم. وكان هؤلاء الثائرون يهتفون مطالبين بخروج القوات السوفيتية من بلدهم. ولدى وصول قطعات الجيش إلى المدينة لتفريق المتظاهرين رفض الجنود إطلاق النار عليهم بل وصل الأمر إلى التآخي معهم. وأعلنت الحكومة البولندية الأحكام العرفية وأرسلت إلى هناك وحدات المدرعان التابعة لوزارة الداخلية، التي تسنى لها سحق التمرد. وقد أسفر ذلك حسب المعطيات الرسمية عن مقتل 38 شخصاً وإصابة 270 آخرين بجروح مختلفة.
وخلال ذلك نشب صراع حاد داخل اللجنة المركزية لحزب العمال البولندي الموحد اضطرت القيادة الحزبية على أثره إلى تبرئة الشخصيات الحزبية والحكومية، التي تعرضت إلى الاضطهاد والقمع، وعين أحدهم وهو فاتسلاف كومار قائداً لقوات الأمن الداخلية. وقد طرح فلاديسلاف غومولكا، الذي انتخب حديثاً أميناً أول لحزب العمل البولندي الموحد الحاكم، برنامجاً لتطوير التسيير الذاتي العمالي وتخفيف أعباء الفلاحين من خلال إعادة النظر في السياسة الزراعية. وحُظي ذلك بدعم واسع من جماهير العمال والفلاحين والمثقفين وشريحة كبيرة من أعضاء الحزب. ولكن المجموعة الستالينية في المكتب السياسي قاومت هذه الإصلاحات وبدأت بإعداد الانقلاب، الذي كان من المقرر أن يتزامن مع انعقاد اجتماع الجنة المركزية الموسع لانتخاب قوام المكتب السياسي الجديد.
في هذه الأجواء المعقدة والغامضة وصل إلى وارسو وفد سوفيتي برئاسة خروشوف وعضوية ميكويان ومولوتوف وكاهانوفتش لحضور جلسة الاجتماع الموسع المذكور. وقد أدرج في قوام الوفد قائد قوات حلف وارسو المارشال كونيف. وكان ذلك يعني أن القيادة السوفيتية جاهزة للجوء إلى استخدام القوة إذ اقتضت الضرورة. وقد نصحها بتبني هذا الحل على نحو خاص وزير الدفاع البولندي المارشال روكوسوفسكي، الذي أرسله ستالين إلى بولندا بعد الحرب نظراً لكونه من أصل بولندي. وقد وضع روكوسوفسكي نفسه تحت تصرف موسكو لقمع "القوى الرجعية والقومية المعادية للسوفيت". ولكن استخدام القوات السوفيتية ضد البولنديين المعادين تقليدياً للروس كان أمراً حساساً للغاية وخاصة في ظروف الأزمة الحالية المعقدة. ومع كل هذا فإن الزعماء السوفيت كانوا على استعداد للجوء إلى القوة. وفي ضوء ذلك أُعطيت التعليمات إلى كونيف لبدء التحرك باتجاه وارسو . غير أن غومولكا طلب من خروشوف ايقاف تحرك القوات السوفيتية نحو العاصمة البولندية والإيعاز بإعادتها إلى قواعدها. وهنا لعب الزعيم السوفيتي دوراً مخجلاً حيث بدأ باللف والدوران مؤكداً أن الزعيم البولندي قد حصل على معلومات خاطئة بخصوص القوات السوفيتية. وفي هذه الأثناء طلب خروشوف وقف تحرك القوات. وكانت منظمة الحزب الحاكم في وارسو قد وزعت السلاح على العمال، الذين كانوا على أهبة الاستعداد للتصدي للقوات السوفيتية إذا حاولت دخول وارسو. ولم يتم إرجاع القوات بالكامل ومغادرة الوفد السوفيتي إلا بعد أن قدم غومولكو ضمانات بأنه لن ينتهج سياسة معادية للسوفيت إطلاقاً بل، على العكس من ذلك، سوف يسعى جاهداً إلى تعميق الصداقة مع الاتحاد السوفيتي. وهكذا استطاعت القيادة البولندية الجديدة تسوية الوضع وطمأنة موسكو باستمرار العلاقات التحالفية معها.
ونتيجة لهذه الأحداث فُصل من المكتب السياسي لحزب العمال البولندي الموحد العضوان المعروفان بولائهما الشديد لموسكو وهما زينون نوفاك والمارشال روكوسوفسكي، الذي ما لبث أن غادر البلاد وعاد إلى الاتحاد السوفيتي.
أما في المجر فقد اتخذت الأحداث منحى آخر حيث احتدم الصراع السياسي الداخلي، ولم يبق أمام السكرتير الأول لحزب العمال المجري ماتياش راكوشي (روزنفيلد) سوى الوعد بالتحقيق في محاكمات لاسلو رايك وغيره من زعماء الحزب الذين أعدمهم. وكانت المطالبة باستقالته تدوي في كافة مستويات السلطة وضمن ذلك أجهزة الأمن المكروهة من قبل الشعب. وأخيرا وصل عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي أنسطاس ميكويان إلى بودابست في منتصف تموز/يوليو عام 1956 لترتيب إقالة ماتياش راكوشي من زعامة الحزب الحاكم. وفي نهاية المطاف اضطر الزعيم المجري، المعروف باستنساخه لنموذج الحكم الستاليني، للموافقة على طلب السوفيت والذهاب الاتحاد السوفيتي حيث قضى آخر سنوات حياته ملعوناً من شعبه ومحتقراً من قبل القيادة السوفيتية نفسها. وعقب استقالته بدأت حملة اعتقالات واسعة لقادة أجهزة أمن الدولة المسؤولين عن المحاكمات والإعدامات التي جرت في عهده.
وقد شجع رحيل راكوشي عن السلطة على انطلاق حراك سياسي قوي للطلاب والصحفيين والكتاب، الذين كانوا يعقدون ندوات عديدة يتحدثون خلالها بحرية حول قضايا البلد وذلك ضمن ما يسمى بحلقات" بيتوفي" حيث يوجهون سهام انتقاداتهم للنظام القائم في المجر.
ومن جهة أخرى كان كبار مسؤولي الحزب الحاكم هناك يستشيرون السفير السوفيتي يوري أندروبوف بخصوص العديد من القضايا بما في ذلك القضايا الداخلية البحتة مدركين أهمية الرأي المعتبر لممثل دولة عظمى جارة وصديقة. ولكن أندروبوف لم يكن يرغب في إعطاء أي توصيات ملموسة بدون التنسيق المسبق مع موسكو. وقد رأى في الأحداث الجارية ليس فقط الدليل القاطع على الاشتداد المستمر للنزعات غير المرغوبة فحسب، بل ومحاولة واضحة لنسف النظام القائم وهو ما اعتبره خطراً مباشراً على مصالح بلاده في المجر. وفي أحد تقاريره إلى القيادة السوفيتية أشار أندروبوف إلى أن المكتب السياسي لحزب الشغيلة المجري" ينتهج، في واقع الأمر، أسلوب التواطؤ والتساهل تجاه العناصر النشطة المعادية للحزب.... ومن أهم أسباب عدم الثقة وضعف التماسك في صفوف الحزب غياب الهيبة اللازمة للحزب والسلطة. فإن القيادة الحزبية لا تملك برنامجاً بناءً لإخراج البلد من الأزمة". وقد كانت تثير قلق السفير السوفيتي بشكل خاص المقالات اللاذعة المنشورة في الصحافة المجرية التي تدل على الإفلات المتواصل من الرقابة الحكومية والحزبية. وبالنسبة له فإن بناء اشتراكية على الطريقة المجرية لا يعني فقط انحرافاً عن الموديل السوفيتي النموذجي وإنما يشكل أيضاً ضعفاً ملحوظاً للنفوذ السوفيتي في البلد وهو أمر غير مقبول.
وفي 6 تشرين 1/أكتوبر تحولت مراسم إعادة دفن ضحايا النظام السابق وعلى رأسهم لاسلو رايك إلى تظاهرة هائلة شارك فيها عشرات الآلاف من سكان العاصمة المجرية. وفي ظل هذه الظروف قرر الكرملين أن يعيد إلى السلطة إمري ناجي المعروف بأفكاره الإصلاحية، والذي سبق أن ترأس الحكومة خلال الأعوام 1953-1955. وفي تلك الأثناء كانت مشاعر الكراهية لدى الجموع الثائرة موجهة نحو موظفي أجهزة الأمن السياسي السري القائمين على عمليات التعذيب. وكان يجري البحث عنهم وتصفيتهم. وقد دوت خلال ذلك مطالب عديدة من أبرزها تحقيق الاستقلال الوطني وإشاعة الديمقراطية وتصحيح أخطاء راكوشي الفادحة وإقامة علاقات صداقة مجرية سوفيتية على أسس جديدة. ولكن لم يصل الأمر آنذاك إلى ملاحقة الشيوعيين وقتلهم كما كانت تزعم الدعاية السوفيتية. وقد اتخذت الأحداث في المجر طابع ثورة شعبية حقيقية. وهذا الظرف بالذات أثار هلع القادة السوفيت. ومن الأسباب الرئيسية لانتفاضة بودابست هيمنة اليهود في قيادات حزب الشغيلة المجري والحكومة ومن بينهم السكرتير الأول للحزب الحاكم رئيس الحكومة ماتياش راكوشي، وإرنو جيريو، الذي حل محله صيف عام 1956 في زعامة الحزب، ووزير الداخلية لاسلو بيروش، ورئيس هيئة أمن الدولة غابور بيتير، ورئيس الاستخبارات الخارجية المجرية فلاديمير فاركاش، ونائب وزير التجارة الخارجية زلتان فاش وغيرهم.
وفي هذه الأحداث شارك إلى جانب المثقفين عمال المصانع الكبرى فضلاً عن جزء كبير من الشبيبة. غير أنه خلافاً لما حصل في بولندا لم تتزعم القيادة السياسية الجديدة هذه الحركة وإنما كانت في مؤخرتها.
في ظل هذه الأوضاع كانت موسكو تخشى من أن يؤدي انفلات نزعات التحرر في المجر من ربقة الوصاية السوفيتية إلى امتدادها للدول الاشتراكية الأخرى، ولاسيما أن مواقع موسكو الإيديولوجية قد ضعفت بعد انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وفضح عبادة الفرد. وفي هذه الظروف لم تكن موسكو تعارض إدخال بعض الشخصيات المستقلة في الحكومة المجرية بل كانت مستعدة للاعتراف بمطالب الثوار المتعلقة بانتقاد السياسة الستالينية. غير أنه لم يكن بوسعها على الإطلاق تحمل فقدان الشيوعيين للسلطة وانتقالهم إلى المعارضة.
وقد كانت موسكو تفضل تجنب إراقة الدماء، ولكنها، من جهة أخرى، جاهزة للجوء إلى القوة في حال عزم إحدى الدول الاشتراكية في أوروبا على الخروج من تبعية الاتحاد السوفيتي حتى وإن اتخذت سياسة الحياد تجاه المعسكرين. فمن شأن ذلك، في اعتقادها، أن يؤدي إلى انهيار المنظومة الاشتراكية بكاملها.
وبعد ظهر اليوم ذاته انطلقت في العاصمة المجرية مظاهرة ضخمة شارك فيها أكثر من 200 ألف شخص.وقد أدان السكرتير الأول للحزب المتظاهرين بشدة في المساء عبر الراديو. ورداً على ذلك حاول بعض المتظاهرين اقتحام ستوديو البث الإذاعي وعند ذلك وقع اصطدام مسلح مع حراس مبنى الإذاعة مما أسفر عن وقوع قتلى وجرحى. وقام المتمردون بتجريد بعض وحدات الجيش المجري من السلاح وتسنى لهم احتلال مكاتب صحيفة الحزب المركزية ومطابعها وكذلك أحد مستودعات الأسلحة ومحطة القطارات في بودابست. وفي هذه الأجواء أصدر مدير شرطة المدينة أوامره بعدم إطلاق النار على المتمردين.
وفي الساعة 11 من مساء اليوم المذكور بدأ تحرك لقوات السوفيتية نحو بودابست لتقديم الدعم إلى الجيش المجري من أجل" إحلال النظام وتأمين الظروف للعمل السلمي".
وفي 24 تشرين 1/ أكتوبر وصل إلى بودابست عضوا المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ميكويان وسوسلوف وعقب لقائهما بالمسؤولين الحزبيين المجريين أوصيا بعزل إرنو جيرو على الفور واستبداله بيانوش كادار، الذي أُفرِج عنه مؤخراً. وفي اليوم نفسه وقع اصطدام بين المتظاهرين والقوات السوفيتية أمام مبنى البرلمان. وقد أعلن إمري ناجي عقب استلامه رئاسة الحكومة عن عزمه تلبية المطالب المتعلقة بانسحاب القوات السوفيتية وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
وبعد استقالة جيرو من منصب السكرتير الأول للجنة المركزية لحزب العمل الاشتراكي المجري وتعيين كادار بدلاً منه عاد ميكويان وسوسلوف في 26 تشرين 1/ أكتوبر إلى موسكو. وقد نقلا إلى مطار بودابست داخل دبابة. وعقب ذلك بعث أندروبوف برقية إلى وزارة الخارجية جاء فيها "يستعد المعارضون والرجعيون على نحو نشيط لنقل الصراع إلى الشارع ويبدو من أقوال المسؤولين الحزبيين المجريين خلال لقاءاتنا معهم أنهم في حالة حيرة وارتباك. وفي اعتقادنا لن يقدر الرفاق المجريين في الوضع الناشئ على التحرك بجرأة وحزم دون مساعدة قوية من جانبنا".وأكد أندروبوف على أن أجهزة أمن الدولة في المجر لم تظهر الحزم اللازم في الصراع ضد العناصر المعادية للاشتراكية التي تتصرف بكل وقاحة. وأشار إلى أنه في حال انسحاب القوات السوفيتية فإن الأمريكان وحلفاءهم سيأتون إلى المجر على الفور وأنه لهذا السبب ينبغي سحق فصائل المتمردين.
وفي 28 من الشهر نفسه استمرت المعارك في العاصمة المجرية. ولكن الحكومة أصدرت أوامرها بوقف إطلاق النار وعودة الفصائل إلى أحيائها في انتظار التعليمات. وعبر الإذاعة أعلن رئيس الوزراء الجديد إمري ناجي أن حكومته توصلت إلى اتفاق مع السوفيت حول الانسحاب الفوري لقواتهم من بودابست. وأشار إلى أنه سيتم ضم الفصائل المسلحة المؤلفة من العمال والشبيبة إلى قوام الجيش المجري النظامي. وقد استقبل المواطنون بعاصفة من الابتهاج الخبر المتعلق بخروج القوات السوفيتية واعتبروا ذلك إنهاءً للاحتلال السوفيتي.
وفي عددها الصادر يوم 28 تشرين 1/ أكتوبر نشرت صحيفة البرافدا تقرير ميكويان وسوسلوف حول محادثاتهما في بودابست حيث أشير إلى استعداد السوفيت للموافقة على برنامج الإصلاحات الديمقراطية في المجر، شريطة أن يظل هذا البرنامج تحت سيطرة الحزب الحاكم، وأن تبقى المجر ضمن منظومة حلف وارسو. ولكن هذا الكلام كان في واقع الأمر تمويهاً للنوايا الحقيقية المخفية للقيادة السوفيتية. والأمر نفسه بالنسبة للتعليمات الموجهة إلى القوات السوفيتية بخصوص الانسحاب من بودابست حيث كان الكرملين يتطلع إلى كسب الوقت اللازم لنيل موافقة دول حلف وارسو ويوغسلافيا والصين على سحق التمرد بأي شكل من الأشكال، ولكي تمثل قوات التدخل السوفيتية مجمل المعسكر الاشتراكي لتكون المسؤولية جماعية عن هذه العملية. وقد توجه خروشوف ومالنكوف إلى جزيرة بريوني للقاء جوزيف بروز تيتو في محاولة لإقناعه باستحسان التدخل العسكري السوفيتي في المجر. وبعد ساعات طويلة من المباحثات (من الخامسة مساء وحتى السابعة صباحاً) تسنى للضيفين انتزاع موافقة الزعيم اليوغسلافي على موقف موسكو الخاص بحل الأزمة المجرية.
وفي 29 تشرين 1/ أكتوبر ناشد إمري ناجي الشعب على الفور بإلقاء السلاح. ولكن وجود الدبابات السوفيتية في بودابست كان يثير غيظ الناس. وقد انطلقت في ذلك اليوم مظاهرة ضخمة شارك فيها طلاب الجامعات وتلامذة المدارس الثانوية والعمال ثم انضم إليهم الجنود الفارون وتوجهت نحو تمثال بطل ثورة عام 1848 الجنرال يوسف بيم. وفي هذا الوقت أفرج بناء على أوامر رئيس الحكومة الجديد إمري ناجي عن الكاردينال جوزيف ميندرزنتي، المعروف بمناهضته للنازية ثم للشيوعية، بعد أن كان محكوماً بالسجن المؤبد. واحتشد أمام مبنى البرلمان أكثر من مئة وخمسين ألف متظاهر حيث قاموا بإسقاط تمثال ستالين. وتشكلت فصائل مسلحة أطلق على نفسها تسمية" مناضلون من أجل الحرية". وقد بلغ عدد أفراد هذه الفصائل زهاء 20 ألف شخص وكان ضمنهم معتقلون سياسيون سابقون حررهم الشعب الثائر من السجون (8 آلاف معتقل). وبسط هؤلاء سيطرتهم على أحياء العاصمة وأسسوا قيادة برئاسة الجنرال بال ماليتير وسموا أنفسهم من جديد بالحرس الوطني. وفي مصانع ومعامل المدينة بدأت تتشكل خلايا السلطة الجديدة، التي طرحت مطالب سياسية واجتماعية وضمنها سحب القوات السوفيتية من بودابست ثم من البلد عموماً. ومما أثار حفيظة السوفيت بشكل خاص إعادة نشاط الحزب الاشتراكي الديمقراطي وتشكيل حكومة متعددة الأحزاب.
ورغم استلام إمري ناجي رئاسة الحكومة فإن القيادة الحزبية ذات الصبغة الستالينية كانت تسعى إلى عزله مما زاد من تفاقم الوضع.
سحبت القوات السوفيتية من بودابست، ولكنها تركزت في منطقة المطار القريبة من العاصمة. وكان السفير أندروبوف يبلغ الكرملين بشكل متواصل عن تطور الوضع.
وبناء على طلب القيادة الحزبية السوفيتية وصل إلى موسكو وفد صيني برئاسة ليو شاو تشي. وحسب قول خروشوف فإن الزعيم الصيني أعلن أن على القوات السوفيتية الخروج من المجر وإتاحة الامكانية للطبقة العاملة هناك لكي تعمل بنفسها على "سحق الثورة المضادة". وأبلغ الزعيم السوفيتي رئاسة اللجنة المركزية (المكتب السياسي) في 31 تشرين 1/ أكتوبر بمضمون جواب الصينيين. ولكنه أصر على ضرورة الاستخدام الفوري لقوات المارشال ايفان كونيف. وقد أصدرت القيادة السوفيتية إلى كونيف أمراً بوضع قواته في حالة الجاهزية القصوى. ولم يجرِ إطلاع الوفد الصيني على ذلك. وقد توجه المسؤولون الصينيون إلى مطار فنوكوفو العسكري الرسمي بضواحي موسكو وهم على قناعة تامة بأن التدخل العسكري السوفيتي لن يتم. وتقرر أن يأتي جميع أعضاء القيادة الحزبية السوفيتية إلى المطار للتحدث مع ليو شاو تشي حول" العمل لخير وصالح الشعب المجري". وفي نهاية المطاف استسلم الوفد الصيني لإلحاحات السوفيت. وعلى هذا النحو تم ضمان موافقة الصين على التدخل العسكري في المجر.
وفي الأول من تشرين 2/ نوفمبر بدأ اقتحام القوات السوفيتية للمجر بأعداد كبيرة. فقد اجتازت 3 آلاف دبابة حدود المجر من جهة منطقة الكوربات الأوكرانية وكذلك من جانب رومانيا. ورداً على احتجاج ناجي أكد السفير السوفيتي أندروبوف أن هذه القوات جاءت فقط لاستبدال القوات المرابطة هناك. وقد حذر رئيس الحكومة المجرية السفير السوفيتي بأن المجر ستنسحب من حلف وارسو احتجاجاً على التدخل السوفيتي العسكري. وفي المساء أعلنت حكومة ناجي عن خروجها من الحلف والتزامها الحياد إزاء المعسكرات وتوجهها إلى الأمم المتحدة بشكوى حول هذا التدخل.
ولكن هذا كله أثار القلق الشديد لدى الحكومة السوفيتية . ولكن لسوء حظ المجريين صرف العدوان الثلاثي على مصر اهتمام الرأي العام العالمي عن أحداث المجر. فكما هو معروف أدانت الولايات المتحدة أعمال إنجلترا وفرنسا وإسرائيل وبذلك حدث انشقاق واضح في معسكر الحلفاء الغربيين. ولهذا السبب لم تظهر أي بوادر يمكن أن تشير إلى توجه الدول الغربية لمساعدة المجر. وعليه فإن الوضع الدولي القائم آنذاك كان ملائماً لتدخل السوفيت العسكري في أحداث المجر. وقد ربطت الدعاية السوفيتية الرسمية في حزمة واحدة الحرب في الشرق الأوسط مع الأحداث الدائرة في المجر مشيرة إلى أن ذلك مجرد مؤامرة إمبريالية ضد " معسكر السلام والديمقراطية". وهذا التفسير، إلى جانب الزعم بأنه يجري في المجر قتل الشيوعيين عقب اندلاع تمرد معاد للثورة، اكتسب نجاحاً ملحوظاً لدى سكان الاتحاد السوفيتي. ولهذا فإنهم تلقوا أحداث المجر إما بعدم اكتراث أو بشعور من الارتياح من أن المشاكل والإزعاجات قد انتهت لحسن الحظ.
في مساء الأول من تشرين 2/ نوفمبر استولت القوات السوفيتية على المطارات المجرية. وبغية تمويه الاستعدادات العسكرية من جانب موسكو اقترح أندروبوف في اليوم التالي على الحكومة المجرية تعيين وفدين الأول عسكري والثاني سياسي لبحث انسحاب القوات السوفيتية من الأراضي المجرية والقضايا السياسية المنبثقة عن عضوية المجر في حلف وارسو. وتقرر الشروع في هذه المباحثات يوم الثالث من الشهر نفسه. وقد قبلت الحكومة هذا الاقتراح لعدم رغبتها في تعقيد المسألة بينما تابعت القوات السوفيتية انتشارها لتنفيذ العملية.
وفي ذلك الوقت كانت القيادة السوفيتية تعكف على إعداد الحكومة المجرية البديلة، التي ينبغي أن تحل محل حكومة ناجي"المعادية للثورة". وقد وافق السكرتير الأول لحزب الشغيلة المجري يانوش كادار على أن يكون رئيساً للحكومة المقبلة، التي تشكلت في أراضي الاتحاد السوفيتي وأعلن عنها رسمياً في الرابع من تشرين 2/ نوفمبر عندما اقتحمت الدبابات السوفيتية بودابست.وقد نقل كادار إلى بودابست في مصفحة سوفيتية.
ومن جهة أخرى تم عشية ذلك اليوم إنشاء حكومة ائتلافية برئاسة ايمري ناجي. وقد ضمت هذه الحكومة ثلاثة وزراء عن الحزب الحاكم وثلاثة عن حزب المالكين الصغار واثنين عن جمعية "بيتيفي". كما أدرج في قوام الحكومة كمستقل الجنرال بال ميليتر. واتفقت جميع الأحزاب على أن المجر لن تنضم إلى أي حلف عسكري وستبقى دولة محايدة. وخلافاً للدعاية السوفيتية فإن العمال المجريين لم يطالبوا بإعادة الرأسمالية ولم يرفضوا جوهر البرنامج الاقتصادي الاشتراكي، لكنهم دعوا إلى التخلص من مساوئ البيروقراطية ووضع حد للاستبداد وعربدة أجهزة أمن الدولة.
وفي 3 تشرين 2/ نوفمبر افتتحت المباحثات بين الجانبين المجري والسوفيتي في مبنى البرلمان ببودابست وتظاهر السوفيت بأنهم يساومون على مواعيد خروج القوات. واتفق الجانبان على عقد جلسة ثانية في الساعة العاشرة مساء بالمجمع العسكري التابع للقوات السوفيتية والكائن في ضواحي العاصمة المجرية. وأثناء ذلك اجتمع مجلس الأمن الدولي لمناقشة الأزمة المجرية وأعلن أن الوضع يتجه نحو الحل السلمي حيث تجري بين البلدين مباحثات بخصوص انسحاب القوات السوفيتية. ولذلك أُجلت جلسة المجلس المقررة لبحث التدخل السوفيتي. وبعد أن اتضحت كافة الأمور للعيان واجتمع مجلس الأمن من جديد لجأ السوفيت إلى استخدام حق النقض ضد القرار المتعلق بالتدخل العسكري السوفيتي في المجر. ولكن الجمعية العامة للأمم المتحدة أدانت بشدة قمع حقوق الشعب المجري بالقوة العسكرية.
ولدى وصول الوفد العسكري المجري برئاسة الجنرال باليتير إلى مقر قيادة القوات السوفيتية لمتابعة المباحثات قام رئيس هيئة أمن الدولة (الكي جي بي) الجنرال ايفان سيروف ورجاله باعتقال الوفد غدراً. وعندما تعذر على ناجي الاتصال بوفده العسكري أدرك ان السوفيت خدعوه. ومع ذلك رفض إعطاء الأوامر بإطلاف النار. وقد ألقى ناجي بيانه الأخير عبر الإذاعة حيث قال" في فجر هذا اليوم شنت القوات السوفيتية هجوماً على عاصمتنا في نية واضحة للإطاحة بالحكومة المجرية الديمقراطية الشرعية والآن تخوض قواتنا المعارك دفاعاً عن الوطن والحكومة تقوم بعملها".
وهكذا ففي صباح الرابع من تشرين 2/ نوفمبر بدأت القوات السوفيتية عملية"فيخر" (الإعصار) حيث فتحت المدفعية وابل نيرانها على العاصمة المجرية. ولم تكن القوتان المتصارعتان متكافئتين على الإطلاق حيث أن القوات السوفيتية كانت تفوق أفراد الفصائل المجرية المسلحة عدداً، ناهيك عن الأسلحة والمعدات العسكرية. ورغم ذلك فإن حماة الثورة المجرية قاتلوا ببطولة فائقة. وفي غضون ثلاثة أيام كانت الدبابات السوفيتية تقصف العاصمة المجرية على نحو متواصل. وفي الأقاليم لم تتوقف المقاومة المسلحة لغاية 11 تشرين 2/ نوفمبر.ولم تشارك معظم قطعات الجيش المجري في المعارك ضد القوات الغازية لإدراك هذه القطعات بعدم جدوى المقاومة باستثناء بعض الوحدات العسكرية والثوار الذين كانوا يرشقون الدبابات والمصفحات الروسية بالقنابل وقنابل مولوتوف الحارقة.
لم يهرع أحد لمساعدة هذا البلد الأوروبي الشرقي الصغير. ولهذا جرى سحق الثورة التحررية المجرية بجنازير الدبابات السوفيتية دون مبالاة الدول الغربية. وبعد إخماد المقاومة أجرت الإدارة العسكرية السوفيتية وأجهزة أمن الدولة حملات اعتقال جماعي للمواطنين المجريين وجرى نقل أعداد كبيرة منهم إلى الاتحاد السوفيتي.
وقد لجأ ايمري ناجي ومعاونوه إلى السفارة اليوغسلافية. ولم يرغب الرئيس تيتو، الذي وافق على عملية التدخل العسكري، بتسليمهم للسلطات السوفيتية وتلطيخ سمعته وتحمل مسؤولية المشاركة في قتل المسؤولين الشرعيين المجريين. وبعد أسبوعين من المفاوضات الطويلة قدم كادار رئيس الحكومة الجديد المعين من قبل السوفيت ضمانات خطية بأنه لن يتم ملاحقة ايمري ناجي ورفاقه لنشاطهم السياسي، وأشار إلى أنه بوسعهم مغادرة السفارة اليوغسلافية حيث سيتم إيصالهم مع عائلاتهم إلى منازلهم. ولكن الحافلة التي أقلت ناجي ورفاقه بصحبة اثنين من الدبلوماسين اليوغسلافيين اعتُرِضت من قبل ضباط سوفيت مالبثوا أن ألقوا القبض عليه ونقلوه إلى رومانيا. ولم تكترث الحكومة السوفيتية لاحتجاج يوغسلافيا على ذلك. وفيما بعد جرت محاكمة سرية لناجي ثم أعدم في عام 1958. ولقي وزير الدفاع السابق الجنرال بال ماليتير نفس المصير.
شارك في عملية"فيخر" زهاء 60 ألف عسكري سوفيتي و6 آلاف دبابة. وقد أدت هذه الأحداث الدرامية إلى مقتل 720 شخصاً وجرح 1540 آخرين من الجانب السوفيتي. كما لقي مصرعهم حوالي 3 آلاف مجري نصفهم تقريباً من العمال. وتسنى لزهاء 200 ألف من المجريين الهرب إلى الغرب عبر حدود المجر مع ألنمسا. ورغم ذلك فإن الثورة المجرية وأساليب سحقها أنزلت ضربة سياسية ومعنوية قوية بسمعة العقيدة الشيوعية.
أحدثت ثورتا المجر وبولندا أصداء قوية في الاتحاد السوفيتي حيث شهد خريف عام 1956 حالة من التذمر والهيجان في صفوف طلبة جامعتي موسكو ولينينغراد وغيرهما من المعاهد التعليمية العليا حيث سعى الطلاب إلى إقامة" دمقراطية مباشرة" في منظمات الكمسمول المحلية وكانوا ينتخبون قادتهم ويعلقون الجرائد الحائطية غير المقيدة بالرقابة ويخوضون تقاشات حول حرية الحياة الثقافية والعلمية ومسألة عبادة الفرد. وفي تلك الأثناء كان بعض الطلبة والكاتبان قسطنطين باوستوفسكي وفلاديمير دودينتسيف يتحدثون علناً عن أن الاتحاد السوفيتي تحكمه طبقة بيروقراطية جديدة تحتقر الشعب وتهلك الثقافة الروسية.
عقب إخماد الثورة تصرف النظام الجديد بصورة وحشية حيث بدأت تعمل المحاكم الميدانية وجرى حظر المجالس العمالية وتم حل اتحاد الكتاب واتحاد الصحفيين فضلاً عن اعتقال الكتاب البارزين والآلاف من المعارضين (حوالي خمسة آلاف شخص).
كان الدرس الرئيسي الذي تعلمه أندروبوف من أحداث المجر بسيطاً. فهو يكمن في أن الحزب الشيوعي بوسعه فقدان السلطة في البلد لو سمح لنفسه تخفيف التأثير الإيديولوجي والرقابة وإذ اختفى الرعب في نفوس المواطنين. وقد استنتج رئيس الكي جي بي المقبل بأن الحرية إذا منحت حتى بجرعات قليلة ستشكل على سلطة الحزب والحكومة خطراً أكبر بكثير من الصعوبات الاقتصادية أو جواسيس الأعداء أو أمور أخرى. وقد كانت هذه الاستنتاجات تتوافق مع تصوراته عن الحياة والسياسة. فإن الهلع الذي استولى عليه في بودابست أثناء الثورة ترسخ في ذاكرته لسنوات طويلة إذ أنه رأى كيف اقتنص المتمردون عرفياً من رجال أمن الدولة المجريين ولم يرغب، بالطبع، في أن يحدث معه شيء مماثل لذلك في الاتحاد السوفيتي. وفي ضوء ذلك قام أندروبوف فور استلامه في عام 1967 منصب رئيس هيئة أمن الدولة(الكي جي بي) بتأسيس فرع خاص لمناهضة المعارضين للنظام الشيوعي وهو الفرع الخامس.
1366 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع