بذر الشقاق في العالم… هل تحصد أمريكا ما زرعته؟

                                                          

                               هيفاء زنكنة

بذر الشقاق في العالم… هل تحصد أمريكا ما زرعته؟

هل ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ خسارة الرئيس دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية، هو شكل من أشكال الشقاق المجتمعي (تصدع وانهيار العلاقات) الذي طالما اقتصر على بلدان العالم الثالث؟

وإذا كان سبب الشقاق في العالم الثالث، خاصة في البلدان العربية، هو أمريكا، فمن هي الجهة المسؤولة عن بوادر ما يُسمى بالشقاق الأمريكي المستمر حتى بعد التخلص من ترامب؟ أم أن أمريكا باتت تحصد ما زرعته من في بلدان أخرى، كما نرى من انعكاس سياستها في العراق؟
هناك، طبعا، أجوبة جاهزة تواجهنا عند النظر في بروز الانقسامات، المفاجئ، أحيانا، في البلدان العربية، ومن بينها أن الانقسامات الطائفية والعرقية والمناطقية، موجودة ومتجذرة في المجتمعات، إلا أنها حبيسة الأنظمة الدكتاتورية التي نجحت في قمعها، أو أحكمت تغطيتها وما أن أزيح الغطاء، بسقوط الدكتاتورية، حتى برزت إلى السطح بقوة كبيرة.
لا تقتصر هذه الأجوبة على القوى الاستعمارية لتبرير سياستها بل تتجاوزها الى النخبة في البلدان المُحتلة بعد تسللها، جراء عدم الفهم أو الكسل العقلي، إلى وعيهم أو لا وعيهم. حيث يصبح المثقف أو الباحث الأكاديمي أداة جلد للذات وإقناع بأن الشعب المُستَعمَر هو مُرتكب الخطيئة الأصلية، والسياسة الاستعمارية، فعل اُريد منه، تحرير الناس من خطاياهم بحسن نية. ولا يُشار، إطلاقا، ولو من باب التحفيز العقلي للنقاش، إلى أن هذه الانقسامات المجتمعية، إن وجدت حقا، كانت في طريقها الى الاضمحلال.
لكن السنوات الأخيرة، تزامنا مع تزايد الأسئلة عن الشقاق في داخل أمريكا وتصاعد أصوات التحذير من التدخل الروسي والصيني، كما لاحظنا في فترة الانتخابات الرئاسية، طفا على سطح البحوث الأكاديمية ومنها إلى أجهزة الإعلام، مصطلح قديم كان قد دُفع جانبا بعد أن بات واقعا يوميا في عديد البلدان، في أرجاء العالم، ومنها البلدان العربية. المصطلح باللغة الإنكليزية هو « شيزموجَنسيس» وأصله يوناني. تم تطويره من قبل عالم الأنثروبولوجيا الموسوعي غريغوري بَيتسون، في ثلاثينيات القرن الماضي، لتفسير أشكال معينة من السلوك الاجتماعي بين المجموعات. معنى المصطلح هو « الانشقاق» وما يتمظهر بشكل انهيار علاقة أو نظام جراء زرع الانقسامات. وللتوضيح أكثر، أنه ببساطة خلق الانقسام أو سياسة «فّرق تسُد» المتعارف عليها عند توصيف السياسة الاستعمارية في البلدان المُستَعمَرة.
طوّر بَيتسون مفهوم الشقاق/ الانقسام، لأول مرة أثناء مراقبة التفاعلات الاجتماعية لقبيلة في غينيا الجديدة. وسرعان ما تحول ما بدا في ظاهره خلاصة أنثروبولوجية بريئة، لدراسة ميدانية عن قبيلة نائية وشبه معزولة عن العالم الخارجي، إلى سياسة قام بَيتسون، فيما بعد، بتطبيقها أثناء عمله في مكتب الخدمات الاستراتيجية، التابع لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي أي) في الأربعينيات. ولا يهمنا هنا أن بَيتسون ندم بشدة فيما بعد على هذا المسار في عمله وهاجم انخراط العلماء في سياسات الدول، مثلما فعل الكثيرون من علماء الذرة بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما.

وجد بَيتسون أن بعض السلوكيات الطقوسية أما تثبط أو تحّفز العلاقة الانشقاقية في أشكالها المختلفة. وبالإمكان رؤية تطبيق ذلك، في العراق منذ التسعينيات تهيئة لغزوه عام 2003. وتطور ذلك تحت الاحتلال، حيث تم التركيز على تحفيز الانقسام بين السنة والشيعة، مثلا، مع تقليص الرغبة، بشكل تدريجي، من كل الجوانب، لاتخاذ خطوات قد تساعد على تخفيف التوتر في العلاقة المتأزمة، بشكل متزايد، خاصة، مع قيام أحد الطرفين أو كليهما بإرتكاب أعمال انتقامية، تُضّخم تأثيرات التفاعلات السلبية السابقة، والتذكير المستمر بها. لتصبح آلية التعامل اليومي مبنية على هوس « نحن» الأخيار و «هم» الأشرار، وتجريد «الآخر» من إنسانيته لتسهيل عملية « إجتثاثه».
قد لا تكون أبحاث بَيتسون الأنثروبولوجية العلمية نقطة الانطلاق الأولى لسياسة فرق تسد القديمة، إلا أنها ساعدت على أن يكون المفهوم ونجاحاته الاستراتيجية في مجالات متعددة، في أنحاء العالم، مادة تُدرس في الدوائر الاستخبارية والوكالات الحكومية والكليات العسكرية، سوية مع مادة التحليل النفسي المجتمعي كأداة فاعلة في خلق الانقسامات، تؤدي بالنتيجة إلى توليد سلوكيات مدمرة للذات والرضوخ للهيمنة في آن واحد. وتبين الدراسات أن المذابح البشعة، بين قبائل الكونغو ومحيطها، قبل سنوات، كانت نتيجة مباشرة لسياسة فرنسية مدروسة للسيطرة على المنطقة.
ولا يخلو المنهج التدريسي من استمرارية تلقي نتائج الأبحاث الميدانية لعلماء أنثروبولوجيا متعاونين مع السي آي أي، كما فعل بَيتسون. فأثناء التهيئة لغزو العراق وما بعده، جنّدت الوكالة علماء في برنامج يساعدهم على فهم نفسية من يسمونهم «سكان البلد المُضيّف» وكيفية التعامل معهم لـ «محاربة التمرد» أي مقاومة الاحتلال، متجاهلين بذلك العهد المهني الأخلاقي حول عدم إلحاق الضرر بأحد. وتلعب وحدات الحروب النفسية للكيان الصهيوني، بشتى مسمياتها، دوراً كبيراً هنا، بتوظيف كبار علماء النفس من بينهم من حصل على جائزة نوبل، عندما ترك عمله في جيش الكيان، ليختص بالاقتصاد مثل دانييل كانيمان.
هل تحصد أمريكا، الآن، ما بذرته من شقاق في أرجاء العالم؟ تؤكد الدراسات والمقالات الصحافية، أن هناك ما يشير إلى تطبيق ذات السياسة التي كانت أمريكا تنتهجها ولكن، هذه المرة، من قبل أعدائها. حيث يُعزى صعود السياسات المتطرفة في أمريكا وأوروبا الغربية إلى «سياسة مدفوعة من قبل روسيا والصين والعديد من الجهات العدائية الأخرى التي يمكن أن تستفيد من الطريقة الفعالة، من حيث التكلفة، لإضعاف الأنظمة بدون مواجهة الغرب مباشرة «. وكان الاقتصادي الأمريكي المعروف جيمس غالبريث قد حذر في عام 2011 من سقوط أمريكا قائلا: «يمكن للدول الكبيرة أن تفشل، لقد تم ذلك في عصرنا». إلا أنه لم يوجه اللوم إلى «الأعداء» بل إلى سياسة أمريكا الخارجية، خاصة شن الحرب العدوانية ضد العراق، موضحا أن «هناك سببا لضعف الإمبراطوريات. فالحفاظ على الإمبراطورية يتطلب حربًا دائمة بلا نهاية. والحرب مدمرة، من وجهة نظر قانونية وأخلاقية واقتصادية».
سواء كان الشقاق المتهمة روسيا والصين بتجذيره في أمريكا أو الحروب التي شنتها وتشنها أمريكا ضد عشرات الدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية السبب الرئيسي لضعفها، فإن رصد انعكاسات سياسة زرع الانقسام في العراق، مثلا، لا يترك شكا في قدرة هذه السياسة على استهلاك طاقة الشعب، وإدخاله في دائرة مغلقة، السبيل الوحيد للخروج منها هو قدرة الشعب على البحث عن جذور الخلافات المزعومة داخل الدائرة، والوعي بسيرورة وكيفية التحكم بالعلاقات المجتمعية من خارج الدائرة، وإلا انتهى الشعب بتدمير نفسه.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1260 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع