الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
يسرى سعيد ثابت في الذكرى الأولى لرحيلها - الجزء الثاني
في مثل هذه الأيام من العام الماضي غادرت عالمنا حمامة عراقية الانتماء؛ عروبية الولاء بعد ما يزيد عن سبعة عقود قضت معظمها بعيدة عن موطنها، متنقِّلة في العالم العربي وأروبا، ليكون آخر أعشاشها في الجزائر.
لقد رحلت بنت دجلة والفرات التي حفظنا اسمها منذ طفولتنا، وكان صوتها مدويا في إذاعة بغداد، فنُقش اسمها في ذاكرة ذلك الجيل في مطلع العهد الجمهوري في العراق.
رحلت (يسرى سعيد ثابت) أصغر بنات (سعيد الحاج ثابت) والسيدة (نبيهة مريود)، وغادرت عالمنا بعد أن غادرت بغداد ثم تنقلت بين دمشق وباريس والجزائر وهي عالية الرأس أبيَّة النفس على الرغم مما أصابها من ظروف ومواقف صعبة وقاسية لا يتحملها الرجال.. رحلت لترقد أخيرا بسلام بعد تركت الأثر الطيب والسمعة العطرة.
لقد كانت يُسرى سعيد ثابت أيقونة عربية كُتبت قصائد فيها تُمجِّد شجاعتها ونضالها البطولي، كما اجتمع المحامون من كل بقاع الوطن العربي، وشكلوا فريق دفاع عنها، ورافق اسمها اسم مناضلات عربيات مثل جميلة بوحيرد ولويزة أحريز وغيرهما لتبقى بصماتهن في سجلات التاريخ الخالدة.
لقد نُشرت العديد من المقالات من مختلف الاتجاهات والتيارات في مختلف المجلات ومواقع التواصل الاجتماعي عند الإعلان عن خبر وفاة يُسرى سعيد ثابت في مثل هذه الأيام من العام الماضي وجميعها تتحدث عن شجاعة يُسرى سعيد ثابت ومواقفها الثابتة وشجاعتها المشهودة في بغداد.
يسرى سعيد ثابت (1937-2021):
ولدت يسرى سعيد ثابت في بغداد في بيت عز مشهود له بالوطنية: فوالدها سعيد الحاج ثابت (1883-1941) النائب في البرلمان عن الموصل والذي انخرط في العمل القومي على المستويين العراقي والعربي. ووالدتها السيدة (نبيهة مريود)؛ وهي سيدة سورية فاضلة وأخت الثائر السوري الشهيد (أحمد مريود) والتي قَدِمت من سوريا إلى العراق إثر طردها مع عائلتها من قبل الاحتلال الفرنسي.
ويسرى هي أصغر أخواتها وقد أعقبت شقيقها إياد سعيد ثابت (1930-2015) مباشرةّ، وشاءت الأقدار أن تكون سيرتها الوطنية مُلازمة لسيرة شقيقها إياد في معظم مراحلها.
انتقلت (يسرى سعيد ثابت) إلى الموصل؛ موطن عائلتها؛ حيث درست فيها المرحلة الابتدائية، ثم رجعت إلى بغداد وانتسبت إلى كلية الآداب/ فرع الاقتصاد في جامعة بغداد.
وخلال فترة دراستها في أواسط خمسينيات القرن الماضي كان الجو الشعبي معبأً ضد نوري سعيد وسياسته غير المنسجمة مع تطلعات الشباب للقضايا العربية. فشاركت وهي طالبة جامعية في الانتفاضة الشعبية ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 رغم العنف المفرط الذي قابل فيه نوري سعيد الطلبة.
لقد اختارت يسرى سعيد ثابت الخط القومي الذي كان في ذلك الوقت يمثل توجه أغلب الشباب العربي ضد تجزئة الأمة العربية وضد علاقات الأنظمة بالدول الاستعمارية وضد الدكتاتوريات.
وفي جامعة بغداد تعرَّفت (يسرى سعيد ثابت) برفيق دربها، ثم شريك حياتها، الشاب السوري الجنسية (عبد الحميد مرعي الحسين) والمعروف باسم (حميد مرعي) والذي قدِم إلى بغداد عام 1956 والتحق بكلية الآداب والعلوم/ فرع الاقتصاد، والذي كان طالباً في الكلية ذاتها.
لقد وجدت (يسرى سعيد ثابت) في خطيبها (حميد مرعي) توجهات عروبية مماثلة لتوجهات عائلتها، فتوطدت علاقتها به وتم عقد قرانهما في المحكمة في بغداد، ثم تم الزواج الرسمي لاحقا في بغداد.
العراق فيما بعد ثورة 14 تموز:
بعد أن أسقط (الضباط الأحرار) الحكم الملكي في العراق في ثورة 14 تموز 1958، انفرد الزعيم عبد الكريم قاسم (1914-1963) بالسلطة، مما جعل زملاءه بالأمس (الضباط الأحرار) يخططون للانقلاب عليه.
لقد بدأ الصراع بين العسكريين، وأخذ فريق كبير من الضباط ذوي الميول القومية يتكتلون ويتلقون الدعم المعنوي من الرئيس جمال عبد الناصر عبر رئيس إذاعة (صوت العرب).
وفي 30 سبتمبر 1958 عزل رئيس الوزراء (عبد الكريم قاسم) نائبه (عبد السلام عارف) من منصبه كنائب رئيس لوزراء ووزير للداخلية. في 7 تشرين الأول عام 1959، تَعرَّض عبد الكريم قاسم إلى مَحاولة اغتيال في شارع الرشيد، واشترك في هذه المحاولة ستة أشخاص في العملية وهم: إياد سعيد ثابت وخالد علي الصالح وأحمد طه العزوز وسليم عيسى الزيبق والسوري حميد مرعي وسمير عزيز النجم وعبد الوهاب الغريري.
وفي الثامن من آذار/ مارس 1959 أعلن آمر موقع الموصل العقيد الركن عبد الوهاب الشَّواف (1916-1959) الثورة من الموصل. وقد انتهت في 24 ساعة، ولكنها ألقت بضلالها الثقيلة على العراق أجمع. وكان من نتائجها المباشرة استباحة مدينة الموصل لمدة ثلاثة أيام، وقتل وإعدام العديد من المواطنين في الموصل وكركوك، كما أعدم في أم الطبول كوكبة من كبار ضباط الجيش العراقي وعلى رأسهم ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سرّي.
يسرى سعيد ثابت في محكمة المهداوي:
وفي بغداد تشكلت محكمة المهداوي (يرأسها فاضل عباس المهداوي/ ابن خالة عبد الكريم قاسم) وكانت جلساتها تُنقل على الهواء مباشرة في الراديو والتلفزيون واستخدمت أسلوب إهانة الموقوفين أثناء البث المباشر للجلسات وشهدت جلساتها الفوضى العارمة والتقاذف بالسب والشتائم والكلام البذيء الذي كنا نسمعه في طفولتنا من راديو بغداد.
لقد تمت إحالة العديد من المشتبه بهم في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وثورة الشَّواف إلى محكمة المهداوي، ومن ضمنهم قائد حركة مايس عام 1941م ورئيس الوزراء الأسبق رشيد عالي الكيلاني، والذي تجاوز الثمانين من العمر، ومجموعة من كبار ضباط الجيش العراقي آنذاك.
وكان على رأس المتهمين في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم (يسرى سعيد ثابت) وأخيها إياد وخطيبها حميد مرعي وابن أختها زهير ثابت وعدد كبير من عائلتها في الموصل، حيث استشهد تحت التعذيب اثنان من أولاد أختها.
لقد أودعت (يسرى سعيد ثابت) في سجن سيئ السمعة بهدف تعذيب شقيقها إياد، وكانت المرأة الوحيدة في المحكمة. وتعرّضت لتعذيب شديد وسيقت لمحكمة المهداوي.
لقد أدهش صمود (يسرى سعيد ثابت) في المحكمة وثباتها واستهزاؤها بجلادها كل المتابعين لهذه المحاكمة؛ ليس في العراق وحده بل في المشرق العربي. وكان صوتها عاليا قويا مدويا يهز أرجاء قاعة المحكمة تقابله النساء العراقيات في كل مكان بالزغاريد لهذه الشابة الشجاعة التي لا تعرف الخوف أبدا.
وفي بغداد خرجت المظاهرات الضخمة تأييدا ليسرى، على الحدود السورية اللبنانية كانوا يهتفون: (يا كريم يا جبان .. يسرى سعيد ما بتنهان).
وفي القاهرة قادت إذاعة (صوت العرب) ومديرها الشهير أحمد سعيد (1925 - 2018م) حملة تعاطفيه قوية مع يسرى وزملائها، وكانت تذيع أغنية تُشجّع يسرى سعيد ثابت ومن ضمن كلماتها: (الفجر حيطلع بكرة يا يسرى).
لقد دفع صمود يسرى وشجاعتها إلى تنظيم كثير من المظاهرات في سوريا ولبنان تعاطفاً معها. وأضحت يسرى سعيد ثابت أيقونة عروبية ونموذجا فذا للمرأة العربية الباسلة، حتى أن العديد من المولودات في العالم العربي في ذلك الوقت تسموا باسم (يسرى).
يسرى سعيد ثابت بعد المحكمة:
بعد أن أكملت يسرى مدة سجنها عادت إلى الجامعة وهي تمشي على عكازات بسبب الكسور والجروح التي سببهما التعذيب في السجن. وعلى الرغم من المحاولات التي بُذلت ضدها في الجامعة لتخويفها وإرهابها، لكن ذلك لم يثنها عن إتمام تعليمها. فتخرَّجت من جامعة بغداد، حيث كان التعليم هاجسها منذ صغرها.
لم تقبل يسرى أن تستثمر تاريخها في منصب أو مكسب سياسي، وكانت ترفض أي مقابلة صحفية أو أي حديث عام في هذا الموضوع لأنها اعتبرت أن ما قامت به كان واجبا وطنيا.
لقد سُجن حميد مرعي في سجنه الثاني أربعة سنوات، ولما خرج من السجن طرده عبد الكريم قاسم إلى سوريا ورفض عودته لإكمال دراسته، فلحقت به يسرى عام 1960.
وفي 8 شباط 1963 تمت إزاحة عبد الكريم قاسم عن السلطة من قبل القوميين والبعثيين. وحاول حميد مرعي ويسرى سعيد ثابت العودة إلى العراق، إلا أن علي صالح السعدي (1928-1977) طرد حميد مرعي من العراق.
تقول ابنتها هديل مرعي أن شقيها أياد سعيد ثابت تعرَّض كذلك إلى التعذيب ومحاولة الإذلال على يد ناظم كزار، فغادر العراق إلى مصر في عهد عبد الناصر، ثم طرده السادات إلى أصقاع الأرض الواسعة.
وتذكر ابنتها أن الرئيس عبد السلام عارف عرض على يسرى سعيد ثابت مناصب ووزارات وسفارات مقابل أن تترك زوجها السوري قائلا لها هل ( قحط رجال في العراق )! لكنها كانت امرأة لا تسعى للمناصب ولا للكراسي؛ فعادت إلى سوريا مع زوجها.
عادت يسرى سعيد ثابت إلى سوريا ولحقت بزوجها بعدما أصابها خيبة أمل مما آلت إليه الحال، وعملت في الشركة السورية للنفط وكذلك في المؤسسة العامة للسينما. ثم فُصلت من عملها إثر مشاجرة مع موظف حكومي شمتَ بمقتل الأطفال في ملجا العامرية في بغداد في 13 فبراير 1991.
سافرت يسرى مع ابنتها هديل إلى فرنسا في تسعينات القرن الماضي، وبقي زوجها في سوريا وكان دائم التردد على فرنسا.
لقد كانت العائلة تتنقل بين فرنسا ودمشق، وبسبب ظروف الحرب في سوريا لم تستطع أخذ الفيزا إلى فرنسا، فاضطرت للذهاب إلى الجزائر للالتقاء بابنتها، حيث وافتها المنيَّة هناك.
لقد أبدت يسرى سعيد ثابت رغبتها في أن لا تُدفن خارج العراق، وإن لم يمكن دفنها في العراق فلتكن سوريا بلد أمها وزوجها. وستسعى عائلها لنقل جثمانها لاحقا إلى الأرض التي أوصت بها.
لقد رُزقت يسرى سعيد ثابت من زوجها حميد مرعي بولدين: (تميم) الذي درس القانون والعلاقات الدولية في كييف ودبلن في إيرلندا، و (هديل) التي درست الطب و جراحة العيون في فرنسا.
وليسرى سعيد ثابت حفيدتان من ابنها تميم: الأولى حملت اسمها (يسرى) وترعرعت في كنف جدتها ودرست الهندسة المدنية في دمشق وهي تتقن ثلاث لغات: العربية والإنكليزية والروسية وتعيش مع زوجها حاليا في تركيا. والحفيدة الثانية هي (أسيل) التي درست القانون في دمشق وتعيش مع زوجها في دبي.
هذه هي يسرى سعيد ثابت التي لم تستغل سمعتها النضالية، ولم توظف مواقفها البطولية في طلب منصب أو وظيفة، وكانا طوع أمرها، ولكنها وهي ابنة جاه وخير، ومروءة ومسيرة وتاريخ، كانت أرفع وأسمى، وظلت تعتز بعروبتها، ووفية لبلدها، وملتزمة بقضايا أمتها. رحلت يسرى سعيد ثابت بلا صخب، وخرجت من عالمنا بسجل أبيض ناصع وسجَّلت تاريخا ناصعا للمرأة العراقية.
نسأل الله تعالى أن يرحم يسرى سعيد ثابت بواسع رحمته ورضوانه ويبارك لها في عائلتها.
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
1075 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع