الخبز العراقي وحديث الذكريات - الجزء الرابع

                                                        

               الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

   

الخبز العراقي وحديث الذكريات - الجزء الرابع

يحرص كل بلد على أن يكون له خزين استراتيجي من الحبوب اللازمة لصناعة الخبز. ويُعد نقص الخبز مؤشرا واضحا وخطيرا على أزمات ذلك البلد ومشاكله الخانقة.

ويلعب الخبز دورا كبيرا وخطيرا خلال الأزمات والحروب ويصبح (مقياسا للحياة). وأثناء الغزو الفرنسي لروسيا في العام 1812 أبرز نابليون الأول اهتماما خاصا بالخدمات اللوجستية وخلق كيانا خاصا بالخبازين، ثم أخذ الجيش الروسي بالهيمنة على الخبازين. وكان الجنود الفرنسيون يأكلون الخبز مرتين لكي يتمكنوا من مواصلة المحاربة. وكان نقصان الخبز ضمن أسباب فشل الفرنسيين في مواصلة حصار روسيا بالإضافة إلى البرد القارص.

كما يذكر المؤرخون أن أحد أسباب فشل الغزو النازي للاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية 1941 أن الحكومة السوفيتية استطاعت تنظيم الخبز للجبهة في الظروف القاسية.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وأثناء الحرب الأهلية الأمريكية (1861 - 1865)، ظهرت مقولة أبراهام لينكولن الشهيرة: "الخبز يعني الانتصار". فقد كانت الولايات الشمالية تمتلك الخبز، في حين أن الولايات الجنوبية لم تكن تمتلك شيئاً.

وبعد مرور تلك الفترة قام أبراهام لينكولن بتحسين آلة الحصاد (الحاصودة) وأنشأ شركة دولية عام 1902. وأدى هذا الاختراع إلى أن أصبح جمع الحبوب يتم بشكل أكثر فعالية مما أدى إلى ارتفاع إنتاج الخبز.

وأثناء الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) قام الإنجليز بمنع استيراد القمح الألماني مما أدى إلى ظهور أزمة في الخبز. وقد أدى انتصار ألمانيا في عام 1915 إلى تعديل ذلك الوضع لمدة معينة.

وفي العام 1923، كانت ألمانيا تحاول التعافي من أضرار الحرب، وارتفع التضخم فيها إلى مستويات كبيرة أفقدت العملة قيمتها، حتى أصبح ثمن رغيف الخبز 200 مليار مارك ألماني، وقفز معدل التضخم إلى 3250000% في خريف 1923، حيث كانت أسعار السلع تتضاعف في غضون ساعات. وهذا ما يحدث عندما يصبح المال بلا قيمة في أوقات التضخم المالي المفرط.

وفي الحرب العالمية الثانية تم ترشيد الاستهلاك للعديد من الأغذية، ولكن لم يكن الخبز ضمن تلك الخطة، وقد تم ترشيد استهلاك هذا العنصر بعد انتهاء الحرب بدايةً من عام 1946. وفي ضوء الأزمة، رفض المزارعون جلب إنتاجهم للمدن الألمانية بسبب صعوبة تحقيق مكاسب من أموال بلا قيمة، وهُجرت المحال التجارية.

حدثني صديق في جامعة الموصل أن زوجته الألمانية قد عاصرت الحرب العالمية الثانية، وأنها ذكرت له أنه خلال الحرب كان الخبز يباع بالمقايضة بدل النقود، وأنهم قايضوا تنكة طحين أسمر لا يصلح للاستهلاك البشري مقابل بيانو تراثي ثمين.

وفي وقتنا الحاضر يعاني لبنان الشقيق من أزمة كبيرة في الخبز بسبب الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة والتي أدت إلى انهيار قياسي في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، وانهيار قدرتهم الشرائية.

لقد تم تقليل وزن رغيف الخبز في لبنان، وأصبح سعر ربطة الخبز 9500 ليرة بعد أن كان 1500 ليرة. أي بلغت الزيادة 500%. وقد كتب أحد الكُتاب معقبا على ذلك (شعب بلا خبز).

الخبز أثناء الحصار الدولي على العراق:
لقد عاصرنا الحصار الدولي الجائر على العراق الذي نتج عن قرار الأمم المتحدة رقم 661 في أغسطس 1990 ودام قرابة 13 سنة وعانى العراقيون منه الكثير وحُرموا من الغذاء والدواء.

ونتيجة لتدمير مخازن للحبوب فقد حدثت أزمة الخبز في العراق من سنة 1992 ولغاية 1996 عند إقرار برنامج النفط مقابل الغذاء، حيث كان العراقيين يقفون الطوابير أمام افران الصمون، وكان مخصص لكل عراقي ثلاثة صمونات عليه أن يكتفي بها خلال يومه. ثم جاءت الحصّة التموينية في شهر أيلول سنة 1990م، تخفيفاً لعواقب الحصار.

ونتيجة لسد المنافذ الحدودية وعدم كفاية المنتج المحلي من الحنطة والشعير، فقامت السلطات القائمة بمنع المواطنين من خزن الحنطة والشعير ومصادرتهما. كما كانت تخلط مع الطحين كل ما هو متاح لتوفير الطحين للجميع. وكان الطحين في كثير من الأحيان لا يصلح لعمل الخبز ويسيل في التنور، حتى أن بعض الناس كانت تطلق لقب (علف حيواني) على ذلك الطحين!!


ونتيجة لتلك الظروف الصعبة فظهرت (الچولة) ونزلت إلى الساحة العراقية بقوة كأداة اقتصادية متعددة الأغراض لتحل محل الطباخ والتنّور بسبب غياب الكهرباء والغاز والنفط.

    

قصة عبود بن جاويش وزوجته:

قصة عبود وزوجته من القصص المُروعة التي سمعناها من جداتنا رحمهن الله وحاكت أحداثها المجاعة وظروف الحرب القاسية، وقد تحدثت عن هذه القصة في وقتها الصحف التركية والأوربية.

لقد مرَّت مدينة الموصل الصابرة بمحن كثيرة طوال تاريخها الطويل والذي يمتد إلى أقدم العصور. وخلال الحرب العالمية الأولى (1914–1918) مرَّت الموصل الحدباء بظروف عصيبة، حيث كانت تابعة للدولة العثمانية التي دخلت الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانيا، وقد تم إعلان النفير العام وسيقت الآلاف المؤلفة من الشباب والرجال إلى آتون الحرب بما يُعرف باسم (سفر برلك) أو (أيام الضيم والهلاك) و (طابور أبو شخّاطة).

كما نزح إلى الموصل أعداد كبيرة من موظفي الدولة العثمانية من ولايتي البصرة التي احتلها الجيش البريطاني سنة 1914 وبغداد التي احتلها أيضا الجيش البريطاني سنة 1917، فزاد العبء على اقتصادها.

يضاف إلى كل هذا فقد كان الموسم الزراعي في تلك السنة سيئا وتعرضت المزارع إلى غزو الجراد مما تسبب بأكل الحنطة والشعير والسمسم، كما هرب الكثير من الفلاحين بسبب الجندية، ووضعت الحكومة العثمانية يدها على الحبوب التي يمتلكها أهل الموصل لتسخيرها للمجهود الحربي.

لقد تسببت تلك الظروف القاسية إلى حدوث مجاعة مروّعة في تلك السنة التي يُطلق عليها (سنة الغلاء) و (سنة اليرة) حيث أصبح سعر وزنة الحنطة ليرة ذهب. وانتشرت الأمراض كالتيفوس والانفلونزا والكوليرا. كما تدفق إلى الموصل المهاجرون من الأرمن والأكراد نتيجة العمليات العسكرية وكانوا يطوفون شوارع وأزقة الموصل وهم يصيحون (خاطر الله جوعان).

لقد ذكر شهود عيان أنه كان يموت يوميا العديد من الناس بسبب المجاعة، وكان عمال البلدية يقومون بإخلاء الجثث التي يجدونها يوميا مُلقاة في الشوارع.

لقد تحدث العديد من المؤرخين عن ظهور سفاحَين في تلك الظروف هما (عبود بن جاويش) وزوجته. وأن أغلب المصادر تذكر أن اسم زوجة عبود هو (خَجّاوة).

وقد ذكر المؤرخ (سهيل قاشا) أن "عبود" كان من جلولاء، وذكر آخرون أنه بالأصل من منطقة (كفري). في حين ذكر المؤرخ الأستاذ الدكتور إبراهيم العلاف أن (عبود بن جاويش) وزوجته (عمشة) قدموا من دهوك والتي اتوا إليها مع من نزح من جنوب تركيا بعد عملية التطهير التي قام بها الجيش العصملي في الأناضول وجنوب تركيا المختلفة الأعراق والقوميات، وهذا كان بسبب الحكم الضعيف وغياب القانون وظلم سلطة الحكم وجورها.

لقد كان عبود وزوجته يصنعان شوربة ويقوم ابنهما بجذب الأطفال الجياع بحجة إطعامهم الشوربة، فيقوم السفاحان بذبح الأطفال ورمي رؤوسهم وأحشائهم في قبر كبير داخل البيت، ثم يقومان بعمل (قلية) من لحم الأطفال وبيعها للناس.

ويذكر الدكتور إبراهيم العلاف أن عدد الذين ذُبحوا كان 11 طفلا وعجوز واحدة، بينما تشير مصادر أخرى إلى أن العدد أكثر من ذلك بكثير.

لقد نظم أهل الموصل في وقتها أهزوجة في هذين السفاحين تقول كلماتها:
الحقوني ياولادي
لاتاكلكم خچاوة
لاتقليكم بالطاوة

لقد قامت محكمة تركية بمحاكمة عبود وزوجته وحكم عليهما بالإعدام شنقا، وقد تم إعدامهما في ساحة باب الطوب الشهيرة عام 1917.

https://www.youtube.com/watch?v=xIaiiMwbrYI

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1075 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع