محمد حسين الداغستاني - كركوك
حالات المرأة الملهمة في مجموعة قصص سناء النقاش أحلام عالقة
الأنثى التواقة لولادة غد ٍ رغيد
بمنتهى البساطة وبقلم هادئ سلس احيانا وموجوع ِ في أغلب الأحيان تدرج الكاتبة الصحفية سناء النقاش على سفح الحدث اليومي راصدة لنماذج من حياة النسوة العراقيات في صراعهن المرير مع تحديات المجتمع الذكوري الصارم ، وهن يحلمن بالفرح والآت الأفضل والعيش الآمن، والتخلص من أسار قتامة بيئتها الإنسانية تحت سياط التضييق والعزل وكتم تطلعاتها الانسانية .
في مجموعتها الموسومة (أحلام عالقة) الصادرة في بغداد ( أيلول 2017) والتي تضم عشرة قصص قصيرة تقتنص الكاتبة ردود فعل المرأة لتداعيات حالاتها المتباينة ، فضلاَ عن مجابهتها لأتون الأحداث الجسيمة التي مرت بالبلاد في العقود الأخيرة ولا تزال ، والتي كانت لها أثارها العميقة على سلوك الإنسان العراقي والمرأة بالذات وهي في سعيها الحثيث لترتقي بذاتها إلى مديات تفرض في مآلها ضرورة إعادة تقييم حاجات المرأة النفسية والإجتماعية والحياتية والتي هي في المحصلة بعض حقها المشروع في العيش الكريم .
في أولى قصص المجموعة التي تحمل عنوان (نقش على جدار الصمت ) تستخدم سناء أسلوب التداعي لموظفة تقرر إنهاء حياتها الوظيفية الحافلة بالأحداث واحلامها الملونة التي إستحالت الى خيبة مريرة نتيجة ظروف العمل ، إنها قصة إمرأة تمتلك خبرة إدارية مهمة ناتجة عن عملها طيلة سنوات شبابها فتكتب عن معاناتها مع مديرها الفاسد ، فضلاً عن محنة التعامل مع واقعها الأسري والإجتماعي المعجون مع آلام مفاصلها وفقراتها العنقية ، فتصف كونها إمرأة رغبة المسؤولين في إخضاعها وتبعيتها اليهم وتلبية رغباتهم ومشاركتهم فسادهم ، فإنتفضت وقررت أن تغادر الوظيفة وتتقاعد لكي ترتاح في اواخر سنوات عمرها بالابتعاد عن الفوضى واللصوصية والتفرغ لبيتها وحياتها الجديدة البسيطة وتنقش مذكراتها كما تقول على جدار الصمت المشحون بالالام والمنغصات :
( لم أكن افقه حتى معنى الحياة، لم اعرف شيئا عن الحياة الزوجية لأنشغالي بالبحث والعلم والدراسة وبتطوير العمل في الوظيفة، وفي الزواج تحولت إلى مصرف آلي يصرف للكل، وتحولت من الآنسة المدللة إلى مربية للأولاد أفضتُ في حبي لهم وضحيت في تربيتهم ومعي في البيت عمة عجوز متطلبة متقلبة المزاج وزوج مريض، وكشمهودة تلطم مع الكبار وتأكل مع الصغار فكل ما احصل عليه ينفق لهم بمختلف الطرق والأعذار بالقوة واللين ومسرحية الحب الذكوري. فلا عجب أن تغزوني الأمراض وأصبح ما آلت إليه الحال، اكتب معاناتي التي عشتها في مجتمع ذكوري عانيت منه كثيرا فكلما كانت المرأة ضعيفة ومنعدمة الشخصية فيه يقولون (خطية) وقد يعطفون عليها في بعض المواقف، فان كانت لها شخصية ناجحة تتطور في عملها فتلك الطامة الكبرى فالكل يحاربها وينتقدها لأبسط التفاصيل فلابد من دفع ضريبة النجاح , وان كانت قوية وذات إرادة فإنهم يحيكون لها المؤامرات خصوصا إذا كشفت الاعيبيهم وسرقاتهم واستهتارهم بأموال الدولة أو مقدرات الناس .)
ولكي ترفض الصورة النمطية للمرأة الخانعة فإن الكاتبة تعمل على توظيف تجربة صديقتها السكرتيرة الأنيقة الشقراء الطموحة في العمل والتي تقع في حبائل ووعود المدير المتصابي البخيل فيتزوج منها وبدلاً أن يوفر لها طموحاتها في حياة رغيدة فإذا به يستغلها (ويقدمها طعما للأعلى منه ليروج أعماله وليربح اكثر) فإنكفأت على ذاتها ونالت الطلاق منه بعدما سأمها هو، وتحول غضبها الى دعوة الآخرين الى الثورة والتغيير :
( وأخيراً جاءتني الصديقة المنكسرة بعينين ذابلتين ووجه مصفر كئيب لتحسدني على حياتي الوديعة الهانئة وكانت قد دعت الآخرين في العمل والمؤسسات الأخرى الى الثورة وضرورة الاصلاح والتغيير )
وفي قصتها (انا وباريس وهواك) تورد سناء حالة لانثى حالمة تلتقي في غفوتها اللذيذة بمقهى باريسي بفارسها الذي يصفها بأنها كالساحة الباريسية القريبة التي ينتصب فيها نصب الحرية ، لكن صديقاتها كنّ بالمرصاد لها فأيقضنها لتجابه واقعها الأليم ، امراة تعاني من الوحدة والحزن واليأس ، لا يحق لها الفرح ، وقدرها أن تعود الى واقعها المرير:
( في باريس يحلو التجوال وعبور الجسور المليئة بأقفال العشاق والمحبين والتماثيل المذهبة، وضعت قفلي كتبت عليه اسمي واسمه، وبين أحضانه في القارب الباريسي الذي يمر قرب نموذج نصب الحرية الأمريكي المحاذي لنهرالسين حيث تتألق أضواء عدسات المصورين والسياح الآسيويين المبهورين ، تتعالى الأصوات إعجابا بالتماثيل الذهبية المنحوتة على الجسور ؛ بدأت أحس يد ثقيلة على كتفى وأصوات صاحباتي يضحكن بصوت عال هل يعقل ان تنامي في المقهى ويعلو شخيرك إلى هذه الدرجة ؟ قومي لنذهب إلى الفندق يبدو انك تعبة جدا , ونمت هنا في المقهى !!!. فركت عيني وأنا ابحث عن عدسات المصورين وقارب نهر السين والنصب والتماثيل، أين هو الحبيب الذي غفوت في أحضانه، لماذا اختفى ؟ آه يا ويلي كنت احلم وأهذي ومن حولي الجميع يضحكون . يالي من مغفلة فقد صدقت حلمي ورؤاي وعشت فيه وكأنه حقيقة ! )
في قصة (العتاكات) التي هي أجمل قصص المجموعة تصف سناء ببراعة الكاتبة المتمكنة من صنعتها حياة (سرور) الفتاة الصغيرة التي ولدتها ام مطلقة وتركتها لأبيها السكير القاسي الذي يعمل في جمع النفايات في مكبات أطراف المدينة يستغلها و يسلب نقودها بعد أن يدفعها يوميا قبل شروق الشمس لتصعد (الستوتة) مع مجموعة من الفتيات الصغيرات فيلجن (متاهات عميقة مثل بثرٍ يفجر أطناناً من الهموم ) وتشاء الأقدار فتلتقي في أحد الأيام بصحفية تعد تحقيقاً صحفياً عن مهنتها فتحاول إقناع سرور وزميلاتها بتغيير نمط حياتهن لكن زميلاتها ينظرن الى الصحفية بعين الشك والريبة بل ويرفضن التغيير بشكل قاطع :
( لماذا جئت إلينا ؟ ý أتريدين هز حياتنا وقلب قوانينها ؟ من يعش في كانون الاشتعال ليس كمن يده تغطس في الماء البارد !! , في حياتنا نحن لا نعرف حقوق الإنسان ننام مع الحيوانات في بيوت طينية ونشرب الماء لا نعرف أهوَ ماء مجاري أم انه من ماء الشط ، نحن لسنا مثلكم نشرب الماء المعبأ بقناني بلاستيكية، لا نرى الحليب إلا من خلال العلب الموجودة في المزابل ونعجب بصور الأطفال الحلوين المطبوعة عليها، إنها حياتنا من الصعوبة تغييرها حتى وان كتبتِ أوصورت ِ فلما وثائقيا كما تسميه وتعرضيه لا نعرف أين ؟)
لكن سرور تدرك اهمية التغيير فتجرب العيش مع امها المطلقة في بيتها الكبير وحياتها الرغيدة ، هناك تجتهد و تنال شهادة المتوسطة بل وتعيش قصة حب جميلة مع ابن الجيران الذي يشتري لها دفاتر المدرسة و وردة الحب الحمراء في عيد الحب ، فتستاء امه من هذه العلاقة غير المتكافئة بينهما فتحاول إقناعه بالتخلي عنها إلاّ أن سرور كان لها المبادرة المدهشة إذ حسمت قصتهما عندما وضعت نقطة النهاية لها :
(فليس ثمة أجمل من فتاة كانت تعيش بين جدران الموت تتحول الى الرخاء بدون أن يمسك ماضيها بذيل ثوبها الجديد ، سرور لا تريد ترك أبيها ، رفضت كل مغريات معيشة الرخاء والبيت الكبير والحياة الجديدة الرغيدة والسيارة الحديثة مع المثقف المحب المؤمن بأن الناس سواسية !! كان جوابها محيراً للجميع فالعاشق الولهان لم يعرف الجوع يوماً في حياته ولم يكابده ولأنه لا يعرف معنى الجوع لم تقبل به ، رفضته رفضاً قاطعاً ) فعادت الى مكب النفايات مع حلم آفل !
وفي قصة (المرايا) تتفاعل بطلتها الطالبة مع استاذها الفيلسوف (مدني صالح) الذي يفجر في عقلها سيل من الاسئلة حول المرآة واهميتها في حياة الانسان وتطوره وكونها مرادفة لسائر الاجسام الاخرى الملساء اللامعة فالقمر والنجوم وقطرات المطر والسحاب والهواء كلها مرايا سماوية جامحة . وفي ذات السياق تختار بطلة القصة مرآتها لتعكس حقائق روحها القلقة : وتضع سناء يدها على الجرح النسوي في هذه القصة عندما تشير إلى قوة المظاهر في مجتمعنا الذي ينظر الى المرأة كدمية جميلة وتشير الى أن المرايا نصحت الطالبة الشابة بالأناقة والزينة وإلا فمن ذا الذي يتزوج إمرأة بشعر أشعث غير ممشط ترتدي البسيط والمرقع من الثياب بألوان تدخل العتمة الى النفوس؟
(أحببت مرآتي فقد عرفتني بعيوبي فما عادت توخز روحي بإبرها، تركت الأحزان جانبا وأهديت الملابس السوداء إلى امرأة فقيرة حزينة كحالي السابق! بدأت رحلة الاهتمام والبحث عن الذات بتحسين الصورة بعد أن اعتنيتُ بأنفاسي وخواطري وعقلي وحملت زاد الفكر والدراسة لأكثر من عشرين عاما، فالمرأة التي تحمل جمال العقل والروح تبرز مفاتنها بالمظهر وثقافتها بالحواروالود والتواصل الاجتماعي فتحوزعلى الإعجاب المنمق ).
في قصتها التي إختارت عنوانها إسماً لمجموعتها ( أحلام عالقة) تستخدم الكاتبة ببراعة أدواتها الفنية وتنصف الرجل عندما تتناول بأسلوب سردي جميل و باسهاب واستفاضة متجاوزة الخطاب الذاتي نحو الهم الجماعي فتضعه على فوهة البركان الذي يكتوي الجميع بحممه النارية دون تمييز ، فيتساوى الرجل مع المرأة في إجتراع ذات المحن في وطن تمزقه الحروب والتناحروالإرهاب والعدالة المفقودة .
تبدأ القصة بتناول بطلتها لحبة فاليوم تغرق بعدها في نوم عميق فتأخذها احلامها الملونة الى حيث تجوب الفضاء لترى على ارض الوطن مساحات خضراء و مدارس بهية لأطفال سعداء توفر لهم الدولة الحليب ووجبات الطعام وشابات حالمات بالحب والاستقرار وحدائق غامضة و اسطورية وقادة نزيهين لا يحملون جنسيات متعددة ولا يبحثون عن وراثة اولادهم القيادة ينثرون الورود ويقررون رواتبا للمحتاجين والفقراء والعجزة ... ومصانع ومكائن عملاقة تحفر الانفاق وتمد السكك للقطارات السريعة ، وزوارق نهرية حديثة ومهرجانات ومسارح تضج بالحياة و.. إلا أنها تستيقظ على واقع يناقض كل أحلامها آملة في أن تتحقق ذات يوم :
(بعد كل الرؤى الطافحة برائحة القداح أمطرت دموعي على سفوح الشجر كرذاذ المطر ، فقد جف النهر وباتت الناس عطشى، جف الحليب في الأثداء ومات الأطفال بإطلاق النار العشوائي، وتفجيرات الإرهاب الوحشي ، ومزقت الأمهات ثيابهن حزنا فما عاد هناك ستر بعد أن انتهكت الأرواح، فزعتُ وجفلتُ وعدت ُ إلى قلقي اليومي فالعيارات النارية وصلت عنان السماء فاستيقظت من أحلى حلم أتمنى أن يتحقق ذات يوم )
(أحلام عالقة) بقصصها العشرة صرخة عميقة موجعة لحالات المرأة .. تطلعاتها وأحلامها وطموحاتها وأفراحها المحدودة وواقعها المر الأليم ، إنها ببساطة شديدة بصيرة ثاقبة لسيدة كاتبة وصحفية مرموقة تعيش هي وبنات جنسها تداعيات حالات تفضح مزاعم المجتمع الذكوري وتكذب خطابه المكرر المموج عن مساواة المرأة مع الرجل وحقوقها المشروعة في الحياة المتكافئة ،وكان ثراء المجموعة أوفر لو تناولت الكاتبة في بعض القصص أسباب حالات العنف الاسري وإنتحار النساء والطلاق وإمتهان إنسانية المرأة بعرضها على منصات بيع الرقيق، لكنها رغم ذلك عبّرت عن إدراك عميق لمسؤوليتها تجاه مجتمعها ككل فدعت الى تغيير جذري يحقق العدالة الاجتماعية دون تمييز ، ووجدت في إنتشال الانسان العراقي من أزماته ومن النظرة الدونية للمرأة ، وظيفة تتسم بالضرورة كونها مبدعة وملهمة لها نضارتها ووهجها ، بها ومن خلالها يرتقي الوطن الى مدارج السمو والرقي .
2144 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع