د. أسعد الامارة
كيف يرى الإنسان نفسه كما هو؟ جدل النفس
يناقش عالم التحليل النفسي الفرنسي "جاك لاكان" فرويد الفرنسي كما أطلق عليه فترة من الفترات لما أجاد من فكر " سيجموند فرويد" ونظرياته التي هز بها كيان الإنسان، فما جاء به "لاكان" في أحد طروحاته عن الخيالي في منظومته الشهيرة التي ضمت " الخيالي، والرمزي، والواقعي" لسنا بصدد الحديث عن رؤيته الواسعه والصعبه أحيانا في طروحاته النفسية العميقة، ما يهمنا هو أحد النظم الثلاثة وهو الخيالي وفي رؤيته " لاكان" أن يتخيل أحد أشخاصًا اخرين ما هي صفاتهم أو من يكونون، يعني من ثم ما يتخيله هو عن نفسه عما هي صفاته أو من يكون هو، وذلك عند التواصل والتفاعل، ويرى أيضا على سبيل المثال في حياتنا الواقعية أن من أعراض الوسواس القهري العصابي وأعراض جنون العظمة "برانويا العظمه" .. هو فعلا يدرك الإنسان نفسه بما يحمله من أفكار، ولكن المحيطين به لا يدركون ما يفكر به، وفي بعض الأحيان يلاحظون علامات تصدر منه كسلوك، أو تخيل أو علامات خارجية، ولكن الحقيقة لا يعرفون ما بداخله وما يفكر به هو فعلا، ويقودنا هذا الجدل مع النفس عبر مدخل التحليل النفسي بإن الإنسان هو ليس ما هو.
أننا بصدد البحث عن كيف ينظر الإنسان لنفسه وكيف يراها هو لا بالمرآة فحسب، وإنما يرى نفسه من داخله، وليس انعكاس لجسده أو وجهه، أو منظره الخارجي، لا بل ما هو يراه عن نفسه، وتتقارب هذه الرؤية مع طروحات التخصص النفسي العميق التي ترى أن أي شخص لا يشبه شخصا آخر، هذا التفرد أقصد به التفرد النفسي فحسب، ليس الجانب البيولوجي أو الجانب الفسيولوجي، فكلا الجانبين لهما اتفاقات عديدة ومتشابهة، أما الجانب النفسي والجانب الشخصي هو الجانب المختلف تماما، واثبتت الدراسات النفسية المتخصصة أن التوائم المتماثلة تختلف في الكثير بقدر ما تتفق.
عندما يجد الإنسان نفسه فإنه يقوم ببعض التصحيحات المهمة، ولكن مازال تساؤلنا قائمًا كيف يرى الإنسان نفسه كما هو؟ هل فعلا إنه جدل مستمر مع النفس؟ هل هو بلا حدود حتى تصل النفس في هذا المنحى إلى اللاوجود في حدود النفس؟ انها تساؤلات داخل النفس، لا تحدها حدود مكانية ، ولا زمانية، إنها مشكلة المشكلات، إنها المعرفة الاعمق والأصعب للفرد الإنسان في حقيقته وزيفه، متى ما عرف نفسه أكتشف عنها الاهوال. ويمكننا أن نعرض فقرة للكاتبة الفرنسية الشهيرة "سيمون دي بوفوار" قولها: مهما نظرت إلى نفسي في المرآة وحكيت لنفسي تاريخي الذاتي فلا يسعني أبدًا أن أمسك بنفسي، بوصفي شيئًا ممتلئًا، أنني أشعر في نفسي بهذا الفراغ الذي هو أنا، أشعر أنني لا أكون "لا أوجد".
ان النفس عادة تحمل بين ثناياها الكثير من الخلجات لا تعلنها لأنها غير مقبولة أحيانا وربما محرمة تماما وهي بنفس الوقت تجبر الإنسان لان تصعد للسطح فتطل بذكريات مخجلة وكثيرا ما عبر عنها علماء التحليل النفسي لدى بعض مرضاهم وقول العلامة "مصطفى زيور" مؤسس التحليل النفسي العربي في مدرسة عين شمس بالقاهرة واتيحت لنا الفرصة أن تتلمذنا بين يديه أواخر السبعينات من القرن العشرين وهو من الجيل الثاني من تلامذة مؤسس التحليل النفسي "سيجموند فرويد" قوله: وإذا كان النسيان لما يؤلم النفس ويؤذيها بعض ما تعمد إليه طلبًا للراحة، فإن النظر في أحوال النفس لابد وأن يكون أمرًا عسيرًا منافيًا للميل الطبيعي إلى الراحة والسلامة، ولا بد أن تحول غمامة كثيفة دون البصر الصحيح في النفس لأنه يتضمن بصر النفس بنفسها، وقولنا كيف لها أن تحافظ على ذلك المخزون من الذكريات دون استدعاء لاشعوري بحيث تهز هذا الكيان وتعصف به من السوية إلى اللاسواء، تساؤلات نفسية مشروعة في خضم هذا الكم الهائل من هموم الحياة ومثيراتها العاصفة في عالم متوحش ملئ بالعقد النفسية الفردية والجمعية، وينطبق القول تماما أن الكون يسير بما فيه نحو التوحش وضعف العقل مع عنف كبير للشهوات والامتلاك وروح السيطرة.
أن النفس لها من المداخل لا حصر لها ومن المخارج لا حصر لها ومن تلك هي كما يقول الطبيب النفسي "يحيى الرخاوي" بلغة التحليل النفسى، كل الحيل النفسية اللازمة للتكيف هى نوع من التعتيم الضرورى للتكيف وخفض التوتر ، لكي يعيد الإنسان هذه المعرفة بنفسه فإنه يمارس مع نفسه أعمق المحاولات الى المعرفة وهي الإرتكان إلى اللاشعور الذي هو معنى، وأي معنى عميق هذا، فإن ضاقت السبل لديه لجأ إلى ميكانزمات الدفاع "الحيل الدفاعية، الآليات الدفاعية كما تسمى ايضا" وهي أساسًا لا شعورية ومنها " الكبت، الاسقاط، النقل ، التكوين العكسي، التوحد- التقمص" الإنكار وغيرها، لكي تعيد شيء من التوازن ويقول علماء التحليل النفسي هي عمليات توافق تفكيكية، لا تحل الصراع بل يظل قائمًا، وربما يصبح شذوذًا عندما يتحول إلى قاعدة في السلوك، وكذلك الحلم وقول "جاك لاكان" الحلم يعبر عن شيء ما، هذا ما يكشفه لنا هذا الجزء غير المنظور ولكنه مدرك وله أبعاد لا حصر لها ويضيف "لاكان" أن الحلم يتكلم، أنه فعلا يتكلم بلغة واضحة وفصيحة لكنه أستغلق على الإنسان أن يقولها بالعلن، فاعلن عنها اللاشعور بكل صراحة وبلغة واضحة ويرى "جاك لاكان" ايضا نقول إن اللاشعور هو بمثابة لغة، وهو أن ماهو لاشعوري ليس كله مكبوتًا، بمعنى انه قد تم تجاهله من طرف الذات. ولذا فإن هيكل اللاشعور يشبه اللغة، اللغة المفترضة. " لجاك لاكان" عنصر ذو أهمية كبيرة في وقت فهم النفس ، كونه عنصر رمزي يسمح لمحاولة ربط الشعور باللاشعور، ونقول ايضا أن فهم الإنسان نفسه يكاد يكون ضرب من الخيال، أو إدراك جزء من نفسه، هو معرفة لاشعوره، لا سيما أنه عالم غير ممكن الإحاطة به، أو ولو بجزء منه.
ويستمر تسأولنا ما مدى الموضوعية والذاتية في تقييم الإنسان لنفسه؟ نقول ويؤكد قولنا البعض من العقلاء، لا يستطيع الإنسان أن يكون محايدًا موضوعيا، ولا يمكن للإنسان أن يكون مع الغير ضد نفسه، إلا اللهم في حالة الاكتئاب العقلي السوداوي الميلانخولي الذي يدفع بصاحب هذه الشخصية لأن ينهي نفسه بالموت المحقق والاكيد رأفة بها، للخلاص من هذا الألم وهذه المعاناة المستمرة يوميًا وبكل دقيقة شروق الشمس أو انتقال اليوم من الليل إلى الصباح، او التغيرات الفصلية من الشتاء المظلم إلى الربيع ثم الصيف وشروق الشمس لايام كاملة، أن الشخص المصاب بالاكتئاب السوداوي العقلي لديه حزن دائم، عميق، لا يبرره أي شيء، فالتشاؤم كلي ينسحب على الأشياء كافة ، يظهر التعب على كل حركاته، شفتاه متدليتان وجبهته محفورة التجاعيد، صوته لا يكاد يسمع كما وصفه الطبيب النفسي "سوتر". ويقول "بيير داكو" أن الشخص الاكتئابي السوداوي تتضخم لديه الأحداث المؤلمة بصورة لا تعرف الحدود، ونتائجها المتوقعة، ينظر إليها في جو غير ملائم إطلاقًا، أما الحوادث السعيدة ذاتها، فإنها مدعاة إلى الحزن، إن تشاؤمه يشمل كل شيء بطريقة تبدو أحيانًا أكثر ما تكون بعدًا عن المنطق وعن التوقع. ويبقى تساؤلنا كيف يقيم هذا الشخص نفسه؟ كيف يدركها كما هي؟ أنه لا يعرف الموضوعية في التقييم لنفسه وللأشياء المحيطة به، أو المواقف الحياتية. وفي الطرف الآخر نرى شخصية أخرى على النقيض الكامل مع الشخصية الاكتئابية السوداوية وهي الشخصية المنفسخة عن المجتمع والتي ترى أن العنف ظاهرة مقبولة بل وضرورية، فالفرد الذي ينشا في جو ريفي مثلا يؤمن بالسحر والأعمال" معمول له" والجن والعفاريت والشياطين والملائكة غير الصالحين، يكون الفرد ذو شخصية ضلالي التفكير، فاقد الموضوعية في التقييم ولكنه يعد متوافقًا مع مجتمعه المحدود، فالحالة المرضية هنا هي مرض المجتمع الأصغر الذي ينتمي إليه، أو الشخصية السكوباثية " الشخصية المضادة للمجتمع" التي ترى جميع الناس من حوله أنداد واعداء. وفي الأخير نقول أن الأسوياء لا يبرأون من اللبس بين الواقع الذاتي والواقع الفعلي، وما يتضمنه ذلك من مسحة سحرية وفساد في معرفة وتقييم الواقع، وتضيف لنا المقولة النفسية التحليلية أن إدراك الواقع إدراكًا صحيحًا مرهون باكتشاف التواجد مع الآخر، وهذا الاكتشاف هو التمييز بين الذاتي الممهور بمبدأ اللذة، والموضوعي الممهور بمبدأ الواقع، فإذا استقامت خطوات المضي نحو تلك النتيجتين، أستقام التمييز بين الذاتي والموضوعي، ومن ثم استقامت معرفة الإنسان بنفسه وإدراكه لما بداخله كما هو.
1994 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع