جيهان أبوزيد
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق على من تضطره ظروفه للانتقال من مكانه دون إرادته. جارتنا كانت تستقبل شقيقة زوجها وأطفالها عدة مرات كل عام.
تعلمت معنى «اللجوء» في دفتر السنوات وشاهدت أنواعا شتى منه. رأيت شابة تلجأ لقراءة الروايات لتهرب من جبروت أبيها، فعاشت تدعي المرض وتبتكر الأوجاع التي ترقدها في الفراش طالما كان بالمنزل. ورأيت شابا يلجأ لإمام المسجد ليجد لديه ردا على الأسئلة المحرمة في منزله. على باب مفوضية اللاجئين بمصر رأيت أسرة صومالية فرت من نيران «المحاكم الإسلامية». الأب كان تائها في جمع الأوراق والأختام وبجواره أطفاله الخمسة وزوجته المستترة بثوبها التقليدي. ما إن رحبتُ به «أهلا بيكم في مصر» حتى انهارت دموعه وأغرقتنا جميعا. انفلتت آلام الرجل فجأة وحط عليه عبء الفرار الذي استغرق ثلاثة أشهر. ترك منزله وزرعه وجمع قطع ملابس قليلة وصورا لأمه وإخوته وورقة ممزقة تثبت أنه درس الهندسة. وضْع الصومالي موجع لكنه هو المقصود في التعريفات الدولية. فالرجل على وشك الحصول على مسمى «لاجئ»، وهو مصطلح يطلق على كل من يضطر اضطرارا إلى ترك وطنه خوفا من الإيذاء بسبب دينه أو عرقه أو جنسيته أو انتمائه السياسي أو عضويته لمجموعة ما، ثم يتمكن من الحصول على قبول الدولة التي يرحل إليها. المهندس الصومالي قال لي إن عشرات الآلاف الفارين من أرض الصومال يسكنون أحد الأحياء الفقيرة في الجيزة ولم يحصلوا على حق اللجوء، لكن الحكومة تغض الطرف عن وجودهم من سنوات.
الوضع ذاته يعيشه سوريون فروا من الصراع الدائر في سوريا وحطوا في الأردن أو مصر أو تركيا. خرجوا من منازلهم ونزلوا في خيام تقف في الصحراء وبجوارها برامج الإغاثة التي تقدم لهم المواد الأساسية. وهو ذاته الوضع الذي يعيشه عراقيون ذاقوا النزوح مرتين. المرة الأولى حين دفعوا خارج وطنهم إثر الحرب الأميركية على العراق فطَرقوا أبواب سوريا التي استقبلت ما يزيد على مليون عراقي. رأيتهم يوم زُرت سوريا عام 2009 في بنايات مكونة من طوابق خمسة في حي سكني خصص بالكامل لهم واستكملت خدماته. لكن هؤلاء ما لبثوا أن حط عليهم الرصاص مرة أخرى، وقبل أن يعالج صغارهم من ذكريات الدماء والقتل عادت إليهم أكثر قسوة وأشد غموضا، فتركوا منازلهم وفروا. التقيت إحداهن في مخيمات «الزعتري» بالأردن. كانت سيدة عراقية مسنة متجمدة من البرد والحزن، خرجت كلماتها ثقيلة كالصقيع الذي نزل على الشام هذا العام. قالت لي إن اسمها «غالية»، وأضافت «لكن الحياة قداش رخيصة يا بنتي». الفارق الشاسع بين «اللاجئ والنازح» يدفعه من هجروا أوطانهم هربا من الموت. فبينما يحصل اللاجئ على ورقة ورقم، ويُصنع له ملف ويَصطف بجانب الآلاف غيره في قائمة طويلة تؤكد أنه خارج أرضه وحي يرزق، فإن النازح يبقى بلا رقم وبدون ملف. يُدفع خارج وطنه ككتلة صخر زائدة. يبقى غائبا لا يبحث عنه سائل ويظل على قيد الحياة من دون إثبات. وعليه أن يضبط أنفاسه ويسكن بين الظلال كي لا يُرحل أو يُلقى به في السجون. وفي حين أن أوراق المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة تشير إلى أن عدد اللاجئين يصل إلى خمسة عشر مليونا ونصف في عام 2012، فإن نفس المنظمة تفيد أن عدد النازحين وصل إلى خمسة وأربعين مليونا حتى منتصف عام 2012، وهو أعلى رقم يسجل منذ نحو عشرين عاما. وفي نغمة لفها اليأس قال رئيس المفوضية العليا «نشهد تزايد النزاعات الجديدة، ويبدو أن النزاعات القديمة لا تنتهي أبدا».
في قاعة مسرح «الصاوي» بحي الزمالك بالقاهرة ارتفعت لافتة الاحتفال باليوم العالمي للاجئ والذي يوافق 20 يونيو. وبالداخل امتلأت المقاعد بأُسر تضحك وتبكي وتهتف فرحة بتألق أطفالها. عرض أطفال من السودان وسوريا والصومال أوجاع النازحين واللاجئين وقدموا أغنيات ومشاهد مسرحية ورقصات بديعة، واستحضروا أوطانهم وأشعارهم وألوانهم على خشبة مسرح واسعة لكنها ليست باتساع أوطانهم. خشبة مسرح كانت بها أضواء ملونة لكنها ليست كأضواء شموسهم. خشبة مسرح حملتهم بود لكنها ليست كطين أرضهم.
860 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع