(أنا بالمطر أحترق ) ومضة عشق مبهرة تضئ أرض الفقراء

                                                            

                           محمد حسين الداغستاني

           


(أنا بالمطر أحترق ) ومضة عشق مبهرة تضئ أرض الفقراء

من يتتبع النتاج الشعري التركماني الحديث يجد أن الرومانسية وفي بعض الأحيان الكلاسيكية التقليدية لا تزالان تبصمان جلّ ذلك النتاج مع التسليم بوجود إستثناءات مهمة عبر تجارب جادة لتجاوز أسار القوالب الجاهزة والإنغماس في ميدان الحداثة والإنتماء للعصر ,. وتأتي النصوص الشعرية للشاعر التركماني المدهش ( قره وهاب) في مقدمة هذا التيار الذي وجد في الواقعية الجديدة تقنية يوظف فيها الصور والأيحاءات (رغم اسلوبه التقريري بين آونة وأخرى ) في أجزاء من النص وسيلة لتكريس معظم إبداعه الأدبي الغزير المتمثل بتسع مجموعات شعرية باللغة العربية ودرّتها مجموعته الموسومة ( أنا بالمطر أحترق) وثلاثة عشر ديواناً شعرياً باللغة التركمانية , للتغني بالوطن وناسه الفقراء وبالحب أيضاً حد الوله .

ومن الواضح تماما حرص قره وهاب وهو التركماني العتيد على تشظية لغته العربية للتعبير عن منظوره الروحي والأداء النابض بالدلالة والرمز والمعنى الخفي ، بالرغم من هناته اللغوية أو النحوية المحدودة جداً ، إلا أنه يرفض أن تكون الاجادة التامة لها سبباً في حرمانه من التعبير عن همومه وتطلعاته التي كما يراها هي نتيجة ولادة ومعاناة شعب يستمد عشقه من إرث الأجداد :

اللغة ليستْ ميراثُ أحد ..
اللغةُ
تلد ُ من تقلص وإنبساط الروح
فيما وراء الطبيعة !

وهكذا ومن هذا المنطلق يمضي قره وهاب في إستلهام قضية الأرض وموقفه من محاولات التجزئة التي يعمل البعض بدأب متواصل لزرع أسفين الانقسام بين شعبه الموحد تحت عناوين ومسميات شتى فيضعها في مرتبة الإستحالة والمحذورات الإلهية :

من الممكن
أن نقسم أرضنا فيما بيننا
لأنها قضية عائلية !
لكن من غير الممكن
أن نقسم شعبنا فيما بيننا
لأنها قضية إلهية
لا شأن لأحد بها !

ومن هذا المنطلق يعبر الشاعر بتوق صوفي ، وإعلان صريح وعنيد ، وتوظيف رائع للضمير (أنا) الذي يجعله مرادفاً لـ (نحن) عن حبه لتلك الجغرافية التي هي نضح بعض ملاحم العشق في التراث العربي الزاخر والمضي بفكرته نحو مديات أوسع ، وكثافة إنسانية بليغة ، تتجاوز أطر التقولب والإنعزال :

كان في القدر أن أجنّ أنا
وليس قيس إبن ملوح
لكن ليس من حب ليلى
وإنما من حب العراق
ربما تأخرتُ عن الجنون
بعضٌ من الوقت
لكنني لم أتأخر قطعاً
عن هذا الجنون يوماً .
وبذات العفوية المقترنة باليسر والتعامل الواعي مع الفكرة الصادمة التي هي وليدة الواقع المفعم بالأوجاع والمرارة ، يعود قره وهاب الى ذات المحور المركزي في حياته ليبسط أهداب القضية مفضلاً هذه المرّة الضمير (نحن) ، بلغة مشعة بالدلالة ، عازفاَ عن المحسنات اللفظية لإثراء نصه ، لكن بتدفق حيوي معّبر لإستكمال المشهد الجمعي بأسلوب في غاية الجمال والروعة ، متكئاً على سحر الطبيعة والموجودات المادية المحسوسة والحقيقة التي لا جدال عليها :

كنّا جزءَاً بدون الكل ..
والجزء دون الكل حجرُ مدفون
تحت أقدام الجبال
اليوم من دفء ماء ترابك
أصبحنا الكلّ في الكلّ
لأنك لست شمساً تشرق وتغيب
ولا ميزاناُ تصعد وتنزل
أنت فينا وطنٌ ، وطنْ .

وينحو قره وهاب بإتجاه الدلالات اليومية من حولنا ، ويحمل الوطن بين جوانحه بصرامة الحريص على غده ، ويدرك أعباء التصدي لمحاولات التشظي عبر شلال من المعاني الملهمة التي تسحر المتلقي ، ليبقى وفياً لتأريخ مفعم بالبذل الإنساني والحضاري وعيناً دافقة للمبدعين وعشاق الحرف المضئ كما كان أرضاً تدرّ اليُمن الوفير لصناع الحياة من أبنائه ، وهوية إنتماءٍ سرمدي يتجاوز مصدات الوجل والتردد والمجابهة :

أرجوك ... لا تقل أنا حديد
كي لا يأكلك الصدأ
رجاءً قل أنا خشبة
لذلك من ذلك ما يبقى لك
في جسدك مسمار .
بملئ فمك ، قل أنا وطن
عندئذ تبقى لك الغيمة والمطر
والمسمار والخشبة ..
ثم الكتاب والقلم .

إن معادلة الوطن لا تكتمل دون ناسه وفي نصوص قره وهاب فإن فقراءه هم الذين يشكلون لحاءه ونسغه الصاعد لذا فإنه أجاد بلورة وتأطير أوجاعهم بلغة رمزية نقية وفي ذات الوقت عارية وصادمة للتفاعل مع واقعهم المأساوي والألم الذي يشعلونه في وجدانه الذي يمور بغزارة المعاناة ودفق الأمل المفقود :

نعم ، قرأتم عن الجوع
لكن هل كتبتموه ؟
هو وجعٌ متناثرٌ
باتت كتابته عمودياً أو أفقياً
لا يقدم ولا يؤخر
فحل به كيفما تشاء
لكن من غير الممكن
أن تنبت له جناح !

وتتوالى أجزاء هذه السمفونية المبهرة بوميض يتساقط كقطرات لامعة حاملة في ثناياها الدلالة الموحية والرمز الخفي .. رمز يتقاطر من وجدان أبناء يجدون أنفسهم في وحدة أليمة ، لكنهم يصرون على أن يتعايشوا مع كل ما فيها من قهر واستلاب وتعسف دون أن يكون للدخيل فيها حضوة :

وها نحن نبيع ثيابنا
مقابل فصوص من الثوم
ولماذا الثوم ؟
كي لا يدخل علينا
من كان ليس مثلنا .

لنلاحظ أنه هنا كيف يقشّر الحرف ويلج الى نواته الموجوعة على شفرة السكين ، وكيف يتناغم مع قناعاته ، ويصعق المتلقي بقدرته الفذة على إلإيحاء ، ثم كيف يستكمل أدوات لغته البسيطة المعبرة التي يشحنها بالحركة السريعة متقلباً على ظهر أبيه الذي يستلهم حضوره من الغياب الأبدي الى حيث مفارقات الحياة بكل ما فيها من توتر وحركة وغرابة :

بقائي على ظهره أتعب أبي
ولكنني إنسلختُ من عظمة سعفه
كي ألد في أحشاء نخلة رطباً
حتى لا تعيّر أمي بأنها عاقر !

ويمضي قره وهاب في رحلته المكللة بالاشجان باثاً همومه الثقال بفرادة المتمكن من تناسل حروفه المتوهجة المنتقاة بحرفية الصانع الماهر ، فهو يتناغم مع ما ذهب إليه الناقد الانكليزي هيوم الى أن الكلمة الموحية التي يتم التعبيرعنها في اللغة لا تتغير بالألفاظ ولا بنحت الكلمات الجديدة بل بتغيير العلاقة بين الكلمات المعهودة وهذا ما حققه الشاعر بمهارة ملحوظة :

ولأني حمار نفسي
لم أعر للموضوع أهمية
وفي منتصف غيابي
وجدتُ الرعد مصاباً بالطاعون
في مستنقعات الغيوم
قلت : من المستنقعات تأتي البلهاريسيا لا الطاعون
في لحظتها إضطررتُ أن أشرب الغيوم !

ولإن قره وهاب يجيد فن العشق فهناك دائماً ثمة وجع يناديه ، وبه يرى الأشياء مختلفة ، فتغدو المرأة وقد تكون أمه أو حبيبته قيمة رفيعة ومصدر إلهام ونفور من الوقوع في حبائل الإغتراب ، لها حضورها البهي بين ثنايا النص ، فيغذ السير متأبطاً بوحه الساحر محتفظاً بفرادته كفارس يدوس على سغبه وشقاءه بأباء وشمم :

عندما أروم الرحيل
لا أحمل معي حقيبة السفر
لكي لا أبحث فيها عن وجه أمي
ولا أمد يدي للوداع
لكي لا يدسون فيها صدقة
ولا أحمل معي قلبي
كي لا يسرقني من فم الطريق !

وعلى المنوال ذاته فقره وهاب يتحدث بذات الكناية مع المرأة التي أحبها وكأنه يدير وجهه لتراث غني من الكلمات المتوهجة والمشاعر الحارة التي يحفل بها إرث العشاق عبر العصور ، فيمطرها بسيل من الأسئلة التي هي نضح الشجن والواقع الفاجع و معاناته المريرة المضنية :

كيف أقبلكِ وشفتاي خيط جرحك ؟
كيف أشمك ِ ومنخراي جبهة حرب ؟
كيف أراك وعيناي صقران جائعان ؟
إن كنتُ لا أشكل قيد عظمة في جسدك ..
فلماذا تغرسينني مسماراً
على جدران قلبك ؟

وكأنه أدرك معضلته العاطفية لذا فإنه بإنتكاسة تقطر بالندم ، وبنبرة دافقة حارّة ، يعود لها مع وعد يحفظ له بعض الرجاء :

سأحتفظ بماء وجهي
ما أن تعود حبيبتي
كي لا تجدني صحراء !

بل إنه يذهب بعيداً بالإعلان عن دواخله المرئية شاعراً بحضوره التلقائي ليسجل على نفسه موقفاً يمتزج مع الرجاء والامل في أن لا تتركه هذه المرة في أتون الإنتظار المحرق :

بالأمس كنتُ بحراً فتركتيني سمكة
الآن ... أنا غيمة فلا تتركيني مطراً
تذكري
عندما كنا صغارا في الحب
كنتِ أنت جبلاً
فتركتيني حجراً
وها أنا كما ترينني ..
يسمونني قصر الحب !

قال رسول حمزاتوف شاعر داغستان العظيم ذات يوم (إن الشاعر لا يمكنه أن يكون ظلاً بل إنه نار ومصدر نور بغض النظر عما إذا ضوءاَ وشمساً كبيرة ، والنور لا يلقي ظلاً ، فالنور لا يصدر عنه إلاّ النور) وهذا ما فعله قره وهاب في (أنا أحترق بالمطر) ، إنه ببساطة حوّل المعنى والدلالة في نصوصه الى منجم من الضياء والإنتماء الرحب النبيل .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2978 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع