قاسم محمد داود
المقاومة الشعبية أول ميليشيا عراقية بعد نهاية العهد الملكي
بعد انقلاب 14 تموز 1958 أصبح الزعيم (العميد) عبد الكريم قاسم رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع، ولشعوره بأن بعض أصناف الجيش غير مواليه له، أو أنه خشي من مغامرة انقلابية ضده على غرار ما فعله هو بالملك، فإنه سعى إلى تشكيل تنظيمات شعبية مسلحة لحماية حكمه ولصيانة النظام الجمهوري، أي لصيانة حكمه، لاسيما وان الانقلاب نجح بأسقاط نظام حكم ملكي دستوري يسعى لقيام دولة ديمقراطية حديثة وفق الأسس والسياقات المعمول بها والمتبعة في إدارة الدول، وكان النظام الملكي يعتمد على مؤسسات تخصصية تدير مرافق الدولة المختلفة، رغم أن تجربته الديمقراطية لم تكن بالمستوى المطلوب، وذلك لأن العراق عانى من التخلف والفساد والاستبداد طيلة أربعة قرون من السيطرة العثمانية أي أنه حديث العهد بالنظام الديمقراطي . ومع ذلك لم تعتمد حكومات ما قبل تموز الاستعانة بتحشيد الجماهير لحمايتها إلا في حالات الطوارئ وعلى نطاق ضيق مثل الفيضانات وتنتهي هذه الحشود بانتهاء الحاجة لها. وكان سعي الزعيم عبد الكريم إلى أنشاء هذه التنظيمات الشعبية بناءً على نصيحة من الحزب الشيوعي العراقي الذي بادرت لجنته المركزية في يوم إعلان الانقلاب إلى إرسال رسالة تهنئة إلى مجلس السيادة وكان شكلياً يمثل أعلى سلطة في البلاد، بمناسبة نجاح "الثورة"، وأصدر الحزب في اليوم نفسه بيانه الأول طالب فيه بتشكيل جماعات مسلحة باسم المقاومة الشعبية بحجة حماية البلاد من الأخطار المحيطة بها وجاء في البيان: "أن مستقبل حركتنا يتوقف على نضالكم ويقظتكم فبادروا لتأليف لجان الدفاع عن الجمهورية في المعامل والمحلات والمؤسسات الشعبية، ونظموا فصائل المقاومة الشعبية واستعدوا لمجابهة أي طارئة...". وبدأت أولى خطوات الحزب لتأسيس المقاومة الشعبية في يوم 15 تموز 1958 عندما أصدر المكتب السياسي للحزب نشرة خاصة بعنوان (المقاومة الشعبية والحزب الشيوعي العراقي) تضمنت سياسته وتصوراته وتعليماته فيما يتعلق بتشكيل المقاومة الشعبية. وفي نفس اليوم قابل قادة الحزب الشيوعي الزعيم عبد الكريم قاسم وبحثوا معه أمر التشكيل وسلموه نسخة من النشرة المذكورة.
وعملياً ظهرت أولى بوادر تشكيل جماعات مسلحة باسم المقاومة الشعبية في يوم 15 تموز 1958 في محلة العباسية في منطقة الكرادة ببغداد حيث انتشرت في شوارعها مجموعة من الشباب، لفت على أذرعها أشرطة من القماش الأبيض مكتوب عليها باللون الأحمر (المقاومة الشعبية) وتوجهوا في اليوم التالي إلى شارع الرشيد وحطموا محلات تعود لشخص يدعى جميل شمعون كانت تبيع الملابس المستوردة من الخارج، لاعتقادهم أن صاحبها من عائلة كميل شمعون الرئيس اللبناني آنذاك والذي طلب من الولايات المتحدة الأمريكية بأنزال قواتها في لبنان. وتكرر قيام مثل هذه التشكيلات في الأيام الأولى لانقلاب تموز في أكثر من لواء (محافظة) من الألوية العراقية مثل: (البصرة، العمارة، الديوانية، الحلة) بأشراف مباشر أو غير مباشر من شخصيات من الحزب الشيوعي العراقي. ولم يكتف الحزب الشيوعي بالمناشدة وحدها، أنما عمد إلى تكوين جماعات المقاومة الشعبية بشكل علني في الشارع، وفتح باب القبول للتسجيل حيث كان يجري تسجيل المتطوعين في مكاتب فتحت بدون إجازة، وشرع في تدريبهم، ولما كانت هذه الممارسة جاءت من جانب واحد من الأطراف المشاركة في جبهة الاتحاد الوطني (تحالف سياسي تأسس عام 1956 كأتلاف من عدد من الأحزاب العراقية ومن ضمنها الحزب الشيوعي. أنحلت نتيجة الانقسامات بين القوميين والشيوعيين بعد انقلاب 14 تموز). وبدون الحصول على أذن رسمي من السلطة، كان ذلك يهدد بالخروج عن المألوف، وحدود الضبط والنظام، فقد أصدر القائد العام للقوات المسلحة الزعيم عبد الكريم قاسم بموجب صلاحياته بياناً في ساعة متأخرة من ليل 17 تموز 1958 جاء فيه:
((إن الحكومة قررت تشكيل فصائل المقاومة الشعبية، لتقف إلى جانب الجيش والقوات المسلحة وفي واجب الدفاع عن الوطن، ولما كان يتطلب من المواطنين الالتحاق بالفصائل الشعبية حالما يتم إعداد الترتيبات الضرورية، إننا نحذر المواطنين من الاستجابة إلى أية دعوة أخرى غير صادرة منا)). وهذا يدل على أن عبد الكريم قاسم أراد المبادرة قبل أن تخرج الأمور من يده، ومن جانب آخر يكشف نجاح الضغط الشيوعي وسياسة فرض الأمر الواقع. ولتبرير الإسراع في تشكيل هذه الميليشيا فقد كان راديو بغداد يذيع عرائض تطالب بأنشاء المقاومة الشعبية، وفي بعض هذه العرائض كانت ترد العبارات التي وردت في مذكرة الحزب الشيوعي التي سبق ذكرها، إذ جاء في بعضها.
" من أجل الدفاع عن جمهوريتنا العظيمة وعن الثورة، واستئصال الرجعية الخائنة ولكي نكون على استعداد في كل وقت لمواجهة العدو في وطننا الحبيب، نحن نطالب بتشكيل المقاومة الشعبية فوراً، وتوزيع السلاح علينا حتى نقف جنباً إلى جنب مع جيشنا الظافر"
ومن أجل إضفاء الشرعية على هذه الميليشيا أصدر قاسم قانون رقم 3 لسنة 1958 في 1آب باسم قانون (المقاومة الشعبية). وتم ربطها بوزارة الدفاع أي بقاسم شخصياً وقد بلغ عدد المنتمين أليها في 21 آب من نفس السنة 11 ألف شاب وفتاة.
تداول على منصب القائد العام للمقاومة الشعبية من 1 آب 1958 لغياية 29 تموز 1958 حيث تم حلها قائدان هما العقيد الركن شاكر علي الذي أعفي من منصبه يوم 9 كانون الأول 1958 بعد أبعاد عبد السلام محمد عارف وعزله من مناصبه وأبعاد جميع الضباط القوميين من تدريب تشكيلات المقاومة الشعبية. والعقيد طه مصطفى البامرني الذي كان آمر فوج الحرس الملكي في وقت تنفيذ انقلاب تموز وحدوث ما عرف فيما بعد بـ (مجزرة قصر الرحاب). عين قائداً للمقاومة الشعبية بعد أعفاء العقيد الركن شاكر علي واستمر في قيادتها حتى تم حلها في التاريخ المذكور. وقد استطاع الحزب الشيوعي أن يهيمن هيمنة تامة على المقاومة الشعبية، بحيث كادت أن تصبح من تنظيمات الحزب. وفي صراعه أي ــ الحزب الشيوعي ــ مع القوى السياسية لعبت "المقاومة الشعبية" دوراً هاماً في محاربة خصوم الحزب، وعلى الأخص القوميين منهم وذلك بعد فشل حركة الموصل في 8 آذار 1959، وما حدث من قتل وتمثيل بالجثث بأهالي الموصل وكركوك بحجة الدفاع عن الجمهورية وكان الشعار السائد آنذاك "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" في أشاره إلى الحبال التي كان يتم بها شنق وسحل المناوئين لهم. وقد علقت صحيفة اتحاد الشعب على أحداث الموصل الدامية في عددها الصادر في 13 آذار والذي ورد فيه: (علقت وسحبت جثث المجرمين القتلة في مدن الموصل وقراها وانجلت المعركة فإذا بالعشرات من المجرمين الشرسين العتاة مدنيين وعسكريين صرعى في دورهم أو على قارعة الطريق في الموصل وتلعفر وعقرة وزاخو وفي كل زاوية). "وأصبحت المقاومة الشعبية جيشاً ثانياً بل وأهم من الجيش الأساسي فسيطرت على كل شيء وتدخلت في كل شيء، وبدأت تستفز الضباط وتقوم بتفتيشهم واعتقالهم بل وتحاول إهانتهم لتدليل على قوتها، ومارست شتى أنواع المضايقات والاعتداءات على قطاعات واسعة من الشعب تحت شعار "لا حرية لأعداء الشعب". ولم يكن أحد يعرف من هم أعداء الشعب، فعلاً وقد كان الاعتقاد السائد أن كل من لم ينظم إليهم هو من أعداء الشعب.
بعد فشل حركة الشواف في الموصل بدا واضحاً لعبد الكريم قاسم أن ميليشيا المقاومة الشعبية فرضت سيطرتها في كافة مدن العراق وما ارتكبته من قتل وسحل في الموصل وكركوك وكثرة شكاوى قادة وحدات الجيش من تدخل قادة هذه الميليشيا في شؤونهم العسكرية وتذمر المواطنين من مضايقاتها وكان واضحاً أيضاً أن الهيمنة الحقيقية على المقاومة الشعبية، كان بيد الشيوعيين وأصدقائهم مما يشكل خطر كبير على سلطته، لذلك أقدم عبد الكريم قاسم على الخطوة الأولى المتمثلة في سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وبعد أن تم تجريدهم من السلاح، أصبح من اليسير عليه أن يصدر قرار حلها، وهذا ما تم بالفعل من خلال أمر وزاري صدر في 29 تموز 1959.
رغم أن وجود ميليشيا المقاومة الشعبية أستمر أقل من عام، فإنها شكلت مأزقاً كبيرا للحكومة والدولة ومؤسساتها فالدولة المحترمة التي تسير بموجب دستور وقوانين وحكومة منتخبة لا تسمح بوجود السلاح خارج مؤسساتها. لقد كانت المقاومة الشعبية البداية الحقيقية لإطلاق شرعية العنف في السياسة العراقية، وتناسل الميلشيات على أرضه، فماذا ينتظر من شباب مسلحين يجوبون الشوارع مزهوين بملابس الكاكي التي لها القوة والشرعية في لحظات التغيير الكبرى وانفلات السلاح خارج سلطة الدولة، غير مضايقة الناس وأشاعه العنف. وطبقاً لقانون الفعل ورد الفعل كان مقابل هذا التنظيم، أن تشكلت ميليشيا سرية أخرى بعثية وقومية (ستكون علنية بعد انقلاب 8 شباط 1963 تحت اسم الحرس القومي) للاقتصاص من الشيوعيين فأخذت حمى الصراع تتصاعد عبر الاغتيالات والتصادم في الشوارع، وكان هناك قائمة من المغتالين في مدن العراق، فهذه الميليشيات توزع الموت على الجميع وضحاياها الأبرياء.
1026 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع