الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
الخبز العراقي وحديث الذكريات - الجزء الأول
لقد استوقفني مقال جميل قرأته مؤخرا للأخت العراقية الفاضلة (لانه جلال چرمگا) عن الخبز العراقي والمنشور في مجلة الكاردينيا، وكانت قد نشرته بالفرنسية في احدى الصحف الفرنسية وتحدثت فيه عن (خبز جدتي) وما يثيره من آثار نفسية جميلة، وما تحمله رائحه من ذكريات منقوشة في الوجدان وممزوجة برائحة الأوطان!
نعم.. العراقيون المنتشرون في أرجاء المعمورة تبقى قلوبهم متعلقة مع الوطن الأم ومتجذره فيه، وتبقى ذكرياهم منقوشة في الوجدان، ومتصلة ومتواصلة مع وطن الآباء والأجداد.. ومرتع الطفولة والشباب.
في العام 1980 جاءتني إلى مانشستر عائلة عراقية مؤلفة من زوج طبيب من بغداد وزوجته؛ وهي طبيبة موصلية؛ للاستشارة في مسألة في علم الإحصاء. ومع دخولنا إلى شارع أوكسفورد المجاور لجامعة مانشستر قالت الدكتورة: إني أشعر وكأني في العراق.. إني أشم رائحة خبز تنّور.. ما أطيب هذه الرائحة!! فقلتُ لها: نعم يوجد هنا مخبز يبيع خبز تنّور حار بالسمسم؛ ولكنه غالي الثمن. فقالت: يا ريت نشتري منه وبأي سعر كان! فاشترينا ثلاثة أرغفة وجلسنا في كافيتريا قريبة وأكلنا الخبز الحار بلا إدام، وأجهزنا عليه في دقائق معدودة!
الخبز غذاء هيدركربوني هام، وهو غذاء ممتاز إذا كان محضرا من القمح الجيد وإذا كان مخبوزا بطرق صحية سليمة. وللخبز قيمة غذائية هامة، والخبز الأسمر الذي لم تُستخرَج النخالة منه يكون أكثر فائدة من الخبز الأبيض الذي اُستخرجت النخالة منه.
والخبر في العراق أنواع، أشهره خبز التنّور الذي قد يكون سادة أو بالسمسم أو بحبة السوداء أو باللوز؛ وهناك (خبز العباس) الذي توضع على وجهه حبات الكبابة (حب العروس). وهناك أيضا (خبز الصاج) الذي يصنعونه على الصاج الحديدي، كما هناك أيضا (خبز الرِقاق) الجميل الذي يكون له حضور خاص في فصل الصيف.
نبذة تاريخية:
يؤكد بعض الباحثين أن الخبز صُنع لأول مرة في وسط أسيا، ثم وصل إلى البحر الأبيض المتوسط عن طريق بلاد ما بين النهرين ومصر بفضل العلاقات التجارية بين أسيا وأوروبا عن طريق سوريا.
لقد كانت أقدم أنواع الخبز تُصنع من الشعير، ثم دخل القمح (الحنطة) وحبوب أخرى في عملية صنع الخبز، مما أدى إلى ظهور العديد من أنواع الخبز المعروفة اليوم.
لقد عُثر في ( تل حسونة) جنوب مدينة الموصل على آثار تعود إلى قبل حوالي 6000 سنة قبل الميلاد، حيث كانت هذه المنطقة موقعا جيدا للزراعة وتهطل فيها أمطار كافية لأجل الزراعة، وكان سكان هذه المنطقة يمتهنون الزراعة ويصنعون الفخار. كما عُثر على مجاريش (جمع مجرشة)، وهي الأداة المستعملة لجرش وطحن الحبوب.
وعُثر في بلاد ما بين النهرين على آثار تعود إلى الألفية السادسة قبل الميلاد لشخص يقوم بإعداد الخبز مثل الذي نراه اليوم، وقام السومريون أثناء فترة حكم (جمدة نصر) بتعليم المصريين طريقة طهي الخبز.
ثم تبنى المصريون معرفتهم للخبز وأخذوا يُنَظمون ويحَسِّنون عملية الزراعة إلى أن أصبح الخبز عنصراً غذائياً لا يُمكن الاستغناء عنه في المجتمع، وأطلقوا عليه تسمية (العْيش) لكونه العنصر الأساسي للعَيش والحياة.
وفي الأردن عثر باحثون على بقايا أقدم رغيف خبز في العالم، وتبين أنه الأقدم في العالم على الإطلاق حيث تم إعداده قبل أكثر من 14 ألف عام، أي قبل ما يزيد عن أربعة آلاف عام من اكتشاف الزراعة. ويشكل هذا (الحدث الاستثنائي) دافعا للعلماء إلى البحث عن علاقة ارتباط بين إنتاج الخبز ونشأة الزراعة.
ويعتقد المؤرخون بأن قدماء المصريين تعلموا صنع خميرة الخبز في نحو عام 2600 ق.م. أما قدماء الإغريق، فتعلموا عمل الخبز من المصريين وقاموا، بدورهم، في وقت لاحق، بنقل ذلك إلى الرومان. وبحلول القرن الثاني الميلادي، كان الرومان قد نقلوا طريقة عمل الخبز إلى معظم أنحاء أوروبا.
لقد أكدت الأدلة التاريخية أن الخبز قد ظهر بشكل واضح في شريعة حمورابي، وكان الخبز الأكثر استخداماً يُصنع من الشعير بالرغم من أن الطبقات العليا كانت تأكل الخبز المصنوع من طحين (دقيق) القمح (الحنطة).
لقد ظل معظم الناس، ولمئات السنين، يتناولون الخبز المُعد من الدقيق الكامل أو الأسمر أو أنواعًا أخرى من خبز الحبوب. وكان سعر دقيق القمح الأبيض مرتفعًا بشكل كبير، حيث كان طحنه يستغرق ساعات طويلة من العمل اليدوي. وخلال نهاية القرن التاسع عشر، طوّر أصحاب المطاحن آلات لطحن الدقيق الأبيض بثمن زهيد. وبحلول القرن العشرين، أصبح الخبز الأبيض غذاءً شائعًا في أرجاء المعمورة.
لقد عُرف الشعير منذ القِدم بفوائده الصحية. وظهرت رسومه على جدران المعابد الفرعونية، حيث كان يُطلق عليه (قوة الحصان) كأحد الصور التعبيرية عن تأثير الشعير على القوة الجسدية.
لقد كشفت دراسة علمية بريطانية نشرتها صحيفة الجارديان المزايا الإيجابية الموجود في خبز الشعير. كما كشفت مزايا العناصر الغذائية الموجود في الخبز الأسمر المصنع من القمح الكامل، وأن إزالة قشرة القمح (النخالة) يتسبب بخسارة مجموعة من العناصر الغذائية المهمة والتي تتواجد في قشرة القمح.
الخبز في الأمثال الشعبية:
هناك أمثال شعبية عديدة عن الخبز في مختلف البلدان تربط الخبز بالأصالة والوفاء والقناعة.
فيقال (بيننا خبز وملح) تعبيرا عن الوفاء والعهد. حَدَّثني في طفولتي الحلّاق أبو ماجد قصة عن الوفاء قائلا: دخل لصوص إلى أحد البيوت ليلا، وبعد أن أكملوا مهمتهم دخلوا المطبخ فوجدوا سلّة بها خبز فأكلوا منه، عندها قال رئيسهم: يا جماعة خلّي نقوم بترجيع المسروقات ونخرج فقد صار بيننا وبين صاحب الدار خبز وملح.!
ومن الأمثال الشائعة عن الخبز: (أعطي الخبز بيد خبازتو لو تاكلو نصتو)، ويقال هذا المَثَل للدلالة على أهمية مراعاة الاختصاص في أي مهنة أو عمل.
ويقال عن الرزق الحلال (يأكل خبزه من عرق جبينه). وهناك مقولة معروفة تربط الخبز في العراق بمحافظة نينوى فيُقال: (الموصل سلة خبز العراق) لأن هذه المحافظة هي المُنتج الأول للحنطة والشعير في العراق.
الخُبْز غذاء الغني والفقير:
الخُبْز هو الغذاء الأساسي لكل الناس، يأكله الغني والفقير، ولا يعرف قيمته إلا من افتقده. تروي الروايات أن الرجل الميسور مصطفى محمد باشا الصابونچي (1888-1954م) كان يعاني من مرض السكري، وكان محروما من خبز الحنطة الأبيض. جلس يوما لتناول وجبة الإفطار فجائه الخادم بكل المتطلبات ثم قال له: هل تطلب شيء آخر يا باشا؟ فردَّ الصابونچي قائلا: من هو الباشا؟! أنا أم أنت؟ أنت تأكل كل ما تشتهيه.. أما أنا فأشتهي كسرت خبز بيضاء وأخاف أن آكلها!!
يذكر أصدقاء مطلعون أن العالم المسلم الكردي سعيد النورسي (1876- 1960) وهو أحد أبرز علماء الإصلاح الديني والاجتماعي في عصره في فترة (الخلافة العثمانية)، كان غذاءه الأساسي في أغلب فترات حياته الچاي والخبز.
وفي العراق، كان لكل عائلة من الطبقة المُترفة في المجتمع، خبّازة خاصة بها: وإما تخبز الخبز في تنّور البيت، أو تخبزه في بيتها وتقوم بتجهيزهم به صباح كل يوم ليأكلوه وهو حار.
وكان من أولئك نوري باشا السعيد (1888-1958). وتذكر الروايات المتواترة أنه في صبيحة يوم 14 تموز 1958 جاءت خبازته (عمشة) كعادتها كل يوم وبيدها الخبز الحار للباشا الذي كان مولع به على عادة العراقيين. فرأت (عمشة) منظرا لم تعتاد عليه من قبل وهو وجود قطعات عسكرية وجنود مسلحون في الشوارع. وعندما دخلت بيت الباشا كان نائما في السطح؛ على عادة العراقيين في ذلك الوقت؛ وأبلغت الباشا بما رأت.
نهض الباشا مسرعا في حالة ارتباك حتى أنه أهمل احتذاء نعله و تركً منزله هرباً إلى جهة النهر، وركب زورقا واتجه إلى بيت صديقه الحاج (محمود الأستربادي) في منطقة الكاظمية. وبعد أن أمضى السعيد ليلته في بيت الأستربادي، توجه إلى منطقة البتاوين في الفرع المجاور لسينما أطلس حيث انكشف أمره وقُتل هناك.
1166 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع