القس لوسيان جميل/ تلكيف
حول حوار الحضارات وصراعها
اذا اردنا ان نتكلم بوضوح عن حوار الحضارات يكون من الواجب علينا اولا ان نفهم بدقة وبعمق معنى الحضارة، لكي لا نقع في الالتباس في مثل هذه المواضيع الانسانية العميقة. وقد يكون من نافل القول ان نتكلم عن اهمية المعنى اللفظي لمفردة الحضارة. فالمعنى اللفظي يجنبنا كثيرا من الالتباسات ويدعونا الى كثير من التمييز بين المعاني المتعددة الخاصة بهذه المفردة.
غير اننا لا يمكننا ان نبقى ضمن المعنى اللفظي لمفردة الحضارة، كما نعرفه في اللغة العربية، رغم اهمية هذا المعنى لتعريف جيد لهذه الكلمة. اما السبب في ذلك فيكمن في ان الفكر الغربي المعاصر قد استخدم هذه المفردة بتوسع اكبر من الفكر العربي، رغم ان كلمة الحضارة في العربية هي كلمة قديمة قدم الحضارة العربية – الإسلامية. فنحن نعرف ان كلمة الحضارة باللغة العربية تقابل كلمة البداوة. لكن هذه الكلمة، على علمي، لم تنل حظا كبيرا من التوسع، ربما بسبب قلة الدراسات في المضمار العلمي، مع معرفتي واعتزازي بابن خلدون مثلا. فقد كان الفكر العربي، مثل غيره من الفكر الإنساني، في ذلك الزمان، فكرا فلسفيا اكثر منه فكرا علميا، ولاسيما فيما يخص دراسات الانسان. ومع ذلك نرى ان اختيار كلمة الحضارة للدلالة على حقيقة الانتاج الحضاري هو اختيار موفق، طالما ان الحضارة تاتي من كلمة الحضر، وان الحضر يعني الإنسان الذي يسكن الحاضرة والذي يختلف عن الإنسان الذي يسكن البادية والذي لم يبن بعد شيئا يذكر. فالحضارة، بحسب اللفظة العربية تعني البناء والإنتاج المادي ابتداء من العمران.
وهنا لابد ان نلاحظ بان الحضارة، بحسب المصطلح العربي تختلف عن الثقافة، كما تختلف عن المدنية ايضا، وان كان هناك نوع من القربى بين هذه الكلمات. فالثقافة، بمعناها العربي القريب من السريانية تعني المتابعة الفكرية المعرفية. لذلك تختلف الثقافة عن الحضارة في ان الحضارة هي بناء مادي لمستلزمات عيش الانسان، بينما لا تكون الثقافة غير المعرفة بكل مستجداتها، ولا تعني البناء دائما. اما المدنية التي تشتق من المدينة فهي شكل من اشكال الحضارة، وهي ليست مرادفة لكلمة الحضارة ابدا.
بعد هذا التعريف لكلمة الحضارة والثقافة والمدنية لابد لنا ان نعرج بسرعة على كلمة الحضارة بمعناها الغربي المعروف. فكلمة culture تعني الإنتاج الزراعي على وجه التحديد. كما انها تعني الانتاج بشكل عام. وهكذا يبدو ان اول معنى لكلمة culture هو معنى الإنتاج الزراعي الذي يختلف عن الاعتماد على ما كان يمكن قطفه من الارض. وهكذا نلاحظ ان الغربيين استخدموا مصطلحا زراعيا ليدل على البناء المادي الحضاري للانسان، وذلك على اساس ان تعلم الزراعة هو اول خطوة حضارية عند الانسان، بينما عد العرب بناء القرية اول خطوة حضارية. وهكذا ايضا، وسواء انطلقنا من معنى المفردة العربية، ام انطلقنا من معنى المفردة اللاتينية فان المعنى الاساسي للحضارة يكون هو البناء المادي الذي يخدم الانسان في عيشه الإنساني.
وبناء على ما تقدم يمكننا ان نتكلم عن حضارة القرية وحضارة المجتمع الزراعي وحضارة المدينة. كما يمكننا ان نتكلم عن حضارة المحراث القديم وعن حضارة الجرار الزراعي والدراسة. كما يمكننا ان نتكلم ايضا عن حضارة اللبن وحضارة الجص والحجر وحضارة الإسمنت، وربما عن حضارة اللدائن المعمارية. كما يمكننا ان نتكلم عن حضارة السيارة والطيارة والانترنيت الخ … وبذا لا تقوم الحضارة بمجرد الانتقال الى حالة الحضر، او الانتقال الى المجتمع الزراعي، بل تقوم في المسيرة نحو كل البناء الإنساني الذي نعرفه الآن وسوف يعرفه الآخرون بعدنا في الأجيال القادمة. وبهذا المعنى تعني الحضارة امكانية انسانية انثروبولوجية لتجهيز نفسه بمعدات العيش والعمل، ابتداء من حالتها البدائية وصولا الى حالتها المتطورة المعروفة اليوم.
ولربما يظن البعض ان كلمة الحضارة هي كلمة ايجابية دائما، من كل النواحي. ولكن الحقيقة ليست كذلك. فالحضارة كبناء انساني لمستلزمات الحياة الإنسانية المستمرة ناتجة عن الفكر الانساني نفسه وعن حاجة الانسان في البناء الأفضل لهذه المستلزمات. لكننا لا يمكننا ان نقول بان كل ما يبنيه الانسان هو دائما احسن ما يكون ". فقد يبتكر الإنسان بناء يكون صالحا له من جهة معينة، ولكنه يكون وبالا عليه من جهة اخرى. اما هذا القول فلا يصح في حالة ابتكار الاسلحة فقط، ولكنه يصح بخصوص امور عديدة تظهر مضرتها للانسان فيما بعد.
الا اننا، وفي كل الأحوال، يمكننا ان نقول بان الانسان يملك قدرة على التغيير، تماما كما يملك قدرة على الابتكار. اما المضرة الاخرى فتقوم عند اقتباس جهة ما صيغة حضارية قد لا تناسبها بل تضرها، ولاسيما اذا كانت هذه الجهة غير قادرة على تكييف ما اقتبسته لحاجاتها الخاصة. علما بان ما اقوله يصبح ايضا خطورة كبيرة على الانسان عندما يمنع هذا الامر او ذاك باسم الأصالة وبأسماء اخرى عقائدية او شرائعية او دينية. لذلك نرى ان مسألة الحضارة هي مسألة في غاية التعقيد ولا يمكن التعامل معها بشكل تعسفي بعيدا عن علم العلماء بهذا الشأن.
من جهة اخرى نرى ايضا ان الحضارة كبناء، تخضع لحالة الانسان الاجتماعية. فقد كانت الحضارات، نوعا ما معزولة عن بعضها البعض، في زمن لم يكن اتصال الشعوب سهلا بعضها ببعض. لذلك لم يكن الاقتباس سهلا في هذه الاوضاع. وقد كان لكل شعب حضارته الخاصة به، ليس فقط بحسب عبقريته، كما يقال، ولكن ايضا، بحسب قدراته وإمكانيات البيئة التي كان يعيش وسطها. لذلك لا يمكننا ان نتكلم هنا عن الأصالة، ولكننا نتكلم اكثر عن العزلة ومحدودية الامكانيات، بالرغم من اننا نعرف ان الأصالة كانت شيئا واردا في الزمن الغابر اكثر مما هو الآن، بحكم الزمن. فإذا كان الأمر هكذا فإننا نقدر ان نكون اصلاء مع الاقتباسات التي تقدمها لنا الحالة الاجتماعية والحضارة الحالية. ولكن كل المشكلة تقوم في من يكون الحكم الحقيقي على الأصالة ؟
والآن وبعد ان قدمنا نبذة عن معنى الحضارة، بقي لنا ان نقدم نبذة عن الثقافة. فقد سبق وقلنا ان الثقافة ليست هي الحضارة، على الاقل بحسب المفردات العربية والسريانية. فالحضارة تخص بناء الانسان المادي لمستلزمات العيش الانساني. اما الثقافة فتخص حالة الإنسان المعرفية نفسها، بمعزل عما يبنيه، وان كان ما يبنيه الانسان لا ينفصل عن ثقافته وعلمه.
فإذا كانت الثقافة تعني المتابعة المعرفية فإنها لابد ان تكون بالتالي خاصية انسانية انثروبولوجية، وان كانت ثقافة الإنسان متعددة من حيث عمقها واتساعها وشموليتها. ومن جهة أخرى نحن لا نساوي بين الثقافة والحضارة رغم اوجه الشبه بين المصطلحين. ومع ذلك فإننا نفهم ان يساوي المصطلح الغربي بين الثقافة والحضارة بكون المصطلحين يدلان على البناء: بناء الشخص الإنساني عن طريق الثقافة وبناء المجتمع البشري عن طريق الحضارة. ولذلك يسمي الغربيون الإنسان المثقف بالمتحضر فيقول الفرنسيون مثلا: ان هذا الإنسان متحضر cet homme est cultivé ليعنوا بذلك ان هذا الإنسان هو مثقف.
من جهة ثانية فقد بدأنا نسمع في الآونة الاخيرة بمصطلح حوار الحضارات. فعندما جاء الرئيس الايراني الحالي الى الحكم سمعنا انه يريد حوار الحضارات. وقد صفقت امريكا لهذا التصريح وعدته بداية رجوع ايران الى الحظيرة الامريكية. فأمريكا عدت الرئيس الإيراني الحالي اصلاحيا يبتعد عن خط خميني المتشدد تجاهها، وبذا قالت عن هذا الرئيس انه يقترب من حوار الحضارات، منوهة بذلك الى ان الإدارة السياسية الإيرانية في زمن الإمام خميني كانت تميل الى صراع الحضارات.
ثم سمعنا في الآونة الاخيرة مثل هذا المصطلح عند العرب، بعد احداث الحادي عشر من ايلول المأساوية في امريكا. فبعد هذه الأحداث بدأ الأمريكان بالهجمة المقابلة على العالم. وقد كان العالم الإسلامي والعالم العربي في قائمة الدول والتنظيمات التي تنوي امريكا اخضاعها لسلطانها. وفي معرض الدفاع عن الذات تكلم العرب والمسلمون عن حوار الثقافات او حوار الحضارات، كما لو كانت مشكلة العنف في العالم تعود الى نقص في حوار الثقافات ولا تعود الى الظلم الفادح الذي تلحقه امريكا بضعفاء العالم ومنهم العرب والمسلمون. كما قد سمعنا هذا المصلح احيانا عند المفكرين في مناسبات اخرى، بين مجيء الرئيس الايراني الى الحكم وبين احداث امريكا والهجمة الامريكية على افغانستان.
اما فيما يخصني فأقول: ربما يفهم السياسيون لغة بعضهم البعض. اما انا فاعترف باني لم افهم لماذا استخدم مصطلح حوار الحضارات في هذا الظرف الذي يحتاج العالم فيه الى حوار بين الطبقات الاجتماعية وبين الدول والكتل السياسية المتعددة، لكي يتمكن العالم من العيش مع بعضه بسلام في جو من العدالة والإخاء والسلام، بعيدا عن جو الهيمنة والظلم الذي تمارسه الدول القوية على ضعفاء العالم. فما يحدث اليوم للدول القوية هو انها تطبق المثل الشعبي الذي يقول: " ضربني وبكى وظلمني واشتكى".
بعد هذا نقول: قديما كنا قد سمعنا بالحوار dialogue. وهو يعني باليونانية حديثا بين اثنين. وبذا يعني الحوار التفاهم بين اثنين او اكثر. وفي الواقع يمكننا ان نفهم معنى الحوار بسهولة، لان مسألة الحوار بين اثنين مسألة واردة ومعقولة. وبالمناسبة نقول: ان معنى الحوار باللغة العربية يأتي من كلمة حورا السريانية على اللهجة الشرقية التي تصير فيها الباء واوا. وال حورا تعني في اللغة السريانية الرفيق، وبذا يكون معنى الحوار كلام بين اثنين او كلام بين صديقين او كلام مع الآخر، سواء كان هذا الكلام او الحديث، مباشرا ام غير مباشر.
وهنا نقول: اننا قد نعطي معنى لحوار الثقافات ونفهم ان يكون مثل هذا الحوار موجودا، طالما ان الثقافة تتعلق بالإنسان الذي يتكلم مع الآخرين ويحاورهم للوصول الى الحقيقة او الى العدالة او الى التفاهم الذي يؤدي الى الحق والسلام. فالإنسان اخذ وعطاء، وهو يأخذ حاجته الثقافية والإنسانية اينما يجدها:" اطلبوا العلم ولو في الصين".
اما اليوم فالإنسان لا يطلب العلم فقط ولكنه يطلب التكنولوجية ايضا، كما يطلب الغذاء والأدوية ومختلف حاجاته البشرية حيث يجدها. لا بل ان الإنسان قد يطلب الخير والفضيلة من الآخرين في عملية مقابسة روحية معروفة. كما ان الإيمان نفسه غالبا ما يأتي الى الإنسان عن طريق الآخرين. وهكذا نرى ان الإنسان العاقل والذي يملك قدرا كافيا من الأخلاق الإنسانية يعتمد على الحوار وليس على التهديد ولا على منطق القوة. علما بان روح الحوار مطلوب من اقوياء هذا العالم اكثر مما هو مطلوب من ضعفائه، في الوقت الذي لا يريد الأقوياء من الضعفاء سوى ان يصغوا الى اوامرهم وينفذوها على جناح السرعة قبل ان يصيبهم مكروه على ايديهم. كما ان روح الحوار يتناقض مع القوة الغاشمة التي يستخدمها اقوياء هذا العالم ويتناقض مع اكاذيبهم ودجلهم السياسي وتكتلاتهم العدوانية.
اما الثقافة نفسها فهي لغة تعني المتابعة والمواكبة والتواصل. وبهذا المعنى تعني الثقافة الاقتباس والتعلم من الآخرين. اما معناها الحقيقي فهو معنى يخص طبيعة الانسان المعرفية كون الإنسان يعيش على المعرفة التي هي الخبز اليومي للبشر. يقول السيد المسيح: " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله". أي ان الإنسان يحيا بكل ما هو انساني وأصيل وسام. فبدون هذه المتابعة والتواصل والاقتباس يغوص الإنسان، فردا او جماعة، في لجة الجهل والتخلف في كل المجالات، ويفوته القطار، كما يقال.
بهذا المعنى اذن يمكننا ان نتكلم عن حوار الثقافات. اما هذا الحوار فيتطلب تواضعا وروحا انسانية من كل طرف من اطراف الحوار. فالحوار لا يتم بين اثنين الا اذا شعر كل منهما انه بحاجة الى ما يملكه الآخر والى ما يمكن ان يعطيه هو ايضا الى الآخر. اما المكتفي بذاته فلا يعرف معنى مثل هذا الحوار، فيتحول الى مغتصب لمن هم اقل قوة منه. لا بل ان المكتفي بذاته لا يشعر بحاجة الحوار حتى مع الله ذاته.
هذا هو اذن معنى الحوار، سواء كان هذا الحوار ثقافيا او حضاريا. فإذا ما اردنا ان نتكلم عن حقيقة هذا الحوار، وان باختصار، علينا ان نميز بين الحوار الحضاري والحوار الثقافي اولا، كما نميز بين الحوار الذي يحصل من ذاته كقانون انثروبولوجي وحضاري مهم، وبين الحوار الذي يقوم به اشخاص معينون، افرادا وجماعات، من اجل الأخذ والعطاء والمقابسة، بكل انواعها. وهنا لا نخطئ اذا قلنا ان الحوار الذي يأتي بسبب عامل المقابسة الطبيعية الموجودة عند الإنسان غالبا ما لا يكون تحت السيطرة مهما فعل البعض لإيقافه، لأن الطبيعة الاجتماعية الحضارية غالبا ما لا تستشيرنا فيما تفعله بنا ولنا، في كل المجالات تقريبا، مع امكانية وجود بعض المقاومة في بعض الأبعاد الحياتية، ولاسيما في المجالات الدينية، حيث تسود روح المحافظة على القديم عادة. علما بان العملية الجدلية الحضارية التي ينشأ منها الحوار الحضاري او الحوار الثقافي هي عملية تتم بين المجتمع والإنسان، فالإنسان ليس مبعدا عن هذه العملية، كما انه لا يسيطر كليا عليها بشكل تام، مهما حاول وفعل لإيقاف عجلة الاقتباس والتغيير.
اما النوع الثاني من الحوار فهو حوار ينتج عن خيارات الإنسان وقناعاته في اقامة الحوار مع الآخرين. فهناك اناس يقبلون اقامة الحوار مع الآخرين وأناس لا يؤمنون بالحوار اصلا. علما بان هذا الأمر متعلق بأسباب كثيرة، لسنا بصددها الآن.
اما الحالة الأكثر تعقيدا فهي حالة الحوار في الأمور السياسية التي تحوي مسائل كثيرة تجعل الحكم على الحوار وضرورته اكثر تعقيدا مما يظن البعض. ولكن مع ذلك ولكن عن أي نوع من الحوار تكلمنا لا يمكننا ان نقول سوى ان مسؤولية الحوار تقع على الإنسان، كفعل خير يجب الالتزام به، لأن الحوار يكون دائما الأفضل بين خيارات الإنسان الأخرى، شرط ان تكون الدعوى الى الحوار واضحة ونزيهة عند الجميع، سواء فيما يخص الحوار الثقافي بين البشر والمجتمعات او ما يخص الحوار الحضاري الذي يتطلب كثيرا من الصدق والمرونة والشفافية، ولاسيما عند اقوياء هذا العالم الذين قد يستغلون ثقافتهم وحضارتهم الخاصة من اجل تدجين الشعوب الأخرى لتسهل السيطرة عليها. ففي هذه الحالة قد ينقلب الحوار الحضاري والثقافي الى صراع الأقوياء ضد الضعفاء بغية طمس هويتهم الثقافية والحضارية في الوقت الذي يتحول الحوار عند الضعفاء الى حقد وكراهية ضد الأقوياء المتغطرسين، كما يتحول الى سلوكية نضالية ضد هيمنة هؤلاء الأقوياء وجورهم ونقص الحوار عندهم.
ومن هنا يمكننا ان نقول بكل اطمئنان ان الثقافات بحد ذاتها لا تتصارع بل تتحاور وتقتبس الواحدة من الأخرى بسهولة، وكذلك نقول عن الحضارات القول عينه، من باب اولى، اللهم الا اذا كان هذا الصراع ناتجا عن الجدل الذي يغير الحياة بأكملها.
وبما اننا نجد صراعا حقيقيا بين الثقافات والحضارات في زمننا، كما كان في ازمنة اخرى، فان هذا يعني ان الذي يقوم بالصراع ليس هو الثقافة او الحضارة نفسها بل الناس الذين يريدون تغليب ثقافتهم وحضارتهم على الثقافات والحضارات الأخرى. كما ان الذي يقوم بالصراع هو الضعيف الذي يريد الدفاع عن ثقافته وحضارته، ومن خلال هذا الدفاع يريد ان يدافع عن حريته واستقلاله وعن هويته الحقيقية.
اما استخدام مصطلح الصراع والحوار في ايامنا هذه التي تعتمد على الالتباس وعلى الكذب في كل شيء، ولاسيما في المجال السياسي، كما نراه عند اقوياء هذا العالم خاصة، فانه استخدام شرير يحتاج الإنسان فيه الى كثير من الحكمة والعقل ليميز بين الحق والباطل في هذا المجال.
أما الآن اذا رجعنا الى المبادئ فإننا لا يسعنا سوى ان نكون الى جانب الحوار عوضا عن ان نكون الى جانب استخدام القوة الغاشمة حيث يأكل القوي الضعيف بموجب قانون بشري بدائي يسميه علماء الاجتماع بقانون الغاب. الا ان استعداد الحوار يقع على الأقوياء بالدرجة الأولى قبل ان يقع على الضعفاء الذين قد يقعون بين مطرقة شريعة الغاب وسندان المبادئ التي تحرم العنف وتجعل من الضعيف فريسة سهلة للأقوياء.
لذلك لا يمكننا نحن ان نطالب الضعفاء سوى بان يكون لديهم استعداد للحوار، اذا ما وفر اقوياء هذا العالم الشروط الإنسانية السليمة لهذا الحوار. وهو أمر لا نراه موجودا في عراقنا حيث تسود القوة الغاشمة وحدها ويسود التهديد عوضا عن الحوار. لذلك فقد تعطلت في العراق فرص الحوار الحقيقي بسبب تشبث الأمريكان الإجرامي بمكاسب الحرب الظالمة التي شنوها على العراق، هذا التشبث الذي يرتدي قناعا جديدا كلما سد العراقيون الشرفاء الطريق امام المطامع الأمريكية في العراق وكلما وصارت اكاذيب الحلفاء التي تبيع الديموقراطية والحرية والسلام في السوق السوداء مجرد اكاذيب لا يعيرها احد بالا.
اما وان يزداد عدد ضحايا العراقيين بعد ان قبلت الحكومة المؤقتة، باتفاق مع الأمريكان تحويل القضية العراقية من قضية سياسية يمكن حلها عن طريق الحوار السياسي المنصف، عن طريق الأمم المتحدة، الى قضية امنية تهدف الى القضاء المكابر على المقاومة العراقية المسلحة تحت يافطة محاربة الإرهاب، فإن هذه الضحايا لا تكون ضحايا المقاومة العراقية بل ضحايا الأمريكان انفسهم وضحايا الحكومة العراقية المؤقتة التي تجاوزت صلاحياتها الحقيقية وزجت بالشرطة العراقية، مستغلة حاجة هؤلاء الشرطة الى الوظيفة، في ساحة المعركة جنبا الى جنب مع القوات المتعددة الجنسيات، بحجة محاربة الإرهاب. كما اجبرت الشرطة بوسائل متعددة على ان تصير رديفا للجيش الأمريكي بعد ان كان هذا الجيش قد وصل الى حافة الانهيار وعجز عن تحقيق اهداف الاحتلال الأساسية، على حساب سلامة الشرطي الجندي والشرطي العراقي الذي اضطرت المقاومة العراقية، كما يبدو، ان تعامله مكرهة معاملة الجندي الأمريكي، ناهيك عن تعرض هذا الجندي او الشرطي الى القتل على ايدي الغرباء والأعداء، لأسباب سياسة لم تعد خافية على الشعب العراقي.
والجدير بالذكر ان الشعب العراقي كان ينتظر ان تصير هذه الحكومة حكومة حوار ومصالحة وطنية تسعى الى تأسيس ديموقراطية حقيقية في العراق مبنية على احترام ارادة المواطن العراقي بحسب شرعة العدل والمحبة عبر حوار حقيقي وبناء بين كافة التنظيمات السياسية المتواجدة على الساحة العراقية عوضا عن الكلام عن الشيعة والسنة والأطياف العراقية الأخرى التي لا توجد الا في قاموس الأمريكان والتي ترجع العراق الى عهد تأسيس الدولة الأول وكأن العراق لم يكن دولة عصرية مستقلة منذ العشرينات من القرن الماضي. وعليه نقول ان الضحايا التي يتباكى الأمريكان عليها ويذرف حكامنا الجدد دموع التماسيح عليها ليست سوى ضريبة من اجل تحرير العراق وطرد المحتلين وعدم تمكينهم من الوصول الى اهدافهم الشريرة في اقامة حكومة موالية لهم. ذلك ان الحرية لا تعطى بل تؤخذ، وان من يريد قطع الورد عليه ان يتحمل وخز الشوك المؤلم ايضا. لذلك نقول لذارفي دموع التماسيح على ضحايا العراقيين ويطالبون المقاومة ومن يعمل معها بالكف عن ضرب العراقيين بأنه يجدر بهؤلاء بان يتخلوا عن انانيتهم ويتحلوا بالشجاعة فيطلبوا من الأمريكان بان يرحلوا فورا عن بلادنا، اذ يكفيهم ما فعلوا بالعراق من القتل والتدمير. وحينئذ سوف يكون العراق بألف خير بالرغم مما اثير فيه من المشاكل التي يتخذها الأمريكان حجة لبقائهم في هذا البلد الذي صار شوكة في حلوق المعتدين.
اما اذا اراد الأمريكان، ولو لمرة واحدة في حياتهم السياسية، ان يعملوا خيرا لبلدنا فسوف يكون عليهم تعويض هذا البلد وأهله عن كل ما دمروه فيه من غير وجه حق، وعن كل الضحايا التي وقعت فيه، سواء كان ذلك على ايديهم مباشرة ام كان ذلك على ايدي عملائهم ام على ايدي الأجانب الذين عاثوا في العراق فسادا والذين لم يكن لهم تواجد في العراق قبل ان يأتي الأمريكان ويحتلوا بلدنا ويفتحوا ابوابه على مصاريعها ليدخل اليه كل من هب ودب من المجرمين والحاقدين. كما يكون على الأمريكان تعويض هذا البلد عن الأمن الذي فقده بسببهم، بنزع اسلحة كافة الميليشيات العراقية دون استثناء وتجريدهم من السلاح الذي غنموه جراء الاحتلال. وليعمل الأمريكان على اشاعة الديموقراطية الحقيقية في العراق عوضا عن المحاولة المحمومة التي يريدون من ورائها فرض عملائهم على رقاب العراقيين. كما يكون على الأمريكان ان يكفوا عن جريمة جعل الساحة العراقية ساحة قتل البشر بحجة انهم ارهابيون او لمجرد ارضاء الناخب الأمريكي الذي يمجد القوة والعنف ويفرح بقتل الآخرين. لذلك نحمل الأمريكان الذين لم يعرفوا معنى الحوار مع الآخرين منذ سقوط الاتحاد السوفيتي والى يومنا هذا مسؤولية كل ما جرى وما يجري في العراق من مآسي وظلم وقهر وقتل وموت وتشريد وتهديم للبيوت وتدمير للبنى التحتية العراقية. وقانا الله شر الظالمين. علما بان طريق خلاص العالم وخلاص الأمريكان انفسهم يكمن في الحوار مع الآخرين وفي اشاعة جو من العدل بين الدول القوية والدول الضعيفة عوضا عن اضطهادها. و"طوبى لفاعلي السلام فإنهم بني الله يدعون". ( انجيل متى ).
ملاحظة: تمت اضافة الصفحات الأخيرة الى المقال خلال شهر حزيران عام 2004 .اما المقال نفسه فيعود الى خريف 2003
1375 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع