د. زكي الجابر
ذلكَ الدَجَلُ وأُولئكَ الدَجّالُون
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
أتحدَّثُ إليكَ وفي ذِهني مَقُولَةُ مَن يرَى بأنَّ الثقافةَ إذا لم تَكنْ في صُورتِها الذِهنيّةِ المِثالِيّةِ فإنَّها تتحوَّلُ إلى آلةٍ تُحرِّكُ آلِيَّاتِها قُوَى النُفوذِ والمالِ، وآنذاكَ لَنْ يكونَ المُثقَّفونَ أنداداً وعَلَى قَدَمِ المُساواةِ معَ مالِكي السُلطَةِ والثَراءِ بل يَظَلُّونَ حيثُ ارتَضَوْا أن يَكونُوا تابِعينَ ومَأجُورينَ، وتُصبحُ السيادةُ لتَصوُّرٍ يَهبِطُ بمُستَوَى الثقافةِ عن مُستَوَى الجاهِ والغِنَى، فإذا كُنتَ مُثَقَّفاً لماذا لا تَكونُ ذا ثروةٍ؟ ويَتَجاوَزُ الأمرُ حِدَّةَ الهُبوطِ لِيَصِلَ إلى حَدِّ العُزلَةِ عن الناسِ، ولَطالَما قِيلَ بأنّ الإنجازاتِ العلميّةَ يَنبغِي أن تُنجَزَ في غُرَفِها وأقبِيَتِها الخاصّةِ، فلا يَحسُنُ بِعامَّةِ الناسِ أن تَعلمَ عن الذَرّةِ وتَفاعُلاتِها، ولا عَن تَوظيفِ الأليافِ البَصَرِيَّةِ، ولا أن تَتآلفَ مع حِكْمةِ ’’المعريّ‘‘(1) ومَناحاتِ الشاعرِ ’’تي. اس. أليوت‘‘ T. S. Eliot(2) وفَلسفةِ ’’ابنِ رُشدٍ‘‘(3)، والناسُ لِكَيْ تَعيشَ يَحسُنُ بِها أن تَتعاملَ مع الوسائلِ المُباشِرَةِ لعَيْشِها.
وإذا كانَ لها أن تَتَزوَّد بِشَئٍ فَلْتَتَزَوَّدْ بِما يُطعِمُ المَعِدَةَ ويُنظِّفُ الأسنانَ ويَغسِلُ الشَعرَ، وتَتَشَبَّعْ بألوانٍ من الدِعاية يَختَلِطُ فيها الخَبَرُ بالرَأْي، والكَذِبُ بالحقيقةِ ونِصفِ الحقيقةِ، وتتشرَّبْ بِما يُفسِدُ على الأرواحِ كلَّ نَقِيّ وجميلٍ، ولتتفَتَّحْ أمَامَها الأجواءُ عريضةً فسيحةً لِيَخوضَ فيها الدَجّالُونَ، ولِتُصبِحَ الكلمةُ الأولَى للدَجَلِ!
وإنَّكَ لَتَلْقَى أولئكَ الدَجّالينَ أنَّى نَظرتَ، وأنَّى اتجهتَ، في الفلسفةِ والعلمِ والطِبِّ و’’السِحرِ‘‘ والتِجارَةِ والصِناعةِ والتاريخِ والمُمارَسَةِ الاجتماعيّةِ والثَقافَةِ السِياسيّةِ. وهم يَنتشِرونَ ويَتَناثَرونَ في المُنظَّماتِ والمُؤَسَّساتِ والدَوائرِ والجامِعات. وصَنعَةُ أولئكَ هيَ الدَجَلُ، الدَجَلُ الذي في أساسِه يَتَساوَى مَعَ الكَذِبِ بما فيه من شَطارَةٍ ومُخاتَلَةٍ وابتِسامةٍ صَفراءَ ولَحنٍ في القَول.
والأمَدُ لَن يَطولَ بالكَذِبِ حتَّى يتحوَّلَ إلى حقيقةٍ، وما يُعتَقَدُ أنَّهُ حقيقةٌ ينقلبُ إلَى ’’آيديولوجيا‘‘ تَسنِدُها بَراهينُها الذاتيّةُ وامتلاكُها ما تدَّعي امتلاكَهُ مِن عِلمٍ وخِبرةٍ ومَعرِفة. وهكذا بإمكانِكَ أن تتصوَّرَ الدَجَل أخْطَبُوطاً لا تَقدِرُ على مُقاوَمَةِ امتدادِه، فالإنسانُ، أيُّ إنسانٍ، مَحدودُ الحَوْلِ والطَوْلِ، مَحدودُ البَصَرِ والبَصِيرةِ، حَواسُّه مِجَسّاتٌ غيرُ قادِرَةٍ على أن تَجوسَ الأبعادَ المُلتَوِيَةَ الخادِعة!
إن الساحِرَ المُهَرِّجَ الذي يَعتلِي خَشَبةَ المسرحِ دَجّالٌ يَخدَعُكَ بِخِفَّةِ حَرَكةِ يَدِه وطَراوةِ لِسانِه، يُخْرجُ الأرنبَ من تحتِ أُبْطِهِ والبَيْضَ من قُبَّعتِه، ويُسيلُ الدُموعَ من عَينَيهِ أنهاراً وأنتَ وأنا نعيشُ عَصرَ السِينَما، والسينَما دَجّالٌ ماهِرٌ، والفيلمُ صُوَرٌ مترابِطَةٌ تَعكِسُها على الشاشةِ آلةُ العَرضِ بسرعةٍ تَعجِزُ العينُ عن التقاطِ ما بينَ اللَقَطاتِ من فَراغ.
وأنتَ وأنا نَعيشُ عصرَ التَلفزيونِ، والتلفزيونُ دَجّالٌ ماهِرٌ أيضاً. إنَّ الصُورَ على شاشةِ التَلفزَةِ ما هِيَ إلا نِقاطٌ تَتَساقَطُ بَعضُها فوق بعضٍ وبسُرعَةٍ فائقةٍ لا تلمَحُها عينُ الإنسانِ، تُكوِّنُ ما نَرَى مِن بَشَر وشَجَر ولَكَماتٍ وقُبَلٍ وعِناقٍ وَوَداع.
وأنا وأنتَ نَعيشُ عصرَ السِياسَة، السياسةُ التي تَدخُل نافِذتَكَ وبابَكَ، وعَبْرَ ما تَرَى وتَسمعُ، ألمَ يأتِكَ خَبَرُ ذاكَ الذي يُجاهِرُ بأنَّكَ إذا اشتريتَ بِضاعةً ما فإنّكَ تكونُ قد مِلْتَ إلى الشَرِكَةِ المُنتِجَةِ وبَلَدِها المُصَنِّع، وما ميلُكَ ذاكَ إلا مَيْلٌ سِياسيٌّ، وفِعلُكَ فِعلٌ سياسيٌّ. إنّ السياسةَ في كَثيرٍ من أهوائِها وتَقَلُّباتِها ودِعاياتِها دَجَلٌ.
لقد تَفَتَّحَتِ الأجواءُ لثَقافةِ الدَجَلِ إذا ما كانَ للدَجَلِ ثَقافَةٌ. اَخْبِرْنِي مَشكوراً: أينَ تلكَ الثقافَةُ التي تَنفُذُ إلى روحِكَ فَتَرتَفِعُ بكَ إلى عالَمٍ صافٍ أمثَلَ، وأين ذلكَ المُثقَّفُ الذي يَطرَحُ الأسئلةَ الصَعبَةَ ويُواجِهُ الأسئلةَ الصَعبَة؟ ألم يَحِنِ الوقتُ لِنَرى تلكَ الثقافَةَ المُتحدِّيَةَ، وأن نَرَى المَعنِيّيِنَ بالشَأنِ العامِّ مَعنِيّينَ بالشَأن الثَقافِيّ؟ ألم يَحِنِ الوقتُ لِتَعرِيَةِ الدَجَلِ فلا يَعودُ ضَباباً يَحجِبُ الرؤيةَ، ولا عَفَناً تَعتادُهُ النفوسُ فتَظُنُّه نَسيماً عَطِراً تنتَشِي به، ولا تتسمَّمُ العقولُ والنُفوس. إنّكَ معي تقولُ بأنَّ الوقتَ لِكُلِّ ذلكَ قد حانَ، وأكادُ ألمِسُ لهفتَكَ المُحرِقَةَ التي قالَ عنها شاعرٌ من شُعَراءِ هذهِ الأمّة:
لَهْفِي عَلى أُمَّةٍ غاضَ الضَميرُ بِها
مِن مُدَّعي العِلْمِ والآدابِ والدِينِ
مَوْتَى الضَمائِرِ تُعطي المَيْتَ دَمْعَتها
وتَستَعينُ على حيٍّ بسكين!
لِيَرْحَمْكَ اللهُ، أيُّها ’’الجواهري‘‘(4) الكَبير. لقد ارتَحَلْتَ عن ذلكَ الدَجَلِ وأولئكَ الدَجّالينَ واللهفةُ تُحرِقُ جَوانِحَك!
**************
1- أبو العلاء المعرّي (973-1057)، ولد في معرّة النعمان بإدلب، سوريا. شاعر ومفكر ونحوي وأديب من عصر الدولة العباسيّة. يلقب بـ ’’رهين المَحبِسَين‘‘، أي العمَى والبيت لأنه اعتزل الناس.
2- ’’توماس ستيرنز أليوت‘‘ T. S. Eliot، 1888 (الولايات المتحدة) إلى 1965 (لندن، انگلترا). حائز على جائزة نوبل في الأدب 1948. ناقد، شاعر، كاتب مسرحي.
3- ابن رشد (1126 قرطبة-1198 مراكش). فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضٍ وفلكي وفيزيائي عربي مسلم أندلسي. فسّر آثار الفيلسوف اليوناني أرسطو.
4- محمد مهدي الجواهري (1899-1997) شاعر عراقي يعدُّ من أهم شعراء العرب في العصر الحديث.
نشرت في صحيفة ’’البيان‘‘ (الإمارات)، 25-9-1998.
1041 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع