قاسم محمد داود
يــوم هُــزم الحـاكم الإيــراني نـادر شــاه أمــام أســوار الــموصـل
"... نحن الأسود الضاربة، والسباع الكواسر العادية.. اسيافنا صقيله، وسطوتنا ثقيلة، وحلومنا رزينة، وقلوبنا كالحديد متينة، وبلدتنا بحمد الله حصينة.. فلا سمعاً ولا طاعة، وأهلاً وسهلاً بالسعادة والشهادة هذه الساعة، فما بيننا إلا ما صنع الحداد من سيوف حداد ورماح مداد".
كان هذا رد أهل الموصل على تهديد نادر شاه باحتلال مدينتهم في شهر أيلول من عام 1743مـ. فما هي الحكاية:
في ذلك العام، وقف أهل الموصل عقبة كؤود أمام الأطماع الإيرانية في العراق، واستبسلوا وهم في نفر قليل امام الجحافل التي قادها نادر شاه حاكم إيران، وأمام شدة نيران مدافعه التي أصلاهم بحممها، وكانوا خلال أيام الصمود تلك وحدهم في ميدان الحرب، لم تغثهم حينها الدولة العثمانية بعدد أو عتاد، رغم ان الموصل كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وكان الموصليون من رعاياها، وكأن السلطان العثماني محمود الأول بموقفه البارد، كان قد أستسلم لحقيقة سقوط المدينة في يد الشاه الإيراني. وقد أدهشه لذلك ثبات اهل الموصل ثم انتصارهم.
بدأت قصة الموصل ونادر شاه خلال أربعينات القرن الثامن عشر الميلادي. ففي تلك الفترة كان العثمانيون يعانون ضعفاً هائلاً في كل المجالات وأبرزها قواهم العسكرية والمالية، بينما صعد مغامر جديد في إيران أحد أبناء قبيلة الأفشار وهي قبيلة تركمانية كانت تسكن بمقاطعة خراسان شمال شرقي إيران أسمه "نادر قلي"، أستطاع أن يمسك بزمام الأمور بشكل جيد ويستغل وهن الأسرة الصفوية الأمر الذي أهله لأن يصبح قائداً للجيش الصفوي، وانقض على السلطة ونصب نفسه وصياً على العرش. فعزل آخر ملوك الصفويين "عباس الثالث" الذي كان طفلاً وأعلن نفسه شاهاً أي ملكاً على إيران كلها، مؤسساً دولة جديدة عرفت باسم الدولة الأفشارية. ومثلما كان الصفويون، كان العراق ساحة نادر شاه للتوسع والصراع على حساب العثمانيين مستغلاً ضعفهم. وبدأت أطماعه في احتلال بلاد الرافدين برسالة بعث بها إلى إسطنبول في العام 1743، يطالب فيها السلطات العثمانية بالاعتراف بالمذهب الشيعي الجعفري إلى جانب المذاهب السنية الأربعة (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية)، فلما رفض السلطان "محمود الأول" ذلك، أعتبر نادر شاه الرفض مبرراً لشن حرب شاملة ضد الدولة العثمانية، وجهز حملة كبرى قدرت بـ 200 أف مقاتل، ثم قادها بنفسه لغزو العراق. وكانت الموصل بالذات تمثل أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة إليه. كان والي الموصل في ذلك الوقت "حسين باشا الجليلي" (1695 ـــ 1758). والذي بمجرد علمه بتحرك نادر شاه نحو الموصل بجيشه قام بطلب النجدة من الحكومة المركزية في إسطنبول، ولكن العثمانيين فأجوه بانشغال السلطان بحروب أخرى على الجبهة الأوربية، لن تمكنه من إرسال أي قوات لدعم الجليلي في دفاعه عن المدينة، ولن يستطيع مساعدتهم إلا مساعدة رمزية، وأن عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم. وهو ما كان يعني أن باشا الموصل، ومعه أهل المدينة قد صاروا عرايا أمام الإيرانيين وعليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في مواجهة نادر شاه وقواته. ولكن حسين الجليلي رجلاً غير هياب، قرر الاعتماد على نفسه للدفاع عن الموصل، فرمم سور المدينة وسد الثغرات فيه، كما حصن قلاعها وأمر بتعميق خندقها. وأخيراً وقبل وصول الجيش الإيراني إلى كركوك، أصدر أوامره إلى سكان الأطراف مثل بخديدا وقره قوش وغيرها من القرى يطلب منهم إرسال ما لديهم من حنطة وشعير وتبن وخشب مع باقي امتعتهم وأموالهم ومواشيهم والنساء والأطفال، والتوجه إلى داخل الموصل للاحتماء بأسوارها المنيعة كي لا يتعرض الشاه لهم. تقدم نادر شاه فاحتل سهل شهر زور ثم أستباح كركوك وقتل الكثير من مواطنيها بوحشية بعد قصفها بالقنابل وحصار دام عشرة أيام، فلم يتمكن أبناؤها من الصمود فاستسلمت له. وزحف إلى أربيل فاستباحها بعد حصار دام عدة أيام. لم تفت أنباء استيلاء نادر شاه على كركوك وأربيل وتوجهه إلى الموصل من عضد الموصلين، بل زادت من تماسكهم. وقبيل توجه الجيش الإيراني إلى المدينة، اخذ أهالي الموصل يكدسون الأرزاق والمؤن والوقود لأنهم مقبلون على المعركة والصمود في وجه الغزو، وفضلوا الدفاع والموت في مدينتهم على التشرد والسبي، وصارت المؤنة عادة لأهل الموصل منذ ذلك اليوم. مع ورود الأخبار عن قرب وصول الشاه إلى الموصل بجيوشه الضخمة، دعا الوالي حسين باشا الجليلي إلى اجتماع جماهيري حاشد في دار الحكومة أي سراي المدينة وأهاب بالشباب والرجال بل وحتى الشيوخ للتطوع والدفاع عن المدينة بما يتوفر لديهم من سلاح، وقد غلّقت المدينة أبوابها، فهي لا تفتح إلا ساعة في الصباح لخروج المزارعين وساعة في المساء عند عودتهم، بعد التعرف عليهم واحداً تلو الآخر، كان للموصل آنذاك أبواب عدة: باب العمادي، باب السراي، باب الشط، باب سنجار، باب العراق، باب الجسر، باب لكش، باب البيض، وباب الطوب.. أبواب ثقيلة مصنوعة من خشب الجوز ومبطنة بأحزمة من حديد محروسة ليلاً ونهاراً. وكان لقرار الوالي بالإبقاء على افراد اسرته في المدينة وعدم إخراجهم منها أثر كبير في نفوس الأهالي. كان الباشا الجليلي رجل حصيف وعاقل، وله من الخبرة والقدرة على اتخاذ القرار الصائب، وهو واحد من أهل البلد ليس غريباً عنهم، كما أنه مقاتل غيور وبطل معركة الغزلاني جنوب الموصل الذي تصدى في آذار 1732 للقوات الفارسية بقيادة نركز خان، على رأس ثمانية آلاف مقاتل، فقتل القائد الفارسي وبيدت معظم قواته.. وفر الباقون باتجاه بغداد التي كانت تحاصرها آنذاك قوات نادر شاه، ونركز خان هذا وجنوده كانوا قد فتكوا بسكان القرى الممتدة مع ساحل نهر دجلة وسبوا النساء وأسروا الرجال ونهبوا الممتلكات.
أحد أبواب سور مدينة الموصل القديمة
وفي صباح يوم الإثنين 21 رجب عام 1156هـ ـــ 9 أيلول 1743مـ وصلت طلائع الجيش الإيراني إلى القرى القريبة من الموصل محرقة مهلكة مدمرة. وخيم نادر شاه في منطقة (يارمجه) بالقرب من الموصل متخذاً منها مقراً له ومن هناك وفدت إلى المدينة سفارة من مقر الشاه يرأسها مفتي كركوك السابق، تحمل رسالة كتبها ملا باشي علي أكبر الرئيس الديني للإيرانيين إلى حسين باشا الجليلي يطالبه بالاستسلام ويحاول فيها استمالة الموصلين بتصوير الحرب على أنها وسيلة لحسم نزاع عقائدي مع السلطان العثماني لا شأن لمدينتهم فيه. ومرة أخرى دعا الجليلي إلى اجتماع كبير في الفضاء الواقع خارج باب السراي أحد أبواب السور الجنوبية قريباً من الجامع الأحمر أحد أقدم المساجد الأثرية في الموصل وأهمها. وعند الجدار القبلي للجامع الأثري تمت تلاوة الرسالة التي بعث بها نادر شاه على مسامع الجمهور المحتشد وكما كان متوقعاً تعالت الهتافات من كل ناحية تدعو إلى ضرورة التمسك بالمدينة إلى الرمق الأخير وإلى تفضيل الموت في الحرب على الاستسلام المشين. فكان الرد على رسالة الشاه برسالة جاء فيها: (... لن تسلم المدينة وفيها إنسان حي، ولن يرتكب أحد منا دناءة التسليم ولا يتحمل ذل مثل هذه الخيانة.... فلا سمعاً ولا طاعة، وأهلاً وسهلاً بالسعادة والشهادة هذه الساعة فما بيننا إلا ما صنع الحداد من سيوف حِداد ورماح مداد..).
الجامع الأحمر أحد أقدم المساجد الأثرية في الموصل
وهكذا أعلنت الحرب بين الطرفين. فنصب نادر شاه جسراً من هناك لعبور قواته إلى جانب المدينة، ليحاصر الموصل من كل الجهات.. وأمر ببناء 12 برجاً زودت بالمدافع الضخمة التي بدأت بالقصف ومن كل الجهات. فكان يوم السادس من شعبان 1156هـ الموافق 25 أيلول عام 1743مـ أول أيام الحصار والحرب. استمر قصف المدينة طيلة ثمانية أيام، قُدر ما ألقي على الموصل بخمسين ألف قذيفة، هدمت كثيراً من البيوت والمحلات وأطاحت بمعظم منائر المساجد فيها، ورغم ذلك لم تنقطع الحركة في المدينة المحاصرة فكل شيء يتحرك، الرجال، النساء، الشيوخ والأطفال، كل يحصن داره، وينقل الماء إليه تحسباً للدفاع من بيت إلى بيت، وقد أقسم الرجال كلهم على الموت، وإلا يسلموا أعراضهم إلى الغزاة المعتدين، أخفيت الفتيات الصغيرات في سراديب متداخلة، لا يهتدي إليها غريب، وضعن تحت رعاية السيدة حسينة زوجة حسين باشا الجليلي، وقد تم نقل كل المحاصيل المحصودة إلى داخل المدينة لئلا يستفيد منها العدو، أو يعمد إلى إتلافها. وكون الوالي الجليلي جيشاً من الرجال القادرين على القتال، تسلح بعضهم ببنادق وعتاد وآخرون بالسيوف والخناجر وكل ما يمكن القتال به، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن عددهم كان ما بين التسعة آلاف والعشرة انتظموا على شكل مجاميع كل مجموعة معها قائدها ومراتبها، تجمعوا في ساحة مقر الوالي (قلعة باشطابيا حالياً) وهي مقر القيادة، وجعل أولاده وأبناء عمه على حراسة أبراج المراقبة، فجر يوم الخميس أغارت هذه القوة العسكرية على قوات نادر شاه باتجاه مقر قيادته خارج الموصل بقوة سريعة الحركة واشتبكت مع العدو في منطقة (يارمجة) وأوقعت فيه خسائر كبيرة وقتلت أحد قادته المسمى جيلوخان وانسحبت إل داخل الأسوار بعد أن اثارت الرعب في جيش العدو واعطت درساً للشاه عن بسالة رجال الموصل.
بقايا قلعة باشطابيا
كان العمل مستمراً في البناء والترميم ورفع الأنقاض بهمة لا تفتر أبداً، هذه توصيات الوالي فكل بيت يهدم يعاد بناؤه في الحال، ومسؤولية بنائه على أهل الحي في تعاون تام. وفي اليوم الثامن من الحصار أذن المؤذنين من أعالي ما تبقى من منائر وقباب المساجد يهيبون بالأهالي للإسراع إلى جنوب الموصل حيث استطاعت مدفعية العدو إحداث ثغرة في السور بعد ثمانية أيام من القصف المركز الكثيف على السور، تدافع الناس بسرعة إلى منطقة (الثلمي) ينقلون التراب والحجارة بالأكياس وعربات النقل، وقاتل الرجال بعناد وقد شكلوا سداً بأجسامهم على طول الثغرة حتى تم ردمها، وصد المقاتلون العدو بعد معركة أستمرت سبع ساعات، وكان من بين الشهداء بعض اعيان الموصل ومنهم عثمان الجليلي أبن عم الوالي حيث دفن في السور مع الشهداء جميعاً بملابسهم حسب اقتراح مفتي الموصل يحيى أفندي الفخري ليبعث إلى الأجيال رسالة لن تنسى.
لملمت المدينة الباسلة جراحها في الأيام التي أعقبت معركة الثلمي فلا مجال للحزن فالعدو لا يزال يتحين الفرص. لم ييأس نادر شاه بعد فشل معركة الثلمي فدفع بمزيد من قواته عبر جسر من القوارب أقامه بين (القاضية) و (حاوي الكنيسة) واستكمل عبور قواته يوم 15 من شعبان من عام 1156هـ الموافق يوم الخميس الثالث من تشرين الأول عام 1743مـ وجهزهم بألف سلم. وبعد مقاومة الموصلين واستعدادهم عمد الإيرانيون إلى خطة وتكتيك عسكري كان متبعاً في حصار المدن المنيعة في ذلك العصر، وهو حفر أنفاق طويلة تحت الأرض، تتصل بأسس الأسوار تسمى (الغاماً) وتحشيتها بالبارود وتفجيرها لهدم تلك الأسوار، وهكذا فأنهم حفروا ثلاثة أنفاق، في ثلاث مناطق بين باب سنجار ومرقد الشيخ قضيب البان، وحشوها بالبارود، فشل تفجير اثنين منها وأنفجر الثالث باتجاه قوات نادر شاه، فأحدث حرائق فتكت بهم وشردتهم، وأستمر القصف المدفعي على السور، وقد كثف القصف على برج (باشطابيا) حيث مقر قيادة الوالي. ونصبت السلالم لتسلق السور ودارت رحى معركة رهيبة طاحت فيها رؤوس الغزاة من أعالي السلالم، فقد كان المدافعون يتواثبون على الأسوار يقطعون أيدي الغزاة ورؤوسهم حتى قتلوا الألاف منهم واستشهد من أبناء المدينة مئتين من الرجال. يذكر أن الوزير حسين باشا القازوقجي والي حلب جاء إلى الموصل ومعه الفين من شباب حلب، اشتركوا في الدفاع عن الموصل، التي كتب الزمن لأهلها وأهل حلب أن يواجها غزوات الطامعين والحصار والدمار، فتعاونتا في الصمود وهزمتا الأعداء. وأمام فشل خططه، وبعد فشل معركة السلالم ونفاذ العتاد عنده، عمد الشاه إلى انتهاج خطة جديدة تقوم على فرض حصار قاسي على الموصل، فأمر بتحويل أحدي شقتي نهر دجلة عن المدينة، وسد جميع الطرق الموصلة أليها، كما هاجم القرى المحيطة بالموصل، وأنزل جام غضبه على الأزيديين في سنجار. وقتل كثيراً منهم. فأمر الباشا دون تردد أن يحفر الناس الآبار الخاصة وأمر بحفر آبار عامة لسقاية المدينة. كانت هذه آخر محاولات الشاه إخضاع الموصل، أيقن بعدها أن كل مساعيه تنتهي إلى الفشل، وكانت النتيجة أن أهل الموصل الحقوا بنادر شاه وقواته الجرارة هزيمة ثقيلة مريرة. ولم يجد ملك الفرس امامه من خيار سوى التسليم بالهزيمة وطلب الصلح والرحيل مدحورً. وأن طلب الصلح مع حاكم المدينة أصبح ملحاً، خاصة بعد أن وصلته أنباء باندلاع ثورة كبرى ضده في العمق الإيراني. وهكذا فتح باب التفاوض بينه وبين حسين باشا الجليلي، فأرسل في طلب (ملا باشي علي أكبر) كبير رجال الدين الذي يرافقه، وطلب منه أن يصالح أهل الموصل على أن ينسحب بجيشه، فراسل علي أكبر المفتي (يحيى أفندي الفخري).. وليحفظوا له ماء وجهه قدم له الوالي عدد من الخيول العربية الأصيلة وانتهى الأمر بالتوقيع على الصلح بين الفريقين، وأنسحب الشاه يجر أذيال الخيبة مثقلاً بالضحايا من جيشه من أمام أسوار المدينة التي خرج أهلها يحتفلون بالنصر في الرابع من رمضان 1156 للهجرة الموافق يوم الاثنين 21 تشرين الأول 1743مـ. وفي طريق عودته مدحوراً إلى بلاد فارس، دمر نادر شاه عشرات القرى وأحرقها ونهب ودمر مئات من الكنائس والأديرة.
920 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع