الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
العراقيون والسَمَكْ
يُعدُّ السَمَكْ من النِعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها عباده، وتعدُّ لحوم الأسماك الغنية بزيت الأوميغا-3 من الأغذية البالغة الأهمية لصحة الإنسان، كما تُعدُّ مصدراً مهماً من مصادر اليود والفوسفور. وللأسماك فوائد كثيرة في الوقاية من مختلف الأمراض مثل الربو وأمراض القلب والجلطات الدماغية والوقاية من الخرف وغير ذلك من الأمراض. كما تُعدُّ الأسماك مصدر رزق للعديد من الدول والمواطنين.
تقول الروايات الدينية أن المائدة التي نزلت على نبي الله عيسى عليه السلام والحواريين والمذكورة في سورة المائدة نزلت في قرية (خربة سيلون) الواقعة في محافظة نابلس بفلسطين، وكانت المائدة عبارة عن سبعة من الحيتان (الأسماك) وسبعة أرغفة وكماة، وقيل: كان عليها خل ورمان وثمار وكرافس ولها رائحة عظيمة جدًا.
للسَمَكْ حضور كبير في المجتمع العراقي، كما يُعدُّ "السَمَكْ المسكوف" (المَسْـﮔوف) من أشهر الأكلات العراقية. ويُعدُّ السَمَكْ النهري المشوي الوجبة الرئيسية المفضلة لدى العراقيين، سواء كانوا في جنوب العراق أو وسطه أو شماله، حتى أن الكثير من المنحوتات البابلية والسومرية تحمل مشاهد للسَمَكْ.
وحسب العِالم الآثاري العراقي فوزي رشيد، والذي يستطيع قراءة أو تفسير الخطوط المسمارية، فإن رُقما طينية وُجدت في سبار وبابل تشرح كيفية شي السَمَكْ بالطريقة التي تُعرف اليوم بـ "المَسْـﮔوف".
وما يميز وجبة "السَمَكْ المَسْـﮔوف" أن جميع العراقيين يتمكنون من تحضيرها وأكلها، سواء كانت حالتهم الاقتصادية متدنية أو كانوا من الأغنياء، والجميع يعدونها بذات الطريقة، من دون أي اختلاف يُذكر. كما أن للسَمَكْ حضور في الأعمال الفنية العراقية، ومن أشهر أعمال الفنان الفوتوغرافي الرائد مراد الداغستاني (1917-1984) صورة صيّاد سَمَكْ يقوم برمي شبكته على ضفاف نهر دجلة في الموصل.
الأسماك العراقية:
لقد أنعم الله تعالى على العراق الكثير من آلائه ونعمه، منها وجود أنهار عظيمة وروافدها، إضافة إلى بحيراته وأهواره المسترخية في الجنوب، حتى كان يُطلق عليه "بلاد ما بين النهرين". وهناك العديد من أنواع الأسماك التي تعيش في المياه العراقية، وأشهرها: البُنّي، والبِزْ، والشَبّْوط، والجري، والگطَّانْ. وللسَمَكْ البُنّي خصوصية خاصة حيث تغنى به الشعراء والمغنون، والسَمَكْة البُنّية موجودة بشكلها التاريخي القديم في أنهار آسيا من العراق إلى الصين.
السَمَكْ المَسْـﮔوف:
السَمَكْ المَسْـﮔوف هو مَلِك المائدة العراقية، والكلمة من الفعل الآرامي (س ق ف)، أي (خوزق) وتعني (سيَّخ). و (مَسْـﮔوف) يعني مخوزق (مسيَّخ)، وذلك لأن من يشوي السَمَكْة يقوم بشقها وينظفها ثم يخوزق (يسيَّخ) السَمَكْة عرضيا بأسياخ (أوتاد) خشبية ترفعها عن الأرض وهي تقابل النار التي مصدرها حطب أو قطع خشبية توضع بالقرب منها.
السَمَكْ المَسْـﮔوف سهل التحضير، إذ يجب فتح السَمَكْة من ظهرها وليس من جهة البطن، كما يُفعل مع بقية الأسماك، ومن ثم تغسل جيدا ويوضع عليها الملح فقط من غير أن توضع معها أي توابل أو خضراوات. وتُثبَّت السَمَكْة المفتوحة على أوتاد خشبية بصورة أفقية وعلى مبعدة من حطب أو خشب مشتعل، إذ لا يجوز شيها بواسطة فرن غازي أو نفطي أو كهربائي، بل تشوى بهدوء وعلى نار خافتة. وخلال هذه الفترة تكون العائلة العراقية قد أخذت وقتها في تبادل الأحاديث وتناول المقبلات.
وتكاد وجبة السَمَكْ المَسْـﮔوف أن توحِّد جميع العراقيين مسلمين، وغير مسلمين، عربا واكرادا وتركمانا ويزيديين وصابئة، بل إن الصابئة هم أكثر من يفضلون السَمَكْ كونهم يعيشون على ضفاف الأنهر ويدخل ماء النهر الجاري ضمن مقدساتهم الدينية.
لقد كان ولا زال شارع "أبو نؤاس" الذي يحاذي نهر دجلة في جانب الرصافة من بغداد هو الأشَهر في مطاعم سَمَكْ المَسْـﮔوف، وما من زائر إلى بغداد إلا توجه إلى هذا الشارع لتناول وجبة مَسْـﮔوف فيه. وعادةً يقوم صيادو السَمَكْ بصيد أسماك (البُنّي والشبوط والكطان) بواسطة الشباك ويحافظون عليها لتبقى حية في مطاعم أبي نؤاس. وهناك طقوس معينة لإعداد هذه الوجبة في المطاعم العراقية، وتتلخص هذه الطقوس في أن يختار الزبون السَمَكْة التي يريد (سكفها) وهي حيَّة في حوض حفظ الأسماك، وبعد أن يختار الزبون سَمَكْته يتم وزنها وتقدير ثمنها، وبعد أن يتم تهيئتها تُقدَّم ساخنة مع الخبز العراقي والمُقبلات.
لقد تخطى السَمَكْ المَسْـﮔوف في السنوات الأخيرة الحدود العراقية، وبشكل خاص إلى دول الخليج، فصار يعشقه كل من تذوقه من عرب وأجانب. وفي الموصل كان الإقبال على الأسماك خجولا، وعلى غرار شارع أبي نؤاس ظهر السَمَكْ المَسْـﮔوف في كازينوهات منطقة الغابات السياحية. وشهدت الآونة الأخيرة إقبالا متزايدا من المواطنين نتيجة لانتشار عدد من المطاعم المتخصصة في الأحياء السكنية، حيث تقوم بعمل المَسْـﮔوف لأسماك الگطَّانْ التي ترد حيَّة من أحواض تربية الأسماك في دهوك.
للسَمَكْ مكانة مميزة في المجتمع العراقي، وكان السَمَكْ المَسْـﮔوف من الأكلات المميزة لرئيس الوزراء العراقي الباشا نوري السعيد (1888- 1958). تقول الدكتورة عصمت السعيد زوجة ولده صباح: "من الذكريات التي لا تُنسى جلساتنا العائلية مساءاً في حديقة (أبو المسناية) على ضفاف دجلة، ففي تلك الجلسات كان يطيب للباشا نوري السعيد أن يشاهد الطاهي وهو يشوي السَمَكْ المَسْـﮔوف على الطريقة البغدادية في أحد أركان الحديقة، وكثيرا ما كان يدعو بعض الفنانين والعازفين وقُراء المقامات العراقية إلى الدار، إذ كان يطرب ويشعر بالراحة والاسترخاء عند سماعها.
هناك قصة من التراث السياسي تقول: خلال (عزيمة) على مَسْـﮔوف جمعت الباشا نوري السعيد وعدد من أعضاء الحكومة وأعيان البلد آنذاك، وبعد أن تم (مد السفرة) ووضع المقبلات التي احاطت بسَمَكْة عملاقة (المَسْـﮔوفة سكفا بغداديا أصيلا)، قام أحد الشعراء الظرفاء بالتوجه نحو السَمَكْة وأخذ (يشم) ذيلها، فقال له الباشا نوري السعيد: ماذا تفعل يا شاعرنا، فقال له الشاعر: أريد أن أعرف هل السَمَكْة فاسدة، فقال له نوري السعيد: ولكن يجب عليك أن تشم رأس السَمَكْة وليس ذيلها، فنظر الشاعر الظريف إلى نوري السعيد وأشار بيده إليه قائلا: أنا متأكد من أن الرأس فاسد، ولكن خوفي على الذيل أن يفسد!!
التغني بالسَمَكْ:
للسَمَكْ مكانة خاصة في عالم الغناء، ومن الأغاني التراثية العراقية التي تُنسب الى الملا عثمان الموصلي (1854-1923م) أغنية "يا صياد السَمَكْ... صيدلي بُنّية". وتعدُّ صدّيقة الملاية (1901-1969) أشهر من غنى هذه الأغنية بصيغتها القديمة، وعند سماع هذه الأغنية يُلاحظ فيها محاكاة البيئة ومميزاتها والعتب على الحبيب إذ تتهمه بالتمييز الاجتماعي:
يا صياد السمج صيدلي بُنيّة.. عجب أنتَ حضري وأنا بدوية
https://www.youtube.com/watch?v=MLYA0W3hRyA
كما غنى "يا صياد السَمَكْ" قارئ المقام العراقي اليهودي سليم شبث. وغنى الحلبي صباح فخري "صيد العصاري يا سَمَكْ يا بُنّي"، أما فاروق هلال فقد غنى "يا صياد السَمَكْ.. صيد لي بُنّية.. قلبي بشبك صادوه وما حن عليَّ". وفي العصر الحالي غنتها سيدة المقام العراقي المطربة فريدة محمد علي في قطر سنة 2013.
https://www.youtube.com/watch?v=2jqoChraVz8
1155 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع