دور العرب والمسلمين في نشأة كليات الطب الغربية وتطور مناهجها الدراسية -الجزء الأول

                                                      

                    الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
                باحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي
                 طبيب أطفال – الموصل / العراق


دور العرب والمسلمين في نشأة كليات الطب الغربية وتطور مناهجها الدراسية -الجزء الأول

الجزء الأول – كليات الطب في إسبانيا ( الأندلس )

لقد استمر تواجد المسلمين في الأندلس نحو ثمانية قرون ( 93-897 هـ ) (117-1292 م).وفي عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل ( 172 –182 هـ / 788-798 م) جعلت اللغة العربية لغة البلاد . وبتولي عبد الرحمن الناصر الذي أسس مدرسة ومكتبة علمية تضم ما يقرب من أربعمائة ألف مجلد الإمارة ، ومناداته بنفسه خليفة عام (350 –366 هـ / 961 –976 م ) ، غدت قرطبة عاصمة العلم والحضارة في أوربا والغرب الإسلامي يؤمها العلماء والطلاب من المشرق والمغرب وتتنوع فيها الدروس والمحاضرات وإجراء البحوث وتصنيف الكتب في معرض الحرية والتسامح .
وإضافة إلى ذلك فان من أسباب الازدهار العلمي الذي عرفته الأندلس منذ القرن الرابع الهجري وظهرت ثمراته الطيبة في القرنين الخامس والسادس هو " أن الأندلس لم تكن في وقت من الأوقات بمعزل عما يجري في حواضر العالم الإسلامي الأخرى ، بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس ، فقد كانت الصلات الفكرية والعلمية مستمرة بين مختلف أقطار العالم الإسلامي ينتقل بين ربوعها العلماء والطلاب والمؤلفات والمذاهب الفكرية ، وفي ميدان الطب الذي يعنينا ينبغي أن نذكر أن المؤلفات التي تظهر في المشرق سرعان ما كانت تجد سبيلها إلى الأندلس فيستفاد منها ويُعلق عليها " .
فرحلات الأطباء من وإلى الأندلس من بين الأسباب التي كانت وراء ازدهار الطب في الأندلس حيث تزخر كتب التراجم بأسماء العديد من أعلام الطب الذين قاموا برحلات لطلب العلم في العواصم الإسلامية الأخرى .
وحتى بعد زوال حكم ملوك الطوائف في القرن السادس وقيام دولة المرابطين ومن ثَم دولة الموحدين الذين حكموا الأندلس مع الجزء الأكبر من بلاد المغرب وجعلوا مراكش عاصمة لهم ، فان العلوم بشكل عام والطب بشكل خاص لم يتأثر بتلك التقلبات السياسية لأن الملوك والأمراء أحاطوا العلماء والأطباء برعايتهم وأتاحوا لهم – في غالب الأحيان – أجواء مناسبة لممارسة نشاطهم المهني والعلمي ،فكان الطلاب يتلقون عن شيوخهم في الجوامع والمدارس مختلف العلوم الطبيعية والرياضية والطبية ، ويتناولون منهم الإجازات العلمية .
وكان من نتائج هذه الحركة العلمية خلال هذه القرون في الأندلس إبراز أعلام في الطب لا يمكن سردهم هنا جميعا ولكن نذكر أسماء البعض منهم من الذين تجاوزت شهرتهم العلمية آفاق العالم الإسلامي إلى أوربا المسيحية مثل ( الزهراوي ، وأبناء بني زهر ، ابن رافد ، ابن طفيل ،ابن رشد ، الإدريسي ، الغافقي ، ابن ميمون ، ابن طملوس ، ابن الخطيب ، ابن خاتمة ،ابن الرومية ، وابن البيطار وغيرهم كثير ) . وعندما بدأ سلطان الموحدين ينحسر في القرن السابع الهجري بسقوط عدد من المدن والثغور والحصون الأندلسية بيد النصارى زال عدد من المعاهد العلمية التي كانت منتشرة في المدن الضائعة وهاجر علماؤها إلى الأماكن الآمنة في المغرب أوفيما بقي من جهات الأندلس في يد المسلمين كدولة بني الأحمر .
" وفي عام ( 653 هـ / 1217م ) تأسست دولة بني الأحمر على يد أبو عبد الله محمد الغالب بالله النصري الذي جعل غرناطة قاعدة ملكه فاهتم هو وكثير ممن جاء بعده من ملوك بني الأحمر بتنشيط الحركة العلمية ".
" وحينما حلّ القرن الثامن الهجري ( الرابع عشر الميلادي ) نشطت حركة التعليم في غرناطة ومدن أخرى كمالقة والمرية ووادي آص ، وكان الطب والرياضيات والفلك من العلوم الأساسية التي تدرس في الجامع الأعظم في غرناطة وفي مدارس المدن الأخرى "
و حمل العرب المسلمون فترة مكوثهم في إسبانيا مشعل العلم والحضارة واعتمدت جميع مراكز التعليم في أوربا على طليطلة واشبيلة وغرناطة حيث كان المستعربون وطلاب العلوم يشدون الرحال إليها . وفي عام 925 م أرسل اوتو الكبير ملك الألمان ، الراهب ( جون ) إلى قرطبة مبعوثا إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر وأثناء مكوثه فيها لمدة ثلاث سنوات تعلم العلوم والثقافة العربية وحمل معه المخطوطات العلمية العربية .
وأما أهم شخصية في هذا العصر المبكر لتلاقي الفكرين العربي الإسلامي مع المسيحي اللاتيني فهو جيربرت المواطن الفقير من مواطني اكويتانيا الذي استطاع بمواهبه العقلية تربع عرش البابوية في روما تحت اسم سلفيسترالثاني ( 999-1003 م).وكان أول من أدخل التعليم الدنيوي ودافع عنه على أسس تقدمية ، كما وأنه من أوائل المهتمين بالثقافة العربية والمضمون التجريبي للعلم وهو الذي أدخل الأرقام العربية إلى أوربا بدل الأرقام الرومانية .
" فعندما كُتِبَ للأسبان الانتصار على العرب في حربهم الطويلة مع المسلمين التي يسميها كتابهم بحرب الاسترداد وتمكنوا من استعادة طليطلة عام 478 هـ / 1085 م، أخذ ملوك قشتالة يعملون على رفع مستوى الثقافة بين شعبهم ، بنقل كنوز الثقافة الإسلامية إلى لغاتهم .
ومن ثم ظهرت في طليطلة ( مدرسة للمترجمين ) التي نقلت العلوم الإغريقية وما أضافه العرب إليها من شروح وتعليقات إلى المدارس الأوربية فقد كانت هذه المدينة موئلا للعلم منذ عهد بعيد تمتاز بمكتباتها العظيمة التي نقلت إليها من المشرق بآلاف المجلدات ، كما انظم إليها جزء لا يستهان به ممن مكتبة الحكم الثاني . وكان بها جماعة حرة من المترجمين يعملون في هذه المكتبات ينتمون إلى طوائف ثلاث يحاور بعضها بعضا ، المسلمين والنصارى واليهود " .
"وإن مؤسس هذه المدرسة ( ريموند Raymond) أسقف طليطلة ( من سنة 1126 –1151 م) هو الذي دعا إلى مدينته مختلف العلماء ، وأمر بعمل الترجمات وأدخل دراستها مناهج المدارس المسيحية " كما يقول الدوميلي ، وكان فعله هذا حدثاً حاسماً ترك أبعد الأثر في مصير أوربا كما يقول رينان . ثم توالى خلفاؤه من الأساقفة في تشجيع هذه الحركة والحدب عليها حتى استمرت أكثر من قرنين . " وفي عام 1250 م تأسس أول معهد للدراسات الشرقية وكان هدفه تدريب الإرساليات لتوجيهها إلى المسلمين واليهود " .
وبلغ الاهتمام بنقل آثار العرب إلى اللاتينية أوجه في عهد الفونسو العاشر الملقب بالحكيم
( 1252 –1284 م) حيث بلغت طليطلة في عهده الذروة باعتبارها مدينة النور والعلم ، كما " وأسس في مرسيه بعد تغلبه عليها مدرسة أسند إدارتها إلى عالم مسلم أصله من هذه المدينة هو أبو بكر محمد بن احمد الرقوطي المرسي ، الذي كان طبيباً مشاركاً في كثير من العلوم ، وكان يقرئ في هذه المدرسة أجناسا من الطلاب بألسنتهم ، ذلك أنه كان ماهراً في معرفة اللغات ، وكان يجتمع عليه المسلمون واليهود والنصارى للأخذ عنه " .
ثم نُقِلت هذه المدرسة إلى اشبيلية بعد ذلك وأنتُدِب فيها أساتذة من المسلمين لتدريس الطب والعلوم ، وفي هذه المدرسة أيضا امتزجت الحضارة العربية والأسبانية وتخرج منها كبار الفلاسفة الغربيين .
وظلت طليطلة كذلك مركزاً للثقافة الأسبانية } واشتهر من المترجمين في معهد طليطلة الإنكليزيان روبرت الكيتوني (Robert of Ketton ) وأديلارد الباني ( Adelard of Bath ) والإيطالي جيرارد الكريموني Gerades Cremonensi )) { .
كما يقال أن شانجة Sanche ملك ليون وأستور ( الملقب بالسمين ) تعلم الطب في قرطبة .
وفيها ترجم ادلارد ( مربي الملك هنري الثاني ) عام 1126 م فهارس المجريطي في الفلك والرياضيات والذي كان لكتاباته أثر فعّال على روجر بيكون وعلى تأسيس الطريقة العلمية التي نسبت لبيكون .
وبمجيء جيرارد الكريموني ابتدأت المرحلة الثانية لمدرسة الترجمة بطليطلة ، باعتباره أشهر المترجمين ، حيث ينسب إليه وفرقة الترجمة التي كانت معه ( وكان أشهر أولئك غالب Gallipos ) ترجمة ما يقرب من مائة كتاب منها كتاب المنصوري للرازي ، والقسم الجراحي من كتاب التصريف والقانون لابن سينا …. الخ .
" كان الانبعاث اللاتيني المتمثل بجيرارد الكريموني في الأساس انبعاثاً للعلوم الطبيعية ، وليس العلوم الإنسانية التي جاءت في عصر النهضة في القرن الخامس عشر ، ومنذ أن أمضى جيرارد أغلب عمره في طليطلة ، ما فتئت أسبانيا تحتل مركز الثقافة في العالم وقد فتح عمل جيرارد الذي لانظير له في حقل الترجمة ، بكل شيء للعالم اللاتيني كنوز الفلسفة والرياضيات والفلك والطبيعة والطب والكيمياء الإغريقية والعربية " .
هذا واستمرت حركة الترجمة في طليطلة في القرن الثالث عشر ومن أشهر النَقلة فيها في ذلك القرن ميخائيل سكوت ( الاسكتلندي ) الذي ترجم بعض كتب ارسطو وابن سينا ، كما كان أول من ترجم كتب ابن رشد إلى اللاتينية . وبذلك تكون مدرسة طليطلة في مرحلتها الثانية هذه قد فتحت الباب على مصراعيه أمام أوربا لتنهل من العلم العربي وتبدأ نهضتها الحديثة .
ومن بين المترجمين من العربية إلى اللاتينية في أسبانيا الفْريد السارشيلي ، ناثان المئوي ،وسليمان بن يوسف ، وجيوفاني دي كابوا . وترجم اصطفان السرقسطي (1232 م) الأقرباذين لأبن الجزار كما ترجم ارمنجو في النصف الثاني من القرن الثالث عشر كتابا في تدبير الصحة والأخلاق والارجوزة لأبن سينا مع شرحها لأبن رشد .
(( وإن أول الجامعات الحديثة التي أنشأت في إسبانيا كانت جامعة (( سلامنكا )) في سنة 1243 ، أنشأها فرديناند الثالث كاستاد عام وكانت تضم ثلاث كليات ، الحقوق والآداب والطب ، ولكن شهرتها كانت بنوع خاص في دراسة القانون المدني والقانون الكنسي .
ثم أنشأت جامعة (( سنفيل )) سنة 1254 ، أنشاها الفونسو الحكيم لدراسة اللاتينية واللغات السامية وخاصة العربية .وفي أوائل القرن الخامس عشر توجت جهود مارتن الخامس بإنشاء مدرسة اللاهوت واعتبرت مناراً روحيا لأوربا الكاثوليكية .
أما جامعة البرتغال الوحيدة فهي جامعة ليشبونة ، وقد أنشأت سنة 1290 وتنقل مقرها فيما بين ليشبونة وكوامبرا إلى أن إستقر نهائياً في موامبيرا سنة 1537 . وقد أصدر لها الملك دنيس مرسوماً يشبه المرسوم الذي صدر لجامعة سلامنكا ، وقد أعيد تأسيسها في سنة
1772 ))

---------------------

- الخطابي ، محمد العربي – الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية ج1 ص 15 .
- الخطابي ، المصدر نفسه ج1 ص 29 .
- الخطابي ، المصدر نفسه ص 240 – 241 .
- الدوميلي ، العلم عند العرب وأثره في تطور العلم - ص 456 .

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

991 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع