سُلطةُ الإعلام

                                                   

                           د. زكي الجابر


سُلطةُ الإعلام

                حوار أجراه عبد السلام بِنعيسَى

إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
- الأستاذ زكي الجابر، تَتَعرَّضُ بعضُ البُلدانِ العربيّةِ لِلحِصارِ والتَجويعِ مِنْ طَرَفِ أمريكا، وكما نعلمُ ضَحايا الحصارِ هيَ الشعوبُ بأطفالِها ونسائِها وعَجَزَتِها. هذا الحِصارُ قُدِّمَ في الإعلامِ الغربيِّ على أساسِ أنَّه فِعلٌ قانونيٌّ وحَضاريٌّ. كيفَ، في رأيِكَ، يتمكّنُ الإعلامُ الغربيُّ من السيطرةِ على عقولِ شعوبِه لإقناعِها بأَنَّ الحِصارَ قانونيٌّ وحَضاريٌّ؟
- للإجابةِ على هذا السؤالِ لا بُدَّ من التعرُّفِ على الماكِنةِ الدِعائيّةِ للإعلامِ الغربيِّ أو الماكِنة الدِعائِيّةِ لمُجمَلِ الحركةِ الإعلاميّةِ القائمةِ في الغربِ، فَوَفقاً لِما قامَ به ’’تشومسكي‘‘ Chomsky(1) وبعضُ زملائِه من دراساتٍ هُناكَ خَمسَةُ عَوامِلَ تتحكّمُ في هذا الإعلامِ. العاملُ الأوّلُ وجودُ حَجمٍ كبيرٍ في المُمتَلَكاتِ، في العامِلِينَ، في الوسائلِ. والعاملُ الثاني هو الإعلاناتُ، فوسائلُ الإعلامِ الغربيّةُ تعيشُ من هذه الإعلاناتِ، وهناكَ أيضاً الاعتمادُ في التَزَوُّدِ بالأخبارِ على مَصادِرَ حكوميّةٍ، مِثلَ الجَيشِ والاستِخباراتِ ووِزاراتِ الخارجيّةِ أو عن طريقِ وَسائِطَ أُخرَى متّصلةٍ بهذه المصادر. والعاملُ الرابعُ، هُناكَ نوعٌ من العقوبةِ، فإذا أخَلَّتْ وسيلةُ الإعلامِ بالإطارِ العامِّ المرسومِ لها تتعرَّضُ لِضُغوطاتٍ سَواءٌ بالعقوباتِ أو بسَحبِ الإعلاناتِ أو بالدعايةِ المُضادَّةِ لها، ويصلُ الأمر أحياناً إلى التَهديداتِ وقد يتعَدّاهُ إلى المَحاكمِ وإلى الإفلاسِ. والعاملُ الخامسُ وجودَ عداءٍ للفِكرِ التَحرُّريِّ بشكلٍ عامٍ في جَميعِ أنحاءِ العالَم.
فإذا فَهِمنا هذه العواملَ الخَمسةَ واستَحضَرْناها في تعامُلِنا مع الإعلامِ الغربيِّ نستطيعُ أن نَفهَمَه وأنْ نَجزِمَ بأنّنا لا نستطيعُ، نحنُ بإعلامِنا الضَعيفِ الذي يخضَعُ لِمُؤَثِّراتٍ عديدةٍ، مُقاوَمةَ هذا الإعلام.
- هل يعني هذا، أستاذ زكي الجابر، أنّ الإعلامَ الغربيَّ بِمُقَوِّماتِه الخمسةِ التي تحدّثْتَ عنها إعلامٌ لا يتمتّعُ بالحريّةِ إزاءَ صانعِ القرارِ السياسيِّ في بُلدانِه؟
- في مَوضوعِ الحريّةِ الإعلاميّةِ والمَوضُوعِيَّةِ والإنصافِ، هذه المبادئُ التي تَعلَّمناها ونُعَلِّمُها لِطَلَبَتِنا والتي لا زِلْنا نتمسَّكُ بها، ليستْ على مُستَوَى الواقعِ العمليِّ مُطَبَّقةً في جميعِ أنحاءِ العالمِ، فالإعلامُ حالِيّاً وكيلٌ للقُوَّةِ، وهذه القُوَّةُ تتمثَّلُ في ثَلاثَةِ عَناصِرَ: عُنصرُ المالِ والقُوَّةِ بِمَعنَى العُنفِ أي السلاحِ وأخيراً ’’التَكنولوجيا‘‘. فمن يَمتَلِكُ هذه العناصرَ هو الذي يمتلكُ الإعلامَ وهو الذي يُوَظِّفُهُ لأغراضِه، وحين نتحدّثُ نحنُ عن الحريَّةِ والموضوعيَّةِ والإنصافِ نكونُ كَمَنُ يتحدّثُ عن الأساطيرِ، فَلَكَ كَمُواطِنٍ مجالٌ من الحريَّةِ، ولَهُ أيضاً مجالٌ من الموضوعيَّةِ ولكن ضِمْنَ حدودٍ معيَّنَةٍ ومن غيرِ أن يتجاوزَ الخُطوطَ الحمراء.
- وأنْ يتصرَّفَ في السِياقِ العامِّ الذي يرسِمُه صانعُ القرارِ السياسيّ.
- تماماً، وهذا يَعودُ بِنا إلى المبدأِ الأوّلِ الذي تعلَّمْناهُ في دراستِنا الإعلاميّةِ والذي يَعتبرُ العاملَ السياسيَّ من ضِمنِ العواملِ الرئيسيّةِ الأولَى التي تتحكَّم في الإعلامِ وتُوجِّهَهُ. ولقد وُجِّهَتْ انتقاداتٌ في هذا الصَدَدِ بحيثُ أُضيفَ إلى هذا العاملِ العاداتُ والتقاليدُ والثقافةُ ومُؤثِّراتٌ أخرَى عديدةٌ فَلسفيَّةٌ واجتماعيَّةٌ، ولكنّها كُلُّها تلاشتْ وعُدْنا إلى البدايةِ وهي أنَّ الإعلامَ مُرتَبِطٌ بالنظامِ السياسيِّ القائِمِ ولا يُمكِنُ فَصلُه عنه، والدراساتُ الإعلاميَّةُ التي تَتِمُّ الآنَ تُؤكِّدُ باستمرارٍ علَى أنَّ النظامَ السياسيَّ القائمَ هو الذي يُرتِّبُ أوْلَوِيّاتِ الإعلامِ بما يَخدِمُ مَصالِحَه.
- ولَكِنْ نُلاحظُ، الأستاذ زكي الجابر، أنَّ صُحُفاً غربيّةً مُؤثِّرةً جداً مثل ’’واشنطن پوست‘‘ Washington Post و’’نيويورك تايمز‘‘ New York Times و’’لوموند‘‘
Le Monde تَخرُجُ عن تَوجيهاتِ النظامِ السياسيِّ في بُلدانِها أحياناً، وفي هذا السياق تحدَّثَتْ مثلاً في الأزمةِ الأخيرةِ مع العراقِ عن كونِ ’’الأنسكوم‘‘ UNSCOM، اللجنةِ المكلَّفَةِ بِنَزعِ أسلحةِ الدَمارِ الشاملِ العراقيّةِ، كانتْ تتجسَّسُ على العراقِ لفائدةِ أمريكا. فكيفَ تتحدَّثُ هذه الصُحُفُ عن مثلِ هذه الأشياءِ، ولماذا تَفعَلُ ذلك إذا كانت موجَّهةً ومُتَحَكَّماً فيها؟
- هذا سؤالٌ مهمٌ جِدّاً، فهناكَ حريّةٌ وأنا لا أنكِرُ ذلك، هُناك مَدَىً مُعيَّنٌ من هذه الحريّةِ، وسَنظلِمُ أنفُسَنا إذا أنكَرْنا ذلك. فَنحنُ في بُلدانِنا نَكادُ نعتمدُ في الوصولِ إلى الحقائقِ ليسَ علَى وسائلِ إعلامِنا ولَكِنْ اعتماداً على أجهزةِ الإعلامِ الغربيّة فَأيُّ فَضيحةٍ سياسيّةٍ أو أخلاقيَّةٍ أو غيرِها تَحدُثُ فإنَّ مصادِرها الأساسيّةَ تكونُ هي وسائلُ الإعلامِ الغربيّةُ، فالمُعلِنُ يُريدُ أن تَصِلَ بِضاعتُهُ إلى أكبرِ عددٍ ممكنٍ من الجُمهورِ، ولِكَيْ يَصلَ إلى ذلك لا بُدَّ من الإثارةِ، وتتجسَّدُ هذه الإثارةُ في فضائح أخلاقيّةٍ وسياسيّةٍ وما يَجري وراءَ الكَواليس. فَمِنْ أجلِ الوصولِ للجُمهورِ وشَدِّ انتباهِهِ وتركيزِهِ لا بُدّ من تَقديمِ أخبارٍ ومعلوماتٍ مُثيرة. فأنا أُتابعُ أنباءَ ’’سي بي أس‘‘ CBS و’’سي أن أن‘‘ CNN و’’أن بي سي‘‘ NBC باستمرارٍ لأنّها تُقدّمُ لي معلوماتٍ، لَكنْ مَنْ المُستفيدُ الأوّلُ من تلكَ المعلوماتِ؟ طَبْعاً صانعُ القرارِ السياسيِّ، فَحتَّى اللَكَماتُ التي يوجِّهُها ’’تايسون‘‘ Tyson(2) لِغَيرِه من المُلاكِمينَ والمُبارَياتُ المُثيرةُ والفضائحُ الجِنسيّةُ المتكَرِّرةُ والفضائحُ السياسيّةُ، كلُّ هذه الأشياءِ مُرتبطةٌ بما يحتاجُهُ السوقُ الذي تَكْمُن وراءَهُ شَركاتٌ متعدِّدَةُ الجنسيّاتِ وَراءَها قُوىً سياسيّة.
- هل أفهمُ من كلامِكَ أنَّ مِثلَ هذه الأخبارِ التي تُنشَرُ في الإعلامِ الغربيِّ وتكونُ أحياناً غيرَ مُتطابقةٍ مع نظامهِ السياسيِّ هي فَلْتاتٌ إعلاميّةٌ مقصودةٌ، الهدفُ منها إعطاءُ المِصداقِيّةِ للإعلامِ الغربيِّ؟
- لا أظنُّ ذلك. إنّها جزءٌ من النظامِ العامِّ للإعلامِ الغربيِّ، فهذه الأخبارُ الّتي أسمَيْتَها فَلْتاتٍ إعلاميّةً ليسَ لها تأثيرٌ على السياسةِ العامّةِ لأنّها تتحرّكُ ضِمنَ الإطارِ العامِّ للسياسةِ المَرسومة، ولا يُمكنُ أن نَتصوَّرَ أنها تُحدِّدُ الأركانَ العامّةَ للسياسةِ، فهي تأتي ضِمنَ النَمَطِ العامِّ وتشكِّلُ جزءاً من النظامِ العامِّ الذي يتميّزُ بوجودِ الفَضائِح والتحدّياتِ والتمرُّد، ولكنّه نِظامٌ مُؤَسَّساتيٌّ قائمٌ وسيظلُّ قائماً بهذه الصِيغةِ التي تتضمَّنُ كلَّ هذه المُتَناقضات.
- يَظَلُّ قائماً وَفْقاً لِثوابِتَ محدّدة؟
- أجلْ، وَفْقاً لِثوابِتَ محدّدةٍ، وهذه الثَوابتُ لنْ يُصيبَها التغييرُ، والإعلامُ يَظلُّ يتحرّكُ في ظِلّها، وهو سَيبقَى صدىً لها وسَجِيناً بَين جُدرانِها.
- ولكنَّ الغربَ يعتبرُ أنَّ الإعلامَ ركيزةٌ أساسيّةٌ في نظامِهِ الديمقراطيِّ الذي قوامُهُ التعدّدِيَّةُ والحَقُّ في الاختلاف.
- ما في ذلكَ شكٌّ. الإعلامُ الغربيُّ جزءٌ لا يتجزَّأُ من نظامِهِ السياسيّ، إنّهُ ركيزةٌ أساسيَّةٌ لهذا النظام. فكما توجدُ السلطةُ التشريعيّةُ والسلطَةُ التنفيذيّةُ والسُلطَةُ القَضائِيّةُ هناكَ جانبٌ آخرُ هو الإعلامُ الذي لا نستطيعُ أن نُسمِّيَهُ بالضَبطِ سُلطَةٌ، فإذا جازَ واعتبرْنا أنّهُ سُلطَةٌ فَسُلطتهُ مرتبطةٌ بِسُلَطٍ أُخرَى أقوَى وأكثرَ نُفوذاً وتأثيراً منه. فمَهْما كانَ أيُّ بلدٍ يتمتّعُ بديمقراطيّةٍ لا يُمكنُ لنِظامِه السياسيِّ أن يضَعَ إعلاماً يؤدِّي في النهايةِ إلى تدمير البِنيَةِ الفلسفيّةِ التي يرتَكزُ عليها.
- الأستاذ زكي الجابر، نُلاحظُ أنَّ الإعلامَ الغربيَّ يتمكَّنُ في الكثيرِ من الأحيانِ من حَشدِ عَطفِ الملايينِ من مُستَهلِكيه لفائدةِ قِطّةٍ مريضةٍ أو عُصفورٍ جريحٍ أو حِصانٍ كُسِرَتْ رِجلُه ولكنّه في نَفسِ الوقتِ يتمكَّنُ بسُهولةٍ من تَبريرِ قَصفِ مُدُنٍ عربيّةٍ وإسلاميّةٍ بالقنابلٍ والصَواريخِ دون أن يَشعُرَ بالحَدّ ِالأدنَى من الحرج. بماذا نفسّرُ هذا التناقضَ؟
- نحنُ نتحدّثُ عن الإعلامِ الغربيِّ بعد انحسارِ الإعلامِ الاشتراكيِّ وذلكَ بسببِ الجَهلِ بمُقوِّماتِ جذبِ الجمهورِ، فإذَنْ نحنُ نتحدَّثُ عن إعلامٍ مُحدّدٍ بسِماتٍ مُحَدّدةٍ ألا وهو الإعلامُ الغربيُّ، فالهدفُ الأساسيُّ من هذا الإعلامِ لم يَعُدْ هو الإعلامُ، لقد صارَ هَمُّهُ الرئيسيُّ هو الترفيهُ. والخبرُ، عندما يُصاغُ فيه، يُصاغُ لِكي يكونُ مُسَلِّياً ويَجذِبُ الجُمهورَ إليه. فحاليّاً الجُمهورُ الغربيُّ يهمُّه مشاهدةُ هذه الوَقائعِ التي أشرتُ إليها لأنّها تُقدَّمُ بصِيَغٍ مُثيرةٍ للعواطف. فالأخبارُ تُصاغُ اليومَ بشكلٍ دراميٍّ ومَسرحِيٍّ ليؤدِّيَ ذلك إلى جَذبِ أكبرِ عددٍ مُمكنٍ من الجُمهورِ ليَستَفيدَ المُعلِنُ بعدَ ذلك. فالمستفيدُ الأوّلُ من ذلكَ هي الشركاتُ العابِرَةُ للقارّاتِ، وهي تُريدُ من الإعلامِ أن يركِّزَ على أخبارِ الإثارة.
وضِمنَ إطارِ الإثارةِ يُقسِّمُ الإعلامُ الغربيُّ الضَحايا إلى نوعين: الضَحايا ذَوِي القيمةِ والضحايا غَيرِ ذَوِي القيمة. فالأوائِلُ حينما يُبرَزُونَ في أجهزةِ الإعلام فإنَّ ذلكَ يتِمُّ بالشَكلِ الذي يَجذِبُ التَعاطُفَ وبشَكلٍ هائِلٍ ومَخدُومٍ إعلاميّاً، وأما الآخَرون، حتَّى وإن كانُوا بالمِئاتِ وبالمَلايينِ، فَهُم عالَمٌ آخَرُ مُنفَصِلٌ عن العالمِ الغربيِّ وتُقَدَّمُ قضاياهم بصِيغَةٍ لا تَجلِبُ التعاطُفَ معَها. فهناكَ إذَنْ ضحايا مُقَرَّبونَ وضحايا مُبعَدُون، والإعلامُ الغربيُّ يشتغلُ وَفقاً لهذا المِقياسِ، فدائماً هناكَ هُمْ، أيْ الآخَرون، وهناك نَحنُ، أي الغربيّون.
- ولكن كيفَ يَقبلُ الإنسانُ الغربيُّ الذي له تراثٌ عَقليٌّ ونَقدِيٌّ زاخِرٌ تَراكَم عَبرَ قُرونٍ من الزمنِ أن يَقبلَ وُجودَ إعلامٍ يُنسَبُ إليه على هذهِ الشاكلة؟
- بِهَذا السُؤالِ سنعودُ إلى جَوهرِ التَكنولوجيا الإعلاميّةِ، فالوَسائِلُ المُهَيَّأةُ للإعلامِ والّتي يستخدمُها هيَ ذاتُ طبيعةٍ استِحواذِيّةٍ تَهدِفُ إلى السَيطرةِ وفَرضِ الديكتاتوريّة. فالمُواطنُ يتقبَّلُ ما يُقدِّمهُ له الإعلامُ وكأنّهُ مُسَلَّماتٌ مما يُؤدّي إلى فَرضِ سيَطرةِ كُلّيَةٍ تُلغي الفِكرَ النقدِيَّ ويتحوَّلُ الإنسانُ، تَبَعاً لذلك، إلى عَبدٍ نائمٍ، والإعلامُ يتركُ هذا العبدَ يَغُطُّ في نومِهِ ، ولا يسمَحُ بإيقاظِهِ لِكَي يُفكِّرَ فيما هو عليه مِن حال. فوسائلُ الإعلامِ ليستْ كِتاباً يُقرَأُ بتَأنٍ وبتَركيزٍ، إنّها آلةٌ تشتغلُ بِسُرعةٍ وبتواترٍ للسَيطرةِ على الإنسانِ، فمنذُ أن يستيقظَ الفردُ إلَى أنْ ينامَ وهو يتلقَّى الرَسائِلَ الإعلاميَّةَ الهادِفةَ إلى دَمجِهِ والسيطرةِ عليه مِن غَيرِ أن تترُكَ له حتَّى مَجالَ التفكيرِ، فهيَ تُلغِي عقلَه وتُزيلُهُ عنهُ.
- وبماذا تُفَسِرُّ، الأستاذ زكي الجابر، حُدوثَ مُظاهراتٍ في العواصمِ الغَربيّةِ احتِجاجاً على سِياسةِ الغربِ في العالمِ الثالثِ رغْمَ وجودِ إعلامٍ غربيٍّ على هذا النَحِو؟
- هذهِ المظاهراتُ تقعُ ولكنَّها هيَ بِدَورِها تَتِمُّ ضِمنَ الإطارِ العامِّ للنظامِ السياسيّ الغربيِّ، ففي أيِّ مكانٍ من العالمٍ لا بُدَّ من وُجودِ أُناسٍ يُفكِّرون، فَمِنَ المستحيلِ أن يكونَ كلُّ الناسِ وبِدُونِ استثناءٍ لا يفكِّرونَ، لكنْ لا بُدَّ من الاتفاقِ على أنَّ عددَ هؤلاءِ محدودٌ جِداً. فالمظاهراتُ التي تَتِمُّ لا تكونُ شامِلةً وذاتَ تأثيرٍ فعّالٍ، فدائماً هناك ما يُعرَفُ إعلامِيّاً بالجُمهورِ العاصِي وهو الذي لا يكونُ كَكُتلَةٍ من الطِين. فهذا الجمهورُ يتقبّلُ الأخبارَ والمعلوماتِ ويُحلِّلُها ويُناقِشُها ويَقبلُ منها ما يَنبغي قَبولُه، ويرفُضُ ما يتَعيَّنُ رَفضُه، ولكنَّ هذا الجُمهورَ يَبقَى، كما أسْلَفتُ، ضِمنَ الإطارِ العامِّ وهو يَتلاشَى فيه، فالأحداثُ، رغمَ خُطورتِها، أصبحتْ تُقَدَّمُ كَفُرجَةٍ وكـ ’’فانتازيا‘‘، سواءٌ عَبْرَ المُذيعاتِ الجميلاتِ أو عن طريقِ صياغةِ الخَبرِ دراميّاً وبالصُوَرِ المُتقَنَة.
- بالإضافةِ إلى هذا يُرَكِّزُ الإعلامُ الغربيُّ أثناءَ الصِراعِ معَ بعضِ البُلدانِ على قادَتِها وزُعمائِها، ويتحدَّثُ على أساسِ أنَّ صِراعَه مع أولئكَ القادةِ وليسَ مع شُعوبِهم. فَلِماذا، في رأيكَ، التركيزُ على الأشخاصِ؟ هل فعلاً الصراعُ يتِمُّ مَعهم وليسَ حولَ السياساتِ والبرامجِ والخُطَطِ؟
- لِكَيْ تَكسِبَ الجُمهورَ لا بُدَّ لك من التركيزِ سَواءٌ عن طريقِ شِعاراتٍ أو أشخاصٍ أو عن طريقِ رموزٍ، فالإعلامُ يتجنَّبُ أن يتحدَّثَ بشَكلٍ عامٍ. ففي زمانِ انتشارِ الفِكرِ الاشتراكيِّ كانَ الإعلامُ الغربيُّ يركِّزُ علَى كلمةِ ’’أحمر‘‘ الذي كانَ يُوصفُ بأنَّهُ رَمزٌ للخطورةِ، وفي عَهدِ النازيّةِ كانَ التركيزُ يقعُ على كلمةِ نازيٍّ أو الصَليبِ المَعقوف. فَعِندما يلجأُ الإعلامُ الغربيّ إلى شَعبٍ مُعيَّنٍ أو فِكرٍ مُعيَّنٍ فإنَّهُ يختزِلُه لأنّهُ لا يَستطيعُ تقديمَهُ بشَكلٍ كاملٍ، لِذلكَ يَختَصِرُ الشَعبَ كُلَّه في واحدٍ ويختصرُ الفِكرَ وبذلك يتمكَّنُ من الوُصولِ إلى غايَتِه. فالجمهورُ الغربيُّ غيرُ مُستَعدٍّ وليسَ لهُ الوقتُ لاستِيعابِ المَلايينِ من المَشاكلِ والقَضايا والهُمومِ والأسئلةِ، لذلك يَختصرُها له إعلامُهُ في شخصٍ أو في فِكْرة. فَحَتَّى أثناءَ التَدريسِ لكَي يَفهَمَ الطلبةُ والتلاميذُ فإنَّنا نُقَدِّمُ لهم مِثالاً نَختصِرُ به الإشكاليَّةَ المَطروحةَ فيَسهُلُ عليهِم فَهمُها.
- وقد تَكونُ الغايةُ من وَراءِ التركيزِ على الأشخاصِ هي تَبريرَ العُدوانِ، فالقصفُ الذي يتعرَّضُ له الأبرياءُ يَزعُمُ الإعلامُ بأنَّ المُستهدَفَ هو فُلانٌ الفُلانيّ.
- في دِراسَتِنا للتاريخِ نَدرسُ هارونَ الرشيد ونَدرسُ معاويةَ بن أبي سُفيان وخُلَفاءَ مُعيَّنينَ، ولكنْ هُناكَ العشَراتُ من الحُكّامِ مَرُّوا مِن دونِ أنْ نُركِّزَ عليهم، فالتَركيزُ دائماً يَقَعُ علَى فِكرٍ معيَّنٍ وعلَى رمزٍ مُحدَّدٍ ويَتِمُّ تَرْكُ البَقِيَّة.
*******************
1- ’’نعوم تشومسكي‘‘ Noam Chomsky (1928) له أكثر من مائة مؤلَّفٍ في موضوعات اللغويات، الحرب، السياسة، وسائل التواصل الجماهيري. فعَّال في الحركات ضد الرأسمالية والاستعمار. (ويكيپيديا)
2- ’’تايسون‘‘ Mike Tyson أو مالك تايسون ملاكم أمريكي، ولد 1966، حصل على لقب بطل العالم للوزن الثقيل وهو في العشرين من عمره. سجن بتهمة اغتصاب فتاة وفي السجن اعتنق الإسلام وظلّ عليه. (ويكيپيديا)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في صحيفة ’’الأحداث المغربية‘‘ (المَغرب)، 1-2-1999.

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

791 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع