العولمة أعلى مراحل الإمبريالية - الجزء الأول

                                                             

                               د. ضرغام الدباغ

   

العدد : 243
التاريخ : / 2021

العولمة أعلى مراحل الإمبريالية

الجزء الأول

العولمة نظام دولي جديد برز في نهاية مرحلة الحرب الباردة، والتي كان مؤتمر مالطا / 3 ـ 4 / كانون الأول / ديسمبر / 1989الثنائي ببين الرئيسين : الأمريكي جورج بوش، والسوفيتي ميخائيل غورباتشوف، والذي عقد على متن الباخرة السوفيتية مكسيم غوركي، والذي أسفر عنه الإعلان عن وضع نهاية للصراع بين القولتين الأعظم ومما أعلن عن المؤتمر:

تخفيض الأسلحة النووية والكيمياوية.
بدء مرحلة من التعاون بين القوتين.
التعاون لإيجاد حل للقضية الفلسطينية.

ولكن النتائج الفعلية لمؤتمر مالطا (1989)، بدأ تتجسد على ميدان العلاقات الدولية:
إنهاء شبح الحرب بين العملاقين.
رفع الأمريكيين للحظر التكنولوجي على روسيا و تقديم القروض لها.
تخفيض القوات العسكرية للعملاقين بأوروبا.
زوال القطبية الثنائية.
تراجع دور روسيا عالميا.
إتاحة هجرة يهود روسيا إلى إسرائيل.
ظهور التعددية الحزبية في دول شرق أوروبا.
توجه دول المعسكر الشيوعي نحو اقتصاد السوق.
تقارب الشرق والغرب سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

وبعد نحو عام على مؤتمر مالطا انعقاد مؤتمر باريس للأمن و التعاون في 19/11/1990، حيث تم الإعلان الرسمي عن إنهاء الحرب الباردة، ظهور فكرة النظام الدولي (Neue Weltordnung) الجديد بعد اقتراح من الرئيس الأمريكي "جورج بوش"، ثم وجد فيما بعد أن هذه التسمية غير مناسبة فجرى تعميم تسمية العولمة (Globalisation) ، بتقديري ليبدو أقل قسوة وإرغامية، على أساس أن تسمية العولمة انطلقت من فكرة أن العالم بفضل السرعة الهائلة والتطور الكبير في وسائل الاتصالات قد أصبح أشبة بالمدينة الكبيرة. وأن الاقتصاد يتجه بشكل متسارع بل ينجرف نحو الدولنة. وهذه الأفكار الأولية كانت تعني نهاية المعسكر الاشتراكي، وبروز صيغ جديدة للعمل الدولي، وبدأ تدريجياً تتكون ملامح عالم جديد أحادي القطبية. بدت الآمال المعقودة على هذا النظام الجديد خيالية، إذ انطلقت الولايات المتحدة وقد تحررت من عقد التوازن، لتغرض مواقفها السياسية، وتصورها الاستراتيجي على أصعدة الاقتصاد على العالم، في توجه ينم عن فرض الحلول دون اعتبار لمصالح الشعوب والدول. وتزايد الشراسة في استخدامها للقوة المسلحة والنزعة الاستعمارية في العلاقات الدولية، والحديث عن فرص للتطور والتنمية، ترجم واقعيا إلى ازدياد تكبيل البلدان النامية بالديون ومعوقات التنمية، وطغى استخدام عبارة " الدول الفقيرة " على مصطلحات : العالم الثالث، البلدان النامية.وسرعان ما انتقلت التناقضات إلى قلب العام الرأسمالي نفسه، فسقط الاقتصاد الأوربي إعياء وإرهاقاً في مشكلات مصرفية في حمى سباق وتكديس الأرباح، وكادت دول صناعية مهمة أن تعلن افلاسها، وما لبثت التناقضات بدأ تعصف ببلدان الاتحاد الأوربي الذي يجاهد للحفاظ على وحدته، فيما أثيرت المشكلات في العلاقات بين ضفتي الأطلسي، السياسية منها والاقتصادية، وبلغ التدهور في انتقال قوى اليمين المتطرف الذي لا يتورع عن إطلاق شعارات لها فحوى عدواني، من البلدان التي تشكل تقليديا المرتع لقوى اليمين (ألمانيا وإيطاليا) إلى مجتمعات دولة كانت مستبعدة كهولنده والدانمرك، انتقلت إلى بريطانيا، ومن ثم إلى متروبول الرأسمالية العالمية نفسها في الولايات المتحدة الأمريكية.واليوم تلوح تناقضات عميقة داخل المجتمعات الرأسمالية وبتقديري، أن للتناقضات الاجتماعية / الطبقية دورها الهام في العمليات الدائرة، ذلك أن قوى رأس المال تتغير، إضافة إلى الدور الخطير للتقدم التكنولوجي، والأجيال المقبلة الوشيكة للتقدم التكنيكي تنبأ بتطورات ذات أثر اجتماعي عميق، وفي هذا تنشط قوى متطرفة تريد أن تقيم حرائق اجتماعية / اقتصادية / ثقافية، تحت لافتات التعصب الديني، والعرقي، ولكن الحقيقة هي إرهاصات وتبلورات طبقية جديدة ستشهدها المجتمعات الرأسمالية.كان عهد الحكومة التي يقودها الحزب الجمهوري اليميني يمثل واجهة لمحتوى قوى اليمين، وكاد العالم أن يشهد حرباً عالمية، ربما محدودة، وأن يتخذ الصراع بين القوى الدولية والمتربولات الرأسمالية طابعا ليس بالضرورة بالوسائل العسكرية التقليدية، ولكن ربما أن الحسابات والاحتمالات لم تكن مشجعة، ثم حلت جائحة كورونا، وآثرت الولايات المتحدة على التراجع ومحاولة تجميد الموقف عند حدوده المحتملة ريثما يتمكن العالم الرأسمالي نمن إعادة تنظيم صفوفه، ولكن على الأرجح فإن نظام العولمة لم يعد مشروعاً يمكن أحياؤه ... بعد مرحلة كورنا سنشهد ملامح ومقدمات لنظام جديد.هذا البحث أدناه، كنت قد دونته في عز مرحلة نظام العولمة، وفيه تنبأت أن هذا النظام ينطوي على تناقضات حادة يستبعد معه أن يعيش لفترة طويلة، وأن هناك مشكلات كثيرة تنخر هذا النظام. واليوم إذ أعيد نشره لأني أريد التأكيد أن العولمة كان ذروة الإمبريالية، وهذه الذروة أرجح أنها صارت ورائنا ...!

ضرغام الدباغ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في مطلع هذا القرن كتب فلاديمير لينين احد أهم كتبه " الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية "، وأدركنا بعد التجربة إن الولوج في عالم دراسات وأبحاث الرأسمالية والاقتصاد السياسي ، يحتم فعلاً دراسة هذا العمل.
وكنا قد قرأنا هذا الكتاب غير مرة ثم تناولناه بدراسة معمقة، ومن المثير للدهشة أني قرأت مرة مقابلة مع العالم الفرنسي بيير جاليه، أكد فيها أن الفكر العالمي لم ينتج عملاً يماثل كتاب لينين في أهميته، ثم أن أستاذاً ألمانياً معروفاً (بروفسور دكتور رئيس قسم في الاقتصاد)، نصحني أن أدرس مجدداً هذا الكتاب وباللغة الألمانية، ومن المدهش مرة أخرى أن اكتشف بنفسي، أنك تكتشف في هذا الكتاب من تشخيص وإشارات وتحليل ما لا تجده في أعمال أخرى، حتى في أعمال أساتذة كبار أمثال يوجين فارغا، وتوماس سنتش، وأوسكار لانجة.

ولكن أمور كثير تغيرت، أو ينبغي تطويرها، أو تعديلها الآن بعد أن دخل الرأسمال العالمي مرحلته الإمبريالية الجديدة بما في ذلك دراسة ظواهر جديدة في نظام الإمبريالية الجديدة، التي يطلق عليها تلطيفاً بالعولمة. فالولايات الأمريكية المتحدة لا تخفي ضيقها وتبرمها من تسميات وأوصاف كالإمبريالية مثلاً، فقد حدث أن تقدمت وطالبت بنفسها وبمذكرات رسمية، من دول ومؤسسات عدم استخدام هذا المصطلح، وبلهجة لا تخلو من التهديد، ورأس الحكمة عند البعض مخافة أمريكا، واليوم شجاعة أن تقول أن هناك إمبريالية، وقد يتطلع إليك شزراً بعض من كانوا في مقدمة المتظاهرين وحاملي اللافتات .. يوم كان هناك استعمار وإمبريالية ..

لذلك شاع مصطلح جديد (العولمة) وهو تلطيف لنمط جديد من الإمبريالية افتتحته الولايات المتحدة الأمريكية، بمؤشرات :

* نهاية القطبية الثنائية.
* دخول الرأسمال العالمي في مرحلة دولنة كثيفة غير مسبوقة للاقتصاد.
* تنامي مؤشرات لمشكلات مستقبلية في الولايات المتحدة والعالم الرأسمالي.
* صياغة أهداف وهمية لإخطار خرافية أو مبالغ بها، أنتجها (مفكروا) الرأسمالية لخلق حالة من الاستنفار والتعبئة في صفوف العالم الرأسمالي من جديد خلف دبابات وجيوش وبنوك تقودها الولايات المتحدة لاحتلال العالم.

ويتبارى (مفكروا)، وشركات العلاقات العامة ومنتجوا الأفلام وكتاب وصحفيين ممن اعتادوا تأجير أقلامهم من العاملين بالقطعة، وربما حتى رؤوسهم، وكل يدلو بدلوه بصرف النظر عن أسئلة أخرى يطرحها مشاغبون ومثيري الفتن !! فالمسألة أولاً وأخيراً بزنس ! وقد يصارحك بعضهم القول، بأنهم كسبة على باب الله لا أكثر ولا أقل، والقناعة كنز لا يفنى ! وأنا أعلم ... أقول أعلم .. أن هناك من الكتاب والصحفيين يشتمون بأجرة، ويمدحون بأجرة ... وأعرف صحفيين يشتمون الجهة الفلانية، على أمل أن تقوم تلك الجهة (دولة) بإسكاتهم وذلك بملأ أفواههم دولارات ..!

ومن أبرز ظواهر وملامح الإمبريالية الجديدة، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تقود معسكراً جراراً لا نظير له في تاريخ العالم وهي في قمة قوتها سياسياً، إذ حولت الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى مقهى للكسالى والمتكاسلين، وتحصل على ما تشاء بتراب الفلوس، واقتصادياً تتمتع بقوة مالية تبيح لها خوض المغامرات دون أن تخشى شيئاً، أما على الصعيد العسكري فتنفرد بحق امتلاك ما تشاء من أسلحة، و لكنها وهذا الانكى، أنها تستخدمها جهاراً نهاراً ليس في حقول تجارب، ولكن في أجساد وأوطان عباد الله ، ومنها وطني العراق. كما استخدمت في أجسادنا رجالاً ونساء وشيوخاً وأطفال اليورانيوم المنضب، وأصناف من أسلحة ربما البعض منها لا يزال سرياً.

اليوم هناك مصطلحات محظور عليك أستخدامها، ومنها الإمبريالية ... ولكن أشتم ما شئت (القومجية) وأخف قليلاً (الاشتراكية)، و(الوطنجية) اليوم يوم ترويج شعارات ومصطلحات دينية طائفية لأنها تفرق ولا تجمع، لأنها جعجعة بلا طحين، كلام فاضي يضر ولا ينفع ...


ماذا يعني عصر العولمة

لا بد من عودة إلى الوراء وتحليل جذور قيام أسس المجتمع الدولي، الذي أفضى في مضاعفاته اللاحقة إلى عصر الحرب الباردة، الذي آل إلى تخلي الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية عن المنافسة وإخلائها الميدان لصالح الولايات المتحدة ليقوم بالتالي ما يصطلح عليه بالعولمة Globalisation.

من أجل فهم هذا المصطلح الهام، وبالتالي ليصبح بالإمكان تعريفه وإيضاح أبعاده، لنعد إلى عصر الثورة الصناعية قد قادت إلى عصر الاستعمار الذي كان قائماً بصفة رئيسية على الاحتلال المباشر وممارسة سياسة الضم والإلحاق، أما والاستعمار الجديد Neo Colonialism كان تعبيراً صادقاً عن تطور الأنظمة الرأسمالية الاستعمارية وانتقالها إلى مرحلة استعمارية متقدمة تمثلت باتحاد سلطة الدولة مع الاحتكارات وسلطة رأس المال المالي، وصيرورتها متربولات عملاقة للاحتكارات الرأسمالية العظمى اتحدت مع سلطة الدولة وأقامت النظم الإمبريالية.

وقد استفادت الرأسمالية الأمريكية من عوامل عديدة لتصبح بالتالي مركزاً رئيسياً من مراكز رأس المال وكانت قد وجدت في الحرب العالمية الأولى الفرصة الذهبية لتصدير رأس المال إقراضاً واستثماراً أو كمبيعات لسلع وبضائع جاهزة ومنتجات زراعية. لذلك فأن الدور الأمريكي برز بصفة خاصة بعد مؤتمر باريس في أعقاب الحرب العالمية الأولى وإعلان مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون، وبشكل متزايد ابتدأت الولايات المتحدة تطرح نفسها طرفاً دولياً مهماً على مسرح العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن ذلك لم يكن يعني بعد أفول مجد الدول الاستعمارية القديمة، إذ كانت القوة العسكرية لبريطانيا وفرنسا(بصفة عامة) لما تزل بعد مؤثرة وكانت مستعمراتها في مختلف القارات تمدها بأسباب النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري.

أفرزت الحرب العالمية الأولى عنصراً جديداً ومهماً للغاية وسوف تتزايد أهميته على مسرح السياسة الدولي في المراحل اللاحقة، تمثل ذلك بظهور دولة الاتحاد السوفيتي، ومع أنه ما زال مبكراً الحديث عن قوة وتأثير الاتحاد السوفيتي الفعال في السياسة الدولية، بسبب حملات التدخل ومحاولات العزل والحصار التي كانت تقوم بها الدول الرأسمالية ضد الدولة الاشتراكية الحديثة، إلا أن باكورة أعمال تلك الدولة تمثلت بخطوة كبيرة في الانسحاب من الاتفاقية الثلاثية حول تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية التي كانت تضم روسيا ـ فرنسا ـ بريطانيا، والتي أضحت بعد الانسحاب الروسي تدعى باسم اتفاقية سيكس/ بيكو، وفي الثلاثينات كان قد أشتد عودها لتدعم بقوة الجمهورية الأسبانية بوجه القوى الفاشية الأسبانية المدعومة من الفاشية الألمانية والإيطالية.

ومع أن الرأسمالية كانت تنظر إلى الاتحاد السوفيتي كعدو يجب الاتحاد ضده، إلا أن الصراعات بين المتروبولات الرأسمالية في نفس الوقت كانت عملية لا تعرف التوقف، فالرأسمالية كطبيعة لا تعرف شيئاًً سوى التوسع، بل هي تحتضر ثم تموت ما لم تمارس التوسع. وقد تسعى الأقطاب الرأسمالية إلى تنسيق فعالياتها كي لا تصطدم ببعضها وتجنب ما قد ينجم عن هذا الاصطدام من آثار مروعة، وقد تعقد تحالفات وائتلافات، وقد تتفق فيما بينها على هذا الأمر أو ذاك في هذه المرحلة، وتعقد المؤتمرات والاتفاقيات وتتقاسم فيما بينها(المصالح)، ولكن هذه الترتيبات ليست نهائية، وعندما يصل التنافس ذروته حيث لا محل في القمة سوى مقعد واحد، آنذاك سوف تسعى الأطراف المتنافسة إلى احتلاله، وتنهض تحالفات جديدة، وتدور صراعات يمكن أن تتطور في أي لحظة إلى صراع مسلح، عندما يبلغ التناقض نقطة لن يكون بوسع نظام العلاقات السائد استيعابه، ويبلغ التناقض في المصالح درجة لا يمكن السكوت عنها، يتطور ذلك الصراع إلى درجته المسلحة بصرف النظر عن الخسائر فالأمر يدور حول كل شيء أو لا شيء، فتاريخ الحروب في العالم تشير أن الحروب هي حرفة رأسمالية.

وكانت النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الأولى عبر معاهدة فرساي، وضعت على كاهل الدول الخاسرة للحرب(ألمانيا خاصة) تبعات ثقيلة( أجبرت ألمانيا على دفع تعويضات تقدر بحوالي 120 مليار مارك ذهبي، وهو يفوق قدرة الاقتصاد الألماني المحطم)، ولم تكن هذه سوى بوابة للعبور إلى تناقضات جديدة تمثلت كالعادة في التوسع، فالإيطاليون الذين خرجوا من الحرب العالمية الأولى دون مكاسب تذكر، اختاروا في الحرب العالمية الثانية التحالف مع ألمانيا، حيث توصلوا إلى صياغة تصورات جديدة للعلاقات ومناطق النفوذ والمكاسب في أوربا والعالم.

ومع أن الرأسمالية بجناحيها: (الديمقراطي)والفاشي، كانتا معاديتان للاشتراكية ، إلا أن الفاشية أرادت أن تنفرد بكل جبهة، فالاتحاد السوفيتي رأى في الحرب أنها صراع يدور بين الأقطاب الرأسمالية على أعادة اقتسام للعالم، فيما كانت وجهة نظر الرأسمالية انتهازية. فأميركا قالت إن طحن الألمان النازيون الاتحاد السوفيتي فذلك خير، وإذا هزم السوفيت الألمان فهو خير كذلك.
فالحرب العالمية الثانية، هي إذن وليدة الحرب الأولى ومقررات مؤتمر فرساي حيث تناهبت الدول المنتصرة ممتلكات الدول المندحرة بل وقطعت أوصالها وأثخنتها بالديون الثقيلة والنزاعات الداخلية التي قادت إلى أزمات وصراعات محلية.

الحرب الأولى نتج عنها أيضاً، ثورات دموية في المجر وجيكوسلوفاكيا، وفي ألمانيا نفسها، ثم في تركيا العثمانية، ثم شهد العالم ولادة أول دولة اشتراكية في العالم(الاتحاد السوفيتي)وما رافق ذلك من صراعات داخلية وحروب تدخل خارجية عليها، بيد أنها (الحرب الأولى ونتائجها النهائية ووثائقها) خلقت ظروفاً ومقدمات لحرب أخرى، إذ أوقعت ألمانيا ضحية لعقوبات قاسية كما أن إيطاليا التي وقعت في قبضة الفاشية، تقدمت لتنال نصيبها من المغانم وهي تطمح لإحياء الإمبراطورية الرومانية في التوسع وحيازة المستعمرات وامتلاك القدرة على التأثير على الأحداث، منها تدخلها في الحرب الأهلية الأسبانية 1939 / 1936 ومغامراتها الاستعمارية في أفريقيا: ليبيا، تونس، الحبشة، الصومال، فوجدت خير حليف لها في الفاشية الألمانية التي كانت تسعى بدورها إلى أعادة ترتيب الأدوار في أوربا، وإنهاء التزامات مؤتمر فرساي والتوسع لإحراز النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري سواء في أوربا أو الحصول على مكاسب وامتيازات في أرجاء أخرى في العالم.

وفي الشرق البعيد، كانت اليابان قد قطعت أشواطاً مهمة في مجال استكمال الهياكل الداخلية، وكانت البورجوازية اليابانية قد أنجزت بناء ركائز صناعية مهمة الأمر الذي دفع الإنتاج إلى درجة لا بد من بعدها من التوسع وإحراز النفوذ وكسب مصادر مواد الخام والأسواق. وأصبحت مصطلحات مثل المجال الحيوي مرنة ومطاطة تشتمل على النفوذ والمكاسب الاستعمارية، كما وجدت البورجوازية اليابانية في الفئات العسكرية اليابانية المحترفة، التي كرست تقاليد فاشية، خير حليف داخلي ضمن النظام الإمبراطوري، فأسفرت بذلك عن نوايا توسعية دون مواربة.

لم نستنفذ البحث بعد عن الحرب العالمية الأولى كأسباب ونتائج وذلك للأهمية الكبيرة لهذه الحرب باعتبارها شهدت تنافساً محموماً على اقتسام العالم في ذروة مرحلة الاستعمار حيث لم يعد هناك ما يكسبه أي طرف إلا ما يخسره الآخرون، وهنا دخل الصراع بين الأقطاب الرأسمالية مرحلته التناحرية، فلم يعد للنظام الدولي آنذاك القائم أساساً على دبلوماسية الدول العظمى، العلنية والسرية، القدرة على تنظيم العلاقات بين الأقطاب في السعي المحموم لاقتسام العالم فيما بينها، إذ كانت الثورة الصناعية قد قادت إلى عصر الاستعمار، وكانت الأمم الصناعية والاستعمارية قد تنافست فيما بينها حوالي قرن على اقتسام العالم سعياً وراء المواد الخام والأسواق والذهب، كما مثلت المستعمرات في الوقت نفسه روافد للقوة العسكرية، سواء كقواعد عسكرية أو كقوة بشرية استخدمت في الحروب.

وكان الحكم الاستعماري الأوربي الفعلي في المرحلة 1878 / 1800 يشمل 67% من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية ما لبث أن أتسع إلى 85% عام 1914 حيث كانت قارات بأكملها تخضع للحكم الاستعماري المباشر.

أما في أوربا فقد كانت تدور رحى عملية تاريخية مهمة، إذ أفرزت التبلورات القومية دولتان صناعيتان حديثتان هما: ألمانيا وإيطاليا، وكانتا تسعيان دون هوادة إلى اكتساب مواقع نفوذ لهما سواء في القارة أو في خارجها( وقد أسلفنا ذلك) فإيطاليا كانت تطمح إلى جعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية، وألمانيا مضت في سياسة توسعية: Drangen nach Osten: الزحف نحو الشرق، أما إمبراطورية العثمانية فأنها كانت تلفظ أنفاسها لعدم إمكانها مواكبة التطور العلمي والتقني، فقد مثلت هي ومستعمراتها اللقمة الشهية لكافة الأطراف، عبرت ذلك عن نفسه بأشكال وصور متعددة.

ولما بلغ التوتر في العلاقات الدولية الذروة، إذ لم يعد هناك بين المتنافسين القدامى والجدد ما يمكن اقتسامه، أصبح بلوغ نقطة الصراع المسلح أمراً محتماً، ولإعادة اقتسام العالم بحسب قوة وقدرة كل قوة عظمى، أما الأحداث التفصيلية فلم تكن سوى رتوش على التخطيط الرئيسي للصورة، وكان الهدف الأساسي كما أسلفنا: اقتسام جديد للعالم بين القوى الاستعمارية القديمة: بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، والقوى الجديدة: ألمانيا وإيطاليا، فالعوامل الذاتية داخل أوربا ساهمت في بلورة وإفراز قوى جديدة، وبالتالي أهداف سياسية جديدة، كما أدت الصراعات الاجتماعية داخل الأمم الأوربية إلى بروز وتعاظم دور الطبقة العاملة في الأمم الصناعية مثل بريطانيا وفرنسا، وكانت الحرب الوسيلة المفضلة للفئات الاجتماعية المسيطرة في تحقيق مكاسب جديدة من جهة وقذف الملايين في أتون حرب تؤجل الصراعات الاجتماعية التي كانت محدقة في أوربا، فتحملت الطبقات الكادحة في البلدان الرأسمالية العظمى فاتورة خسائر الأرواح، ودفعت قضية الصراع الاجتماعي إلى الخلف في الأهمية أمام جشع ونهم حكوماتها في التوسع السياسي والعسكري.

لكن النتائج المباشرة للحرب العالمية كرست زعامة وقيادة الدول الاستعمارية القديمة: بريطانيا وفرنسا، وحلفائهم بالدرجة الثانية الولايات المتحدة وإيطاليا، الولايات المتحدة بصفة خاصة. وهكذا توفرت عناصر ذاتية وموضوعية في جبهة البلدان الصناعية والقوى الاستعمارية ومعطيات لتناقض سيقود في مرحلة لاحقة إلى صراع مسلح.

جدول يشير إلى رؤوس الأموال المصدرة إلى الخارج

    

المصدر : براندت، ريتشارد : حروب التدخل الأمريكية ص8 بيروت 1977

وكان تنامي دور بيوت المال(المصارف والبنوك) قد أنعكس مباشرة في هيمنتها على قيادة الدولة:

داخلياً / استغلت القوى البورجوازية في ألمانيا وإيطاليا واليابان، الفئات العسكرية المتنامية وتحالفت معها لتلبية طموحاتها في التوسع. فالأساس في القضية كان التوسع الاقتصادي والسياسي.
خارجياً / تحالفت هذه القوى الجديدة تحت شعار إزالة الغبن الذي لحق بها، وتوزيع جديد (عادل) للاستحقاقات في العالم.

وهكذا تشكلت أمامنا خارطة تحالفات وائتلافات جديدة داخلية من البلدان الصناعية وخارجياً على صعيد العلاقات الدولية حيث شكلت الدول الاستعمارية القديمة (بريطانيا ـ فرنسا) بوجه المحور الجديد للدفاع عن مصالحها الاستعمارية، فيما ظلت الولايات المتحدة ترقب الموقف من بعيد تتحين الفرصة المناسبة للانقضاض على المسرح في أضعف فقراته، وكانت تستغل المرحلة لتطوير صادراتها من رأس المال والتجارة، ولم تكن اللحظة المناسبة سوى أن تنشب الحرب الضروس لتضعف كافة الأطراف ولتبقى هي محتفظة بأمكاناتها سليمة لتكون القوة الحاسمة خلال الحرب وما بعدها.

لاحظ الجدول بمليارات الدولارات لحركة التجارة الأمريكية:

السنوات التصدير الاستيراد الفائض في الميزان التجاري
1940-1936 3,220 2,482 738
1945-1941 10,051 3,514 6,537
المصدر: جوليان, كلود: الإمبراطورية الأمريكية ص271 بيروت 1972

فالحرب العالمية الثانية كانت إذن في لحمتها وسداها عبارة عن نتيجة لاحتدام التناقضات بين الأقطاب الرأسمالية وبسبب بروز فئات جديدة في مجتمعاتها، فالتناقضات تقود في مراحلها المتقدمة إلى تجاوز الصراع خلاف ما وراء الكواليس وعبر الوسائل الدبلوماسية إلى الصراع مباشرة على مسرح الأحداث ومن درجته الدبلوماسية الهادئة إلى لغة المدافع الصاخبة، ولم يكن هناك رقم صعب في المعادلة سوى الاتحاد السوفيتي الذي كانت كافة الأطراف تكن له العداء وتود تصفيته ولطالما عملت على ذلك سراً وعلناً بالتآمر وبمحاولات العزل السياسي والتدخل العسكري والتحريض، كما أن الاتحاد السوفيتي بدوره كان ينظر إلى الصراعات التي تدور في المعسكر الرأسمالي بين استعماريين قدامى وفاشيين جدد، هو صراع بين الأطراف الرأسمالية على الأطماع والمكاسب ليس إلا.

ولكن الاتحاد السوفيتي كقوة مؤثرة وقع في مرمى أهداف القوى المتنافسة. فدول المحور(ألمانيا ـ إيطاليا ـ اليابان) اعتقدت، بصفة خاصة القيادة الألمانية، أن الاتحاد السوفيتي يمكن أن يكون المستودع الذي يجهز الحرب ضد الحلفاء ما تحتاجه من مواد خام وزراعية، بالإضافة إلى الأطماع الألمانية التقليدية في سياسة التوسع شرقاً، أما التحالف الغربي فقد رأى في سهوب الاتحاد السوفيتي الشاسعة أفضل دار فناء لقوات دول المحور.

وهكذا وجد الاتحاد السوفيتي نفسه مرغماً على ممارسة تكتيكات ومناورات في خضم هذه الصراعات الهائلة التي قذفت فيها مصائر دول وشعوب بين فكي أطماع البورجوازية الصناعية الأوربية في تطلعها إلى التوسع والصراع على الهيمنة والنفوذ.

بيد أن الحرب العالمية الثانية أنهت مخاطر الفاشية الألمانية والإيطالية في أوربا، والعسكرية اليابانية في آسيا، لكنها خلفت أثاراً سلبية على الدول الاستعمارية القديمة، فقد كانت الأنشطة التجارية والاقتصادية الأمريكية قد جعلت الولايات المتحدة في مرتبة متقدمة بين الدول الرأسمالية، إذ بلغ قيمة الذهب الذي تدفق خلال المدة 1939-1934 إلى الولايات المتحدة 9,991 مليون دولار، فيما تقلصت بعد نهاية الحرب مساحة الأراضي التي تدار استعمارياً من قبل الدول الاستعمارية إلى 30%فقط (لاحظ إنها كانت 85% قبل الحرب العالمية الأولى).(1)

وبذلك امتلكت الولايات المتحدة نفوذاً لا يمكن تجاهله، وأضحى تصدير رأس المال بكافة أشكاله، الشغل الشاغل للدولة، وبهذا المعنى أدى إلى التحام متزايد بين سلطة الدولة والاحتكارات وقيام سلطة الدولة الرأسمالية الاحتكارية إلى بروز دول إمبريالية كان لها أساليبها في الهيمنة والاستحواذ على مراكز النفوذ التي تعرضت للخلخلة نتيجة الحرب، بانسحاب قوى رأسمالية وضعف وتراجع أخرى، أساليب حديثة توارت أمامها الأساليب القديمة، ولكن جوهر العملية لم يطرأ عليه تغير كبير إذ ما برح ينطوي على التوسع وجني المزيد من الأرباح.

ولكن وجود الاتحاد السوفيتي كدولة اشتراكية يتعاظم نفوذها في العالم تدريجياً وبتأثيرات مباشرة وغير مباشرة بدعم نضال شعوب المستعمرات، والتأثير في نضال البلدان النامية في تعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي، كما كان له دوره في تأجيج النضال الوطني والقومي للشعوب المضطهدة، ومكانته السياسية والثقافية والاقتصادية وقوته العسكرية المؤثرة.

لم يمض وقت طويل على نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى بدا أن التناقض الرئيسي بين الرأسمالية والاشتراكية، الذي سيطبع ذلك العصر بسماته وعلامة للمرحلة، والعنصر الرئيسي الظاهر أو الكامن وراء التحالفات والائتلافات على مسرح السياسة الدولية.

وكانت أحداث بارزة ذات تأثير خطر تركت بصماتها على المرحلة، بل ومنحتها السمة وطابع الصراع، فقد توالت الأحداث:
* احتكار الولايات المتحدة للسلاح الذري(استخدمته ضد اليابان عام 1945) كسلاح رادع ومرعب.
* نشوب الحرب الكورية التي مثلت أولى احتمالات المواجهة بين قطبي السياسية الدولية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
* تأسيس حلف الناتو 1949، حيث لجأ الغرب الرأسمالي إلى سياسة الأحلاف بهدف عزله وحصاره وتضيق الخناق عليه بهدف محاولة عزله أو تقليل تأثيراته في العالم. ومن تلك الأحلاف أيضاً، السنتو والسياتو ومعاهدة مونرو.

* تأسيس عدد من المنظمات الاقتصادية والتجارية الدولية، منها ما هو تحت راية الأمم المتحدة مثل صندوق النقد الدولي IMF ، والبنك الدولي للتنمية والأعمار IBRD ومنها ما هو خارجها دون أن يكون بعيد عنها مثل منظمة التجارة الدولية GAAT ونادي روما ونادي باريس. واتفاقية برتون وودز Bretton Woods (في الولايات المتحدة الأمريكية صيف عام 1944) بحضور 44 دولة أعتمد فيها الدولار كقاعدة للتعامل التجاري الدولي.

هذه العوامل وغيرها، بلورت موقف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ما برح أن مضى يشتد في وضوحه وتبين ملامحه وأبعاده كانت أبرز مظاهره.
* ضعف دول أوربا الغربية وحاجتها الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة.
* هبوب رياح التحرر على المستعمرات التابعة للدول الاستعمارية، لأسباب:
* ضعف الدول الاستعمارية القديمة بسبب الحرب.
* قيام الاتحاد السوفيتي بمساندة هذه الحركات.
* نضج ووعي حركات التحرر الوطني والقومي.

وحيال هذه الحقائق، تشكلت جبهة عريضة لمقاومة النفوذ الإمبريالي، كانت قاعدته الرئيسية:

ـ الاتحاد السوفيتي ومنظومة البلدان الاشتراكية.
ـ الحركات والأحزاب العمالية في العالم الصناعي الرأسمالي.
ـ حركات التحرر الوطني والقومي في بلدان العالم الثالث والمستعمرات.

هذا التحالف الثلاثي الأطراف، كان مؤثراً في حركة التاريخ، لفترة تناهز النصف قرن وحقق مكتسبات كثيرة تمثلت بالتحرر السياسي لكافة بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كما أن الكثير من تلك البلدان تمكن بفضل انتهاج سياسة تحررية إلى استعادة ثرواتها الوطنية الرئيسية من قوى رأس المال العالمي وشركاته، وكانت بحق مرحلة غنية بالتجارب المهمة والنتائج الكبيرة.

وهذا المعسكر الذي يبدو عريضاً، كان يضم الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الاشتراكية، وجد أشكاله المعبرة في حلف وارسو الذي تأسس كرد فعل على تأسيس حلف الناتو(تأسس حلف وارسو عام 1955 .ستة أعوام بعد تأسيس حلف الناتو)وكذلك منظمة التعاضد والتعاون الاقتصادي للعلاقات المتكافئة المعروف بأسم الكوميكون، وتحديات كهذه كانت تضع العديد من البلدان الاشتراكية مثل الصين وكوريا الديمقراطية وكمبوديا وكوبا وألبانيا وفيتنام وعدد آخر من البلدان ذات التوجهات الاشتراكية في مواقع مختلفة البعد أو القرب من منظومة البلدان الاشتراكية، وكان ذلك يمثل ثغرة في النظام العالمي المناهض للغرب الرأسمالي.

وبسبب مشكلات ذاتية وموضوعية عديدة ليست مجال بحثنا هذا، كان الإخفاق أو عدم تسجيل نجاحات حاسمة نصيب الكثير من التجارب الوطنية، بل أن الاستعمار الذي غادر هذه البلدان مطروداً من الأبواب العريضة، عاد إليها متسللاً من النوافذ والثغرات الكثيرة، عبر الضعف الاقتصادي ودوامة الديون، والتحالفات غير المتكافئة.
أما على جبهة القوى والحركات العمالية والديمقراطية في البلدان الصناعية والرأسمالية، لم يكن الوضع بأفضل كثيراً من الأحزاب العمالية التي كانت متعددة ضمن المجتمع الواحد، بل كانت تخوض صراعات تنافسية فيما بينها، ولهذا السبب حدثت خسائر كثيرة في أميركا اللاتينية بالذات قبل غيرها في بلدان مثل: تشيلي، أرغولي، البرازيل، بوليفيا، كولومبيا، نيكاراغوا، غرينادا...الخ

وكانت الأحزاب والحركات الاشتراكية تتوزع إلى شيوعية موالية لموسكو أو موالية للصين، أو اشتراكية يسارية مستقلة، تروتسكية، وكانت شائعة في أميركا اللاتينية وغيرها أو حركات فوضوية، وكانت شائعة في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا، وأيضاً أميركا اللاتينية، وإلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية وحركات غوار مقاتلة، وبالإضافة لذلك كانت حركات نقابات العمال وحركات تحرر المرأة ومنظمات السلام وإتحادات الطلبة واتحادات الأدباء والكتاب التقدميين وغيرها لها دورها البارز.

ولكن سوء التنسيق بين القوى الاشتراكية كان له دوره السلبي، ففي بوليفيا مثلاً، حيث حجب الحزب الشيوعي البوليفي تأييده عن الثورة المسلحة بقيادة جيفارا، وفي تشيلي حيث قادت نقابات العمال الإضراب ضد الحكومة الاشتراكية وتطور إلى موقف استغلته القوى المعادية للاشتراكية.

ولابد هنا من الإشارة بنوع خاص، التي سيكون لها مغزاها المهم فيما بعد، هو بروز تيارات من بين الأحزاب الاشتراكية والعمالية في رؤى ذات آفاق جديدة لم تكن إلا رد فعل على الملامح الجديدة للرأسمالية، وللمظاهر والظواهر الجديدة لها، وهذه الحركات اتخذت في البداية أسماء تدل على جوهر الحركة مثل حركة البديلAlternativ أو حركات الخضر أو السلام الأخضر Green Peace وحركة البديل والخضر (كانت انطلاقتها الأولى من ألمانيا الاتحادية)، وكانت تؤكد ضرورة تطوير أساليب عمل الحركات والأحزاب أو الدول الاشتراكية بمواجهة الرأسمالية.

إذن، فأن التحالفات الاجتماعية الداخلية، والائتلافات الدولية على مسرح العلاقات الدولية قد أختلف قوامه باختلاف العهود والعصور، مع أن الموقف الاقتصادي كان العامل الحاسم داخلياً وخارجياً في تبلور تلك التحالفات والائتلافات ولكن باختلاف طبيعة القوى الاجتماعية المتحالفة وأهميتها ومكانتها في قيادة التحالف.

والمؤشرات الحديثة التي ابتدأت مع نهاية القرن الواحد والعشرين، فتلك عملية كانت قد ابتدأت في الواقع منذ السبعينات، وعندما أشتد تمركز رأس المال المالي(المصرفي) وغدت الدولة أداة بيد الاحتكارات الرأسمالية ليس إلا، كما اشتدت عملية تصدير رأس المال من بلدان المركز(المتروبولات) إلى الخارج، فعلى سبيل المثال بلغ أجمالي مبيعات عشر شركات متعددة الجنسية مساوي لمجموع الإنتاج القومي للقارة الأفريقية، وبلغ أجمالي مبيعات شركة جنرال موتورز الأمريكية عام 1986 حوالي 97 ألف مليون دولار، أي ما يساوي ثلاثة أضعاف أيراد السعودية النفطي، وتسيطر 50 شركة من هذه الشركات الاحتكارية الدولية على نحو ثلثي مجموع الأصول الثابتة في العالم. وتظهر إحصائيات 1986 أن مبيعات 500 شركة أمريكية الأصل(متعددة الجنسية) بلغ 1,8 تريليون دولار وبلغت أرباحها للسنة نفسها 70 ألف مليون دولار.(2)

واتخذت أساليب تصدير رأس المال والفعاليات الخارجية أشكالاً راقية ومتقدمة وتمكنت من اجتياح معظم بلدان العالم، ولم تنفع وسائل الحماية القانونية، حيث تقدمت تلك الاحتكارات بصيغة الشركات المتعددة الجنسية التي استطاعت تخطي الحواجز وقوانين الحماية، ووقفت حكومات البلدان الرأسمالية الصناعية بكل قواها السياسية والعسكرية والاقتصادية وراء هذه الشركات إلى أن تمكنت من التغلغل عميقاً في اقتصاديات مختلف بلدان العالم، والنامية منها بشكل خاص بتأثيرات كارثية.

ومن جهة أخرى، مضت الولايات المتحدة في استغلال هيمنتها المطلقة على مسرح السياسة الدولية بإطلاق شعار النظام الدولي الجديد ومن ثم العولمة، ومنحت هذه العناوين والشعارات أبعاداً دولية شرعية، عبر هيمنتها شبه المطلقة على المنظمات الدولية، السياسية والاقتصادية، وبدت وكأنها تياراً كاسحاً ليس بوسع أحد الوقوف بوجهه، ثم اتخذت هذه الهيمنة طابعها القهري والإرغامي عبر ضربات عسكرية في الشرق الأوسط بصفة خاصة(فلسطين والعراق) وفي يوغسلافيا، وتوجيه التهديد إلى دول أخرى في العالم (كوبا وكوريا) بذرائع مختلفة.

ولكن هذه التوجهات اتخذت بعد أحداث 11/ أيلول ـ سبتمبر طابعاً فعلياً، بدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تنزع فيه إلى الهيمنة المطلقة بحثاً عن ذرائع ليس لقمع التوجهات التحررية لدى بعض البلدان النامية وإخضاعها بصفة تامة، بل وحتى لبعض حلفائها السابقين، وتلك صفة جديدة حصلت عليها بسبب الهيمنة المطلقة وانعدام ظروف التنافس أو القطبية الثنائية، وسوف نتطرق إلى ذلك.

يركز بحثنا في هذا الجانب على ظروف قيام النظام الدولي الجديد أو العولمة Globalisation، حيث لابد من الإشارة بادئ ذي بدء إلى أن تسمية النظام الدولي الجديد كأنما أريد به نهاية لمصطلح النظام الدولي الذي قام على وحي وروح مؤتمر يالطا1991، الذي كان قائماً على الثنائية القطبية، وقد أنتهي هذا النظام بزوال الاتحاد السوفيتي.

وإذا كان النظام السابق وقد تعرفنا على آلياته القائمة أساساً على توازن القوى، فأن النظام الجديد هو عبارة عن مجموعة مفاهيم غامضة، ولكن الفقرة الأكثر وضوحاً فيه، تمثلت بتربع الولايات المتحدة منفردة على قمة هذا النظام، تحدد وتقرر بمفردها توجهاته وتسن مفاهيمه لا سيما في مجال اتفاقيات انتشار الأسلحة والتجارب النووية وأبحاثها وعسكرة الفضاء الخارجي والصواريخ العابرة للقارات، وما إلى ذلك من وسائل السيادة والقوة والهيمنة. فالولايات المتحدة كسبت الحرب الباردة بعد أن أنهكت الاتحاد السوفيتي في سباق التسلح على حساب التنمية في البلدان الاشتراكية.

وكانت أهم شعارات وشروط النظام الدولي الجديد: حرية السوق، إزالة الحواجز الكمركية، حقوق الإنسان. ولابد من الإشارة إلى جميع هذه الفقرات يجري تسويقها وتوظيفها وفقاً للمقاييس الأمريكية وقاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية الرأسمالية بصفة عامة، فحرية السوق تعني القبول بمبدأ الاحتكار والتجارة الحرة تعني رفع الحواجز مهما كان نوعها أمام فعاليات الشركات الأمريكية. وقد دارت صراعات مريرة بين الولايات المتحدة من جهة واليابان أو الدول الأوربية من جهة أخرى حول تفسير فقرات من اتفاقيات الجات التي أبدت الولايات المتحدة مراراً عدم الالتزام بها. وتعني حقوق الإنسان والديمقراطية تعني إتاحة المجال والفرصة للعمل أمام الفئات أو المتعاونين مع الولايات المتحدة ودون ذلك يعد إرهابا وتخريباً، فالمسألة برمتها تلاعب بالألفاظ يفتقر إلى المصداقية ولو بحدوده الدنيا والشواهد على ذلك كثيرة في الواقع، وفي مقدمة ذلك طرد الولايات المتحدة عام 2001 من مؤتمر حقوق الإنسان العالمي بأغلبية ساحقة من الأصوات.

بيد أن عنوان النظام الدولي الجديد بدا مريباً بعض الشيء فأستعيض عنه بمصطلح العولمة Globalization، وفي الواقع فأن هذين المصطلحين يخفيان الجوهر الحقيقي لعملية تدور وتهدف إلى هيمنة المركز الرئيسي العالمي للرأسمالية الاحتكارية وتوجيه العالم وفقاً لمفاهيمها ومقاييسها والتدخل حتى في الشؤون التفصيلية للشعوب والأمم.

وقد سعينا من خلال ما تقدم عرض المرتكزات والشروط الأساسية من أجل فهم دقيق للعولمة ومن خلال:

أولاً/ أن العولمة هي مرحلة من المراحل التاريخية لتطور رأس المال المالي، بل هي أكثرها تطوراً، إن اتحاد الدولة مع رأس المال الاحتكاري، هذا الاتحاد الذي فرخ الدول الإمبريالية، فالعولمة اليوم تعبير على أن هذا الحيوان الهائل قد بلغ مرحلة متقدمة في تطوره، بل أنه يصح القول أن العولمة، هي أعلى مراحل الإمبريالية.

ثانياً/ أن فعاليات الشركات المتعددة الجنسية قد تشابكت وتداخلت لتصبح من سمات الحياة الاقتصادية اليومية لمعظم شعوب العالم، وكذلك كثافة حركة رأس المال على الصعيد العالمي عبر شبكة هائلة من البنوك.

ثالثاً/ إن الموقف الاجتماعي الداخلي( بسبب شدة تمركز رأس المال المالي لارتفاع كلفة المشاريع، وارتفاع معدلات التضخم) أدى إلى وقوع الدولة وأجهزتها في قبضة الاحتكارات وبيوت المال وغدت الدولة الرأسمالية الاحتكارية مسخرة بصفة مطلقة لخدمة هذه الاحتكارات وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة ومثلها الدول الرأسمالية الرئيسية وعلى الرغم من ثرائها الكبير، لا تعمل بمجانية العلاج حتى للفئات المسحوقة، بل أن تكاليف التأمين الطبي باهظة بحيث يعجز عن دفع نفقاتها فهناك،37 مليون أمريكي عاجز عن دفع نفقات التأمين الطبي عام 1990 وأن 20% من أصحاب الثروات يستحوذون على 90% من صافي الدخل القومي.(3)
وفي مطلع الثمانينات بلغت شدة درجة تمركز رأس المال في الولايات المتحدة، لدرجة سيطرة ثمانية مؤسسات مالية كبرى هي:
مورجان، روكفلر، ديبوت، ملبون، بنك أوف أميركا، بنك شيكاغو، بنك كليفلاند، بنك فرست ناشنال سيتي، بلغ رأسمالها المستثمر في السبعينات 218 مليار دولار.(4)

رابعاً/ أما على الصعيد الخارجي فإن اشتداد دولنة الاقتصاد(أي المزيد من جعله دولياً) جعل من ذلك العنصر الأساسي، السمة الأساسية للمرحلة وعنصراً مهماً في أقامة التحالفات الخارجية للدولة(الولايات المتحدة) التي تولت قيادة الإمبريالية الجديدة(العولمة) بفضل انفرادها بالهيمنة على العالم.

خامساً/ ومع أن لكل مرحلة تاريخية من مراحل تطور الدولة الرأسمالية وسماتها التفصيلية، لكن العنصر الثابت يشير إلى استمرار السعي لجني الأرباح والتوسع السمة الرئيسية للرأسمال المالي ولكن مع أشداد ظاهرة الدولنة في الاقتصاد.

سادساً/ إن التنافس بين الأقطاب الرأسمالية(المتروبولات) كان عبر التاريخ وما يزال فقرة أساسية في العلاقات بين الدول الرأسمالية وليس ظاهرة عابرة. وكثيراً ما وصل إلى ذروته(الصراع المسلح) وقد حدث ذلك في مراحل التاريخ دائماً (14,000) حرب ونزاع مسلح(5)، أن التنافس والصراع على مراكز النفوذ واقتسام العالم كان السبب الرئيسي في هذه الصراعات، وسوف يستمر هذا العنصر ملازماً للرأسمالية في كافة مراحلها. وقد قلصت أسلحة الدمار الشامل عدد الحروب وأتساعها ولكنها لن تمنع اندلاعها بأي صورة من الصور

والعولمة بوصفها الناتج الطبيعي لتطور الرأسمالية لما بعد مرحلة الاستعمار الجديد ـ الإمبريالية، فأنها تتميز بسمات وملامح في هياكلها السياسية والاقتصادية، كما في توجهاتها على الصعيد العالمي ومن تلك:

أ / باعتبار أن عملية تمركز رأس المال المالي ماضية لتكون في يد فئة قليلة من كبار الرأسماليين(مصارف، مؤسسات تمويل واستثمار) فقد تقلص بطبيعة الحال ضم تلك الفئة باستمرار، ولكن مع تعاظم نفوذها الذي أنعكس بداهة على تأثيرها السياسي داخلياً وخارجياً. كما غدت القوة الأولى المهيمنة في بلدان المتروبولات، فهي ليست المغذية الأولى للصادرات إلى الخارج الاستهلاك الداخلي فحسب، بل وتعدى حدودها إلى احتكارها لصناعة السلاح وأنشطة الفضاء الخارجي، فغدت الدولة أداة الاحتكارات الأولى، ويندر أن يخلو ملف من ملفات الدولة الخارجية من أهداف هذه الاحتكارات على رأس جدول أعمالها، وتصب معظم فعاليات الدولة السياسية / العسكرية في طاحونة مصالح الاحتكارات.

ب/ بناء على ذلك تراجع دور الرئيس والمؤسسات في اتخاذ القرارات مقابل تعاظم دور المؤسسات المالية وما انبثق عنها من إدارات وهيئات تحت عناوين ومسميات شتى، بل أن الاحتكارات والبنوك، تدير معاهد دراسات وأبحاث سياسية وعلمية وغيرها. ويلاحظ أن القرارات تخضع لعملية طويلة نسبياً، ولكن في النهاية فهي تراعي بالمقام الأول مصالح الاحتكارات.

ج/ واستطرادا، فقد احتكرت الفئات العليا من ملوك الصناعات وبيوت المال السلطة، وجعلت العناصر الأخرى، عناصر مساعدة ثانوية الأهمية، وتلك صيغة فريدة في وصف الائتلاف الاجتماعي الحاكم. ومما يثير الدهشة أن هذه الأنظمة تسوق شعارات الديمقراطية في وقت تحتكر فيه السلطة بحدود ضيقة للغاية. ولكن باعتبار أن النظام الرأسمالي هو نظام قديم تاريخياً، والنظم الحالية أنما هي حصيلة تطور وخبرة قرون كثيرة، تطورت فيها أساليب وتقاليد العمل حتى بلغت هذا المستوى من ترويض العناصر المعادية لها، ووضع القوة البشرية في خدمتها، بما في ذلك نقابات عمال موالية لها.

د/ الإقحام المتزايد لمعطيات الثورة العلمية التكنيكية وشيوع استخدام العقول الإلكترونية والروبوتات في الصناعات الثقيلة والمايكرو أليكتروتكنيك في المعدات الدقيقة.

و/وباعتبار حقيقة مؤكدة هي أتساع حجم وأهمية الاقتصاد الدولي وتكاثف نشاطاته وفعالياته لدرجة يصعب فيها ملاحقة ومتابعة الأصول والجذور لرؤوس الأموال والشركات، فقد غدا الاقتصاد عنصر الضغط الأساسي الذي تمارسه الدول الرأسمالية المتقدمة، إلى جانب وسائل الضغط الأخرى ومنها العسكري، كما يلاحظ وفي أطار تصدير رأس المال ودور الديون وفوائدها وأقساطها في اقتصاديات الدول النامية، الأمر الذي رفع من قيمة ونفوذ بيوت المال في دول المركز من جهة كما زاد من تبعية الدول المدينة من جهة أخرى.

ز/ أبدت الإمبريالية الجديدة وأدواتها الثقافية( وهي كثيرة ومتنوعة، إعلامية وثقافية)العداء لكل ثقافة لا تستسلم لها بصفة تامة، بالاستفادة من الثورة التكنولوجية في دنيا المعلومات وشبكة الاتصالات الدولية والفضائيات، تقدمت الإمبريالية بمشروع ثقافي لا يكن الاحترام للثقافات والمنجزات الحضارية، والقيم الثقافية/ الدينية للشعوب الأخرى، ويسعى في حملات غزو وتأثير سلبي وأضعاف وتهميش لتلك المنجزات بهدف أضعاف شخصيتها الوطنية والقومية وجعلها خيوطاً رفيعة في نسيجها الثقافي، وعدم الاكتفاء (كما فعل الاستعمار والإمبريالية) بجعل الشعوب توابعاً في خدمة اقتصادها العالمي، بل وتكريس تبعيتها نهائياً بإلغاء ملامحها وثوابتها الثقافية والوطنية والقومية، فقد أدركنا من تجربة الاستعمار والاستعمار الجديد (الإمبريالية)، وأن العناصر الثقافية والروحية والقومية لعبت دوراً مهماً في النضال ضد الاستعمار والإمبريالية، لذلك تحاول العولمة تحطيم تلك العناصر في شخصيتها لتزيل عقبة مهمة لتحقيق هيمنتها التامة.

تخلق هذه الأهداف التي تستهدف جبهة عريضة من شعوب العالم، بما في ذلك أمم صناعية متقدمة، ولم تعد الاشتراكية والنظم الاشتراكية فقط تستوجب العداء، بل أن المركز الرئيسي للاحتكارات(الولايات المتحدة) تجد في العولمة ما يستدعي عداء أمم أخرى كالصين وروسيا وشعوب عربية وإسلامية، بل وحتى أمم مثل فرنسا وألمانيا رغم أنها حليفة للولايات المتحدة التي لم تعد تقبل بأمم حليفة، بل العالم بأسره في معسكر واحد تقوده وتسخر جميع أمم العالم لمصالحها، طالما أنها تتمتع بالقوة العسكرية أولاً والاقتصادية لمثل هذا الدور. فقد تحول المتربول الأمريكي إلى حيوان خرافي يجوع كلما ألتهم أكثر.

فالعولمة ببرنامجها الاقتصادي ـ الثقافي ـ السياسي، تواجه شعوب وأمم العالم، معتمدة على القوة في أرغام تلك الشعوب بوسائل الترهيب والترغيب في غياب قطب ينافسها أو يحدث التوازن في القوى، وبسبب القوة بل التفاوت الشديد في ميزان القوة لصالح الإمبريالية الجديدة، فقد أحدث اضطرابا واضحاً ضمن المعسكر التحرري وسادت الفوضى عدم وضوح الرؤية واختلاط المفاهيم، بيد أن ذلك هو أمر مؤقت، وهناك المؤشرات الكثيرة التي تدل: أن معسكراً عريضاً من القوى والحركات في سبيله إلى النهوض مجدداً لمقارعة الإمبريالية الجديدة.

فبالإضافة إلى القوى العمالية والاشتراكية واليسارية وقوى الديمقراطية وأتحادات نقابات العمال تلك الغير مرتبطة بالأجهزة الرأسمالية، وحركات الفلاحين والكادحين والشغيلة، وأتحادات النساء والطلاب، وفئات تقدمية، من الخضر والمحافظين على البيئة وغيرها من القوى المعادية للإمبريالية القديمة والحديثة، فإن عناصر وفئات كثيرة تنظم اليوم إلى التحالف العريض منها: الموظفين والتكنوقراطيين وفئات كانت تعتبر ميسورة الحال ضمن الظروف الاقتصادية السابقة، دفعهم اشتداد التمركز إلى ما تحت خط الوسط في المجتمع.

ومن المتوقع أن ينظم إلى هذا التحالف العريض المعادي للإمبريالية الجديدة في مراحل لاحقة ومتقدمة من الصراع حتى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بل وحتى الفئات العليا مكن البورجوازية الأوربية دفاعاً عن مصالحها المهددة من قبل الولايات المتحدة، أولم تكن الحرب دائماً حرفة الرأسماليين المفضلة ؟

ويضيف كتاب ومنظري العولمة من أمثال هنتكتن وفوكوياما قوى كثيرة إلى معسكر التحرر عندما يضيفون ديانات وشعوب كاملة في معسكر خصوم الرأسمالية مثل الإسلام والبوذية والكونفوشية، حيث يبشران بقيام صراعات على أساس عرقي / ديني، فالعولمة ترحب بكافة أشكال الصراعات غير الجوهرية، أي تلك التي ليس لها طابع اجتماعي.

ومن الخصائص المبكرة في هذه الجبهة العريضة( وهي بصدد التشكل) المناهضة للإمبريالية الجديدة، أنها ليست قائمة على تناقضات اقتصادية/ طبقية، بل وأيضاً بسبب التناقضات العرقية/ الأثنية، والثقافية/ الدينية، بالإضافة إلى التناقض الأساسي، الاقتصادي / الطبقي. وعلى هذا النحو، فأن هذه الجبهة العريضة تجذب إليها قوى وعناصر كثيرة سواء داخل البلدان الصناعية أو خارجها. ففي الداخل، فأن طبقة الشغيلة الذي هو توسيع لمصطلح الطبقة العاملة، حيث تجد فئات الشغيلة نفسها في موقع النهب من قبل الاحتكارات العملاقة، وقد يدخل في عداد هذه الفئات حتى المهندسين والأطباء والتكنوقراطيين والبيروقراطية، وهناك اليوم عناصر وفئات وطبقات كانت إلى ما قبل عقود قليلة بعيدة عن مجرى النضال الاجتماعي في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة.

أما في البلدان النامية، فقد اجتذبت شراسة الأهداف الإمبريالية، قوى وفئات جديدة إلى النضال ضد الإمبريالية الجديدة(العولمة)، ومنها قوى التحرر الوطني. وقد أنظم تحت هذا الشعار قوى دينية متنورة أو كلاسيكية وقوى البورجوازية الوطنية، كما تحذر لدى العديد من الفئات الوطنية والقومية دواعي النضال ضد الإمبريالية في أطار الدفاع عن المصالح الوطنية والثوابت العامة.
وبصفة عامة، دارت في البلدان النامية عملية مختلفة عن تلك التي دارت في البلدان الرأسمالية، حيث اختفت فئات الكومبرادور، أو اختفت أهميتها الاقتصادية وبالتالي السياسية، إذ تقلصت، وتجاوزتها المرحلة التاريخية، كما أن ضعف البورجوازية الوطنية تدريجياً كلما تعمقت مصالح الشركات الاحتكارية الإمبريالية التي تواجدت بشكل مباشر في البلدان النامية، ووجدت القوى الاقتصادية الوطنية نفسها في قبضة الاحتكارات القوية وقدرة مؤسساتها المالية الكبيرة، من بنوك عملاقة ومؤسسات استثمار وتمويل، ألحقت أشد الأضرار بالاقتصاديات الوطنية وساهمت بربطها بتبعية مرهقة وخطرة، بما يمكنها من ألحاق الأضرار بها ببساطة كما حصل في مجموعة آسيان التي تعرضت إلى مضاربات مالية تهاوت معها اقتصاديات تلك البلدان، التي ترتبط بأقوى الروابط مع الشركات المتعددة الجنسية.

ومقابل تقلص الائتلاف الحاكم في بلدان المتروبولات نتيجة لشدة تمركز رأس المال المالي كما بينا، حدث توسع في جبهة النضال المعادي للاحتكارات، باعتبار أن ما تستهدفه (العولمة) في بلدان العالم النامي وغير النامي، أهداف كثيرة منها ما يتصل بثوابت الشعوب والأمم من لغة وركائز ثقافية منها التقاليد والعادات والطقوس الوطنية والاجتماعية وغيرها، فالعولمة تعني تدخل فظ في الاتجاهات الأساسية من حياة تلك الشعوب. فالرأسمالية الحديثة(العولمة) لا تهدف إلى نهب البلدان اقتصاديا فحسب، فالعمل الاقتصادي الحديث يتقدم تكنولوجياً بحيث أنه يتطلب إنسان راق، وهذا الإنسان بحاجة إلى شحنة ثقافية بقد ما يفيد عملية الإنتاج، وبذلك أصبح وفق حسابات العولمة من الضرورة فرض لغة ومزاج وبلورة ذوق في اللباس والطعام تهدف في النهاية إلى خلق شبح إنسان، أو ظل باهت في البلدان النامية أو حتى الصناعية، وضرورة أن تدور عمليات اجتماعية/ ثقافية تحت السيطرة، لا تقود إلى انفجارات في المستقبل. وهكذا فأن هذا الصنف الجديد من الاستعمار(الإمبريالية الجديدة) هي من أشد ما واجهتنه البشرية من شراسة وعدوانية، بحيث أنها تستهدف الإنسان ليس في قواه العضلية كما فعل الاستعمار وقوى الرأسمال السابقة فحسب، بل أنها تستهدف ثقافته ومكوناته الوطنية والقومية ومصادرة تامة لحقوقه المادية والمعنوية.

وعلى هذا الأساس أيضاً، أثارت (العولمة)الإمبريالية الجديدة عداء قوى ليست معادية للإمبريالية تحت عناوين وشعارات اجتماعية، بل ثقافية ووطنية بالدرجة الأولى. فقد كان الاستعمار يستثير ضده عداء عناصر واسعة من المجتمع، بما في ذلك عناصر من الإقطاع ورجال الدين، وبورجوازية وطنية، فأن الجبهة المعادية للإمبريالية الجديدة لا تقل جبهة العداء لها أتساعاً، لذلك فأن النضال المعادي لها الآن سوف يجد في صفوفه تيارات غير تلك التي ناضلت ضد الاستعمار والإمبريالية، منها قوى التحرر الوطني والديني والقومي، بالإضافة إلى الفئات الاجتماعية العريضة التي سترى في الإمبريالية الجديدة(وذلك مهم) خطراً على مرتكزاتها الثقافية وأصولها وجذورها الفكرية وما يشكله ذلك من مخاطر على الروابط الوطنية والقومية تؤدي في المدى البعيد إلى تفكيك الكيانات الوطنية وأضعاف روابطها.

يتطلب مواجهة العولمة في أولى مستلزماته وعي عال بأهداف الإمبريالية الجديدة وتشخيص دقيق لنقاط الضعف المتقابلة، والعمل بمرونة واستثمار الامكانات المتاحة لإعاقة فعالياتها أولاً، والتوجه صوبها بعزم وإلحاق الهزيمة بها أخيراً. وفي مقدمة تلك الفرص، التناقضات التي تنشب بين بلدان المتروبول. ومن الضرورة الفائقة فهم جوهر تلك التناقضات التي تنشب في البدء بسبب التمركز الشديد لقوى رأس المال في بلدان المركز(المتروبولات) بحيث تستحوذ بصفة حاسمة على السلطة السياسية وتغدو المراكز والواجهات عناوين لا أهمية لها، وقد بدأ ذلك فعلاً يتحقق في الولايات المتحدة، فمنذ رئاسة نيكسون التي كانت آخر رئاسة على مستوى من الكفاءة السياسية والشخصية(أقيل لاحقاً بفضيحة وترغيت)، شاع من بعده طابع الضعف والهزال على مستوى الرئاسة الأميركية وهناك أدلة ومعطيات مادية وسياسية وأخلاقية عديدة، تدل على ضعف مستوى الرؤساء لدرجة غريبة ومدهشه، بين منحرفين جنسياً ومرتشين ومدمنين، وضعف على المستوى التعليمي والثقافي. وربما أن النظام السياسي الرأسمالي الاحتكاري يتعمد إسناد الرئاسة إلى رؤساء ضعاف في المستوى الأخلاقي والسياسي قبل كل شيء لكي تسهل السيطرة عليهم وقيادتهم، وأشاعت الأفلام السينمائية الاميركية (وهي ليس مصادفة)فكرة سهولة انحراف الرئيس وارتكابه الموبقات، بل وحتى الجرائم لكي يضعوا في مخيلة وفكر المواطن الأمريكي أن الرئيس كأي فرد آخر يمكن أي يفعل أي شيء ويمكن حتى اغتياله من قبل الأجهزة أو أقالته أو تدبير وضعه تحت الرقابة فيغدو عنواناً ليس إلا، والقيادة الحقيقية للدولة فهي ومنذ زمن بعيد تحت السيطرة التامة للاحتكارات والمصارف، ويتصاعد حجم انحدار مستوى الرئاسة حيال الاحتكارات ومؤسساتها، المخابراتية والأمنية والسياسية والعلمية.

واستيلاء مؤسسات الرأسمال المالي الاحتكاري على السلطة لم يكن بهدف نيل بهرجة السلطة، بل هم يأتون على الأغلب بشخص غير مهم ويمولون حملته من أجل الفوز(تكلف حملات التمويل بضعة مئات ملايين من الدولارات)، وتنحصر المنافسة(وهكذا الأمر منذ تأسيس الولايات المتحدة) بين شخصين، كلاهما هو خادم للاحتكارات بدرجة متساوية تماماً. وهدف الاحتكارات من استيلاء التام على السلطة، هو استغلال قدرات الدولة السياسية والعسكرية، بشكل أساسي من أجل إحراز المزيد من المكتسبات وفي ذلك بالضبط اشتدت ظاهرة تدويل الاقتصاد العالمي، واشتدت كثافة الفعاليات الدولية في مجال الاقتصاد، وهذا ما تتميز به المرحلة الحالية، اشتداد ظاهرة الدولنة(التدويل)والتنافس بين بلدان المتروبول على كسب بلداناً وجعلها على محيطها الاقتصادي(الاقتصاديات الوسيطة)ويدور مثل هذا الصراع في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وعندما لا تبقى أماكن شاغرة(بلداناً ومجتمعات) يبادر كل طرف (حسب قدرته وقواه) إلى الاستيلاء على ما بحوزة الأطراف الأخرى.

تقليدياً، كانت أميركا اللاتينية ملعباً محتكراً للولايات المتحدة وفعالياتها، إلا أن المتروبولات الأوربية واليابان بدأت بالتسلل ثم باقتحام هذا الوسط وكذلك هجومها على أسواق جنوب شرق آسيا التي كانت مكرسة تقريباً للاحتكارات الأمريكية واليابانية، وليس بعيداً عن هذا المعنى ما يدور من صراع علني وخفي لإحراز المكتسبات وبصفة خاصة على نفط الشرق الأوسط الضروري في أي صراع بين المراكز الرأسمالية، وهو يفسر إلى حد ما تقوم به الولايات المتحدة في الشرق الأوسط البلاد العربية والإسلامية تحديداً.

الجزء الثاني
الإمبريالية الجديدة (العولمة) تهدف إذن إلى الأهداف التالية بصفة عامة:
* عولمة الاقتصاد: إيجاد عالم بدون حدود اقتصادية وجعله عالماً واحداً فقط، وذلك يعني حرية الطرف الأقوى: الاحتكارات.
* الثورة العلمية التكنيكية: اندماج للعلم مع التكنولوجيا بوتائر متسارعة.
* استنفاذ الدولة لدورها التنموي وسقوطها التام فريسة بيد الاحتكارات وبيوت المال.
* مبدأ كفاءة وحرية السوق، فكرة تتبنى الحرية كمفتاح رئيسي للايدولوجيا البورجوازية(حرية مطلقة للعمل الرأسمالي) بوصفه محركاً لعالم شامل مزدهر ومحفز للثورة العلمية( حرية السوق، خلوه من العوائق الافتراضية للدولة كقوانين الحماية).
* أطلاق موجة ثقافية على كافة الأصعدة السياسية/ التاريخية/ الفنية / الموسيقية..الخ تؤدي في النهاية إلى خلق ثقافة سطحية لا تغوص إلى مشكلات الإنسان الحقيقية والعميقة.(6)

إذن ووفق مؤشرات عديدة أن الإمبريالية الجديدة، هي ذات الإمبريالية القديمة(الاستعمار القديم) ولكن مع إضافات غير جوهرية أملتها التطورات السياسية(الانفراد بقيادة العالم) اقتصادية دولية(دولنة الاقتصاد ـ مكانة الاقتصاد الأمريكي) وعسكرية(امتلاكها لحجم هائل من أسلحة الدمار الشامل وتكنولوجيا التدمير).

والظواهر الجديدة في جانبها الرئيسي تمثل بالسعي لاحتكار مطلق لقيادة الاقتصاد الدولي والعالم الرأسمالي، واشتداد التمركز والاحتكار داخل الاقتصاد الأمريكي بشكل غير مسبوق. وبهذا المعنى احتكار داخلي واحتكار خارجي.

ولا شك أن ما يدور الآن على السطح من خلافات، هي مرشحة للتفاقم وليس للتضاؤل أو الاضمحلال بسبب اشتداد النهم في السعي نحو المكاسب والأرباح، بل إلى عنصر سيشتد نهم الرأسمالية الصناعية نحوه، المواد الخام، والطاقة على وجه الخصوص.

ومن الأهمية بمكان أدراك كنهة هذه التناقضات، ودرجة احتدامها وأعداد استراتيجيات وتكتيكات نضال تناسب التعامل مع هذه التناقضات وسائر الظواهر الأخرى التي تكتنف عملية بلورة موقف مضاد للإمبريالية الجديدة وبما يصب في مجرى العمل التنفيذ هو أمر بالغ الضرورة.

ومع أن هذه العملية لا تخلو بدورها من التعقيدات بسبب تشابك المصالح وكثافتها وتعدد القوى وأتساع جبهة النضال، والقوة المالية والسياسية والعسكرية التي تتمتع بها العولمة، تجعل من أعداد خطط نضالية تفصيلية أمراً لا يخلو من التعقيد، ويدل على ذلك أن تلك الفعاليات ابتدأت في صفوف الحركات العمالية واليسارية عموماً والحركات المعادية للعولمة في بلدان العالم الرأسمالي المتطورة منها أولاً، دلالة على تعقد تلك القضية ثم انتشارها(موجة النضال ضد الإمبريالية الجديدة) في بلدان كثيرة نامية أو متقدمة. ومن أبرز الظواهر الواضحة على ساحة النضال هي :

أولاً:التنافس بين الأقطاب الصناعية:
ـ في مجال الثقافة: ومن المدهش أن التنافس بين الأقطاب الصناعية، اندلع بادئ ذي بدء في المجال الثقافي. ومنذ أواسط الثمانينات، دقت أوساط ثقافية وأكاديمية ناقوس الخطر في البلدان الرأسمالية المتقدمة(فرنسا ـ ألمانيا) بتسلل ينذر بالمخاطر الجسيمة لأنماط ثقافية ( طعام ـ لباس ـ مصطلحات لغوية ـ رقوق سينمائية وتلفازية).

ـ أدرك بعض علماء البوجوازية الذين يسخرون مقدرتهم العلمية لخدمة الإمبريالية الجديدة، أدركوا أن ظواهر التداعي والانهيار التي تجتاح العالم الرأسمالي كالنار في الهشيم، إنما هي مخاطر واقعية وخطيرة(المخدرات ـ الإباحية ـ الأمراض الجنسيةـ هزالة في شخصية الأفراد)، لابد من تعميمها على مستوى العالم، لذلك أصيب الكثيرون بالدهشة عندما حضر ممثلي سفارات أميركا وبريطانيا كمحامين في محاكمة مثليي الجنس في القاهرة بمصر، ومطالبتهم تخفيض الأحكام.

وكانت نيويورك وعواصم أوربية أخرى قد شهدت مظاهرات حاشدة ومطالبات بإعلان شرعية العلاقات الشاذة وجعلها قانونية وإشهار الزواج بين عناصر الجنس الواحد، وكل ما يترتب على ذلك من مواقف قانونية من أرث واستلام التقاعد والعيش بعنوان رسمي مشترك، وما إلى ذلك من ملاحق كثيرة( وقد فعل ذلك أحد الوزراء في دولة رأسمالية) مع إدراكهم التام للمخاطر الصحية والاجتماعية والنفسية لشيوع هذه العلاقات ومخاطر أتساعها، ولكنهم لم يفعلوا ذلك إيماناً بحرية الفرد بل بهدف إغراقه بمشاكل تافهة تؤدي إلى خواء الإنسان وفراغه بما يؤدي إلى المزيد من السيطرة على قواه العضلية والفكرية.

ـ شيوع مرض الإيدز الفتاك الناجم أساساً من العلاقات الجنسية الشاذة، ومن انتشار حقن المخدرات. وقد انتقلت العدوى لأسباب كثيرة بعضها كان متعمداً عبر نقل الدم إلى بلدان نامية يقل فيها هذا النمط من العلاقات الشاذة بحكم التقاليد الدينية والاجتماعية كما يلاحظ انتشاره بصفة خاصة في بلدان أفريقيا بسبب أن جذر مرض الإيدز يكمن لدى صنف من القرود جرى التعامل معه بصورة خاطئة أدى إلى انتشاره.

وتمنع الدول الرأسمالية المصنعة للأدوية الشافية من هذا المرض من تصنيعه وتسويقه في أفريقيا بأسعار رخيصة، بهدف جني المزيد من الأرباح باحتكارها صناعة الدواء. وطالبت الدول الرأسمالية معاقبة البرازيل ودول أخرى قامت ببيعه بأسعار رخيصة.

ـ أطلاق موجة من الأفلام السينمائية والموسيقى المثيرة التافهة التي لا تتضمن أي أفكار جوهرية وثقافية عميقة، بل تعتمد على استخدام تكنولوجيات عالية وباستثمارات مالية مرتفعة(تدر عوائد عالية جداً ) وبذلك احتكرت صناعة السينما التي تعتمد على الأفلام الخيالية الخرافية أو أفلام الجريمة والجنس والإباحية والإثراء السريع غير المشروع، سرقة / رشوة/ اختلاس / تهريب.

ـ الاستيلاء على أجهزة الأعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ونمط من الأعلام لا يهدف إلى تثقيف المواطن المتلقي، أو زيادة معلوماته بل وخلف شعارات المؤسسة الرأسمالية. وفي أطار فهمها هي: متلق لا يتلقى الحقيقة الموضوعية، بل المبررات والحجج الرأسمالية، متلق ساذج يتقبل بسهولة لخلو فكره من عناصر حماية، وكل ما يدس في رأسه لأنه يفتقر إلى الفكرة المقابلة، بل أن شعارات الديمقراطية (ومن كان يصدق ذلك ؟)تضغط لتقليص نشاط قناة الجزيرة الفضائية، وفرنسا التي تحاكم صحفيين فرنسيين كتبوا لصالح القضية الفلسطينية، ومحاكمة روجيه غارودي للأسباب ذاته، رغم ادعاءات الرأسمالية بحرية الفكر.

وكانت قد سرت منذ الثمانينات(بصفة مركزة) موجة كتابات موغلة في الرجعية والشوفينية، وما لبثت هذه الكتابات والأفكار أن بلورها كاتبان أمريكيان: صامؤيل هنتكتن، وفرانسيس فوكوياما، وما يستحق الإشارة إليه هنا هو أن الكاتبان لم يكونا بعيدان عن مصادر صناعة القرار السياسي الأمريكي.

والقوام النظري لهذه الأفكار هو موجه بصفة رئيسية ضد الثقافات والديانات الشرقية(وهي تلقى اهتماما خاصاً في الولايات المتحدة الأمريكية)، تلك التي ما زالت تحض على الثراء الروحي وعدم الإيغال في عالم الماديات، وجعل المكتسب المادي هدف الإنسان الأول بصرف النظر عن أسلوب الكسب. (ويتناغم هذا الاتجاه مع فلسفة الرأسمالية البراغماتية) وهو ما يتعارض مع الثقافة البورجوازية وتيارات وتوجهات العولمة(الإمبريالية الجديدة)، فلا بد من تحطيم وتهشيم كل مكونات الإنسان عدا قواه العضلية أساساً، وتخصص ضيق ودقيق في مجال التكنولوجيا وعمليات الإنتاج الصناعي والزراعي، وحسب تقدير هذه الأوساط أن (حشو) فكر الإنسان بقضايا إنسانية وسياسات اجتماعية، قد تؤدي إلى مخاطر تدفع الإنسان إلى التفكير في الاستحقاقات والغبن الاجتماعي والاقتصادي. وهدف الثقافة الرأسمالية الحالية هو أن يقضي الإنسان وقت فراغه في تسلية مثيرة، سواء تمثلت تلك الإثارة بالقتل والمخاطرة والجنس وحشد قدرات الإنسان وجعله أعتدائياً وزرع فكرة الإنسان المتفوق، Super Mann وبنظرية النخبة، وخلاصة هذا الفكر النخبوي الأعتدائي، تتوجه ماكنة الدعاية بأن الإسلام والبوذية والكونفوشية هي العدو الأول في هذه المرحلة لأنها تنطوي في جوهرها على تناقض مع فكر العولمة الذي يهدف إلى جعل البشرية ضمن نسيجها الثقافي، وصرفاَ عن القضايا ذات الطابع الجوهري، وجعل هذه الأصناف البشرية أقل من مستوى الإنسان في المجتمعات الصناعية، ويحق لنا أن نلاحظ، أن هذه الأفكار لا تختلف في جوهرها عن الأفكار الفاشية العنصرية.

ثانياً : قضايا البيئة :
مثلت قضايا البيئة منذ عقدين من الزمن، قضية مهمة للإنسانية بأسرها. وعندما انطلقت فكرة البيئة والحفاظ عليها منذ أواسط السبعينات، في ألمانيا أولاً، كانت النقطة الأساسية فيها، مضادة لفكرة التوسع التي تقوم بها الرأسمالية الاحتكارية وعدم اكتراثها بالنتائج الكارثية لهذا التوسع، في استنزاف المواد الخام في الطبيعة والإخلال الخطير بوازناتها، والتلوث المتزايد للطبيعة على حساب البيئة ومكوناتها وعلى صحة الإنسان وسعادته، نتيجة الأمطار الحامضية التي تؤثر سلباً في المتوج الزراعي مما يتسبب في ازدياد ملحوظ في أمراض السرطان وغيرها.

كما أكدت دراسات أخرى مماثلة أن الإقحام المتزايد للتكنولوجيا في الصناعة والزراعة، أمر دفع أعداد هائلة من البشر إلى البطالة(بنسب عالية) وما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية سلبية قبل أثاره الاقتصادية، منها الإدمان على المخدرات والكحول وتزايد نسب الانتحار والطلاق والتفكك الأسري والعائلي، وقلة الإنجاب، وكلها أثار للبطالة المتصاعدة.

إلا أن الأوساط الرأسمالية رمت تلك الآراء بتهم مختلفة، تارة بالراديكالية، وتارة بالثورية(وهي لفظة عار في القاموس الإمبريالي) أو الاشتراكية، وأخيراً بتهمة الإرهاب، وهي ذروة الاتهامات الإمبريالية. بيد أن ذلك لم يمنع التوسع في المعسكر المعادي للعولمة ، وفي البلدان الرأسمالية المتطورة أولاً .

ولكن تمادي الصناعة الملوثة للبيئة بشكل خطير في الدول الصناعية المتقدمة، خلقن نتائج مدمرة ملموسة، لم تكتفي بتهديد مجتمعاتها، بل غدت تهدد مجتمعات العالم بأسره، تمثلت بالمخلفات النووية والغازية والحامضية والكيماوية، ومن تجارب الأسلحة النووية واستخدام الأعتدة المخضبة باليورانيوم المنضب، أدى إلى تلوث خطير على البيئة العالمية من خلال الأضرار بالغلاف الجوي المحيط بالأرض والذي يحمي الحياة على الكوكب الأرضي، فانبعاث الغازات الضارة بالغلاف الجوي أدى إلى حدوث ثغرات في غلاف الأوزون، وبالتالي نشوء ما يسمى بظاهرة الاحتباس الحراري الذي قاد إلى تصاعد تدريجي مطرد(ولو ببطء) في درجة حرارة الأرض وانبعاث غازات ساخنة، الأمر الذي خلق تأثيرات سلبية واسعة النطاق على حياة البشر: بيئة زراعية وصحية(تصاعد الإصابة بالسرطان لاسيما سرطان الدم والجلد) وتحولات في الطقس مثل ارتفاع معدلات درجات الحرارة ولو بنسب بسيطة، أدت إلى ذوبان الجبال الجليدية في القطب الشمالي والجنوبي، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع منسوب سطح البحار والمحيطات. وإذا علمنا أن بضعة سنتمترات فقط يمكن أن تؤدي إلى أخنفاء جزر ودول وأراض شاسعة من دول أخرى، بالإضافة إلى آثار أخرى لقضايا الأضرار بالبيئة تتمثل بحدوث أضطرابات في الطبيعة متمثلة: بالعواصف والأعاصير برية وبحرية، وفيضانات تؤدي إلى أفدح الخسائر في الاقتصاد والبشر.

وقاد نهم وجشع الاحتكارات إلى أخنفاء غابات كثيرة كانت تمثل رئة العالم وتساهم في عملية التوازن البيئي، واختفاء أعداد واسعة من الحيوانات في الغابات والبراري، أما بسبب أخنفاء الوسط البيئي لها أو باصطيادها في البر والبحر، لأسباب اقتصادية، ولا يجدي نفعاً نداءان علماء الطبيعة والبيئة، والدول الصناعية المتقدمة هي طليعة من يمارس تلك الفعاليات في البحار والمحيطات وفي البلدان النامية.

وعندما شعرت الدول عبر الجمعيات الدولية بالكارثة المحدقة بالعالم، تنادت في مؤتمرات عديدة إلى الانتباه إلى هذه الظاهرة قبل استفحالها، وكانت ذروة تلك الفعاليات في مؤتمر كيوتو باليابان عام 1997 للحفاظ على البيئة. وإذا علمنا بأن الولايات المتحدة تتسبب لوحدها بالإساءة إلى البيئة بنسبة 25%، ندرك مطالبة الدول والأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية بتقليص هذه النسبة والامتثال لقرارات المؤتمرات، بتقليص متقابل ومتكافئ مع الدول الصناعية الأخرى. فكانت هذه المطالبة سبباً في نشوب خلاف لامتناع الولايات المتحدة من الامتثال بادعائها أن ذلك سيؤدي للأضرار بإنتاجها القومي. وأخيراً وبعد خلاف طويل وجدال وافقت الولايات المتحدة على تخفيض قدره 7% عام 2001 وهو أقل من النسبة المطلوبة منها. مع العلم أن الدول الصناعية لا تلتزم بما تتعهد به على الورق إلا عندما يفيدها الالتزام، فاليابان مثلاً التي تدعو في كيوتو إلى الحفاظ على البيئة، تعمل بلا هوادة على إبادة الحيتان في البحار للاستفادة منها صناعياً واقتصاديا ولم تجد كل النداءات الدولية فتيلاً في منعها أو الإقلال من نسب صيدها وقتلها.

ثالثاً : اتفاقيات التجارة الحرة :
كانت الدول الرأسمالية منذ أن اتفقت بعد الحرب العالمية الثانية على أقامة منظمة التجارة الحرة GAAT عام 1947، وكانت هذه الاتفاقية تخدم بالدرجة الأولى الولايات المتحدة الأمريكية، فهي الدولة الرأسمالية الوحيدة (تقريباً) كانت في وضع تجاري ممتاز، يعزز ذلك اعتبار عملتها (الدولار) مقياساً للتبادل التجاري على الصعيد العالمي وفق مقررات مؤتمر برتون وودز(صيف عام1944 (حيث أنعقد بحضور ممثلي 44 دولة في الولايات المتحدة وكانت تحت ظروف:

• ضعف دول أوربا وتفوق الولايات المتحدة.
• استمرار هيمنة الدول الاستعمارية على الكثير من المستعمرات والبلاد التابعة لها مع وجود غليان شديد في حركات التحرر.
• بروز قوة الاتحاد السوفيتي وزيادة عدد الدول الاشتراكية، وكان ذلك له تأثيراته الواضحة على صياغة أسس النظام النقدي الدولي الجديد. (7)

ولكن ما أن بدأت رياح التغيرات تهب على الاقتصاد العالمي بسبب عوامل كثيرة أهمها اقتحام عدد كبير من الدول ميدان التجارة الدولية، واستعادة دول أخرى مكانتها في التجارة الدولية، بعد أعادة البناء التي شهدتها، وتحول بعضها إلى منافس خطير للولايات المتحدة، مثل اليابان وألمانيا ودول أخرى.

ومنذ السبعينات، بدأت الولايات المتحدة تتملص من التزاماتها المالية النقدية التي أقرها مؤتمر برتون وودز عندما وجدت أن ذلك قد ابتدأ يضر بمخزونها الاحتياطي الذهبي ومن العملات الصعبة، وشرعت بتقديم تفسيرات وتأويلات خاطئة وأحادية الجانب لبنود اتفاقية التجارة الحرة التي وضعت هي بنودها أساساً، واتخذت من بند إغراق السوق ذريعة لوضع العراقيل أمام سلع وبضائع البلدان الأخرى المتوجهة نحو أسواقها، وأخذت تدعو إلى مؤتمرات واتفاقيات جديدة تضمن لها استمرار هيمنة مصالحها، يرافق ذلك تسليط ضغوط سياسية واقتصادية وعسكرية، على الرغم من ذلك لم تلتزم بتلك الاتفاقيات، بل تنفذ ما يحلو لها مما يتفق مع مصالحها في كل صفقة أو سلعة. ونشهد نشوب نزاعات وأزمات بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين من الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة مثل أزماتها مع اليابان بصدد التجارة، وأزمة الموز مع الاتحاد الأوربي، وأزمة الحديد والفولاذ مع الأوربيين وغيرهم. وأن هذه الأزمات مرشحة للتكرار والاشتداد والتصاعد، وأن الصراع على المكتسبات يقود في أحدى مراحله إلى ذروة معقدة.

رابعاً : التحالف العريض في الدول الصناعية :
عرضنا، أن الرأسمالية طرحت في ذروة تطورها، وفي بلوغها مرحلة الإمبريالية الجديدة التي عرضنا أن أولى علاماتها كانت التمركز الشديد، وذلك يعني بداهة أن القسم الأعظم من الناتج القومي والثروة الوطنية تتركز لدى فئة ضيقة، وضيقة جداً من أصحاب الاحتكارات العملاقة والمصارف وتزداد هذه الفئة ضيقاً كلما مضت عملية التمركز قدماً. وبذلك فأن فئات كثيرة كانت حتى الأمس القريب تعد من الفئات المرفهة وذات حظوة وأمتيازات في البلدان الرأسمالية المتقدمة ولا سيما في الولايات المتحدة حيث تدور عمليات التمركز بقوة وشدة.

ويجدر هنا الذكر أن البلدان الرأسمالية المتقدمة والولايات المتحدة بصفة خاصة أن حزام الفقر قد تعدى وتجاوز فئات كثيرة، بل أن الكثير منها غدا عاجزاً عن دفع التأمينات الطبية أو دفع أجور الدراسة لاسيما الجامعية، فلا غرابة إذن أن يلاحظ أعداد هائلة من فئات التكنوقراط بصفة خاصة( أطباء، مهندسين، أساتذة جامعات، طلبة، فنانين)تنظم إلى الفئات الكادحة والشغيلة في الولايات المتحدة.

ومن هنا نتبين سعة الجبهة المعادية للنظام الرأسمالي الاحتكاري، تساهم وبقوة في نضال متصاعد وتقاوم بأس الأجهزة القمعية وفئات متزايدة تنظم إلى هذه الجبهة وتمارس فعاليات نضالية. (لاحظ تسلسل الجدول التالي كمثال) في البلدان الرأسمالية المتقدمة ضد الإمبريالية الجديدة أو ما تسمى بالعولمة، ويلاحظ اشتداد التناقضات، وأتساع جبهة النضال ضد (العولمة) والتسارع المدهش في هذه العملية التاريخية: ـ

ولابد هنا أن نطرح تساؤلاً مشروعاً: ما هي الشروط التي تنطبق كوصف على أي بلد نام ؟

وبتقديرنا، فأن أمم ودول كثيرة سوف تدخل تحت هذا العنوان بسبب اشتداد التمركز واختصاص بلدان قليلة في العالم الرأسمالي بمواصفات علمية/ تكنيكية، وتمتعها بقدرات عالية جداً تمكنها من دخول فعاليات اقتصادية عملاقة. فقد بلغت على سبيل المثال أجمالي مبيعات عشر شركات متعددة الجنسية تساوي الإنتاج القومي للقارة الإفريقية بأسرها. وأجمالي مبيعات شركة جنرال موتورز الأمريكية بلغ عام 1986 حوالي 97 ألف مليون دولار، وهو يساوي ثلاثة أضعاف واردات السعودية من النفط، وتسيطر 50 شركة على هذه الشركات الاحتكارية الدولية على نحو ثلثي مجموع الأصول الثابتة في العالم. وتظهر إحصائيات 1986أن مبيعات 500 شركة أمريكية الأصل(متعددة الجنسية) قد بلغ 1,8 ترليون دولار وبلغت أرباحها للسنة نفسها70 ألف مليون دولار.(8)

وسوف يشهد المستقبل احتكار المؤسسات الصناعية العملاقة مجالات عمل معينة تستلزم استثمارات عالية جداً وقدرات علمية كبيرة مثل أبحاث وفعاليات الفضاء، ويتعدى الأمر هنا اكتشاف الأجرام إلى خدمات الأقمار الصناعية في مجالات الاتصالات والاكتشافات الجيولوجية للمعادن على سطح الأرض ومصادر المياه والثروات الطبيعية والطقس أو دراسات الهندسة الوراثية وتطبيقاتها أو دراسات الليزر والذرة، ولا تخفي المراكز الرأسمالية المتطورة ميلها إلى احتكار المعرفة وامتلاكها واستخدامها.

كما أننا سنلاحظ من خلال استعراض التحركات التي حصلت في ساحات البلدان النامية أو بالأحرى البلدان غير المتقدمة صناعياً أن جبهة النضال ضد الإمبريالية الجديدة تضم مئات الأحزاب والحركات، سياسية، حركات مسلحة، حركات دينية، أحزاب طبقية. وأن حركة النضال هذه تستقطب دوماً قوى جديدة، وتتصاعد درجة الوعي وتتصاعد حدة المواجهات وتلك هي أبرزها : ـ

• دربان / جنوب أفريقيا: أيلول ـ2001: مؤتمر مناهض للعنصرية تمحورت النزاعات السياسية فيه حول قضيتين رئيسيتين ستكونان اتجاهات أساسية في النضال المعادي للإمبريالية الجديدة:
• اعتبار الصهيونية شكل من أشكال العنصرية: وقد أيدت كافة وفود العالم هذه الفقرة باستثناء الولايات المتحدة وبلدان رأسمالية أخرى مروجة للعولمة.
• إدانة أعمال الرق وخطف واسترقاق العبيد من أفريقيا أبان القرون الاستعمارية 20 / 19 / 18 وقد رفضتها الدول الإمبريالية خشية أن يترسخ ذلك كمفهوم قانوني يقود إلى الإدانة والتعويض وربما ملاحقات أخرى.
• الهجوم على أفغانستان:. 2001 / 10 / 7 الهجوم الأمريكي البريطاني على أفغانستان.
• مراكش / المغرب: 2001 . 10 . 29 مؤتمر دولي حول الاحتباس الحراري يخفق في نتائجه بسبب عدم تعاون الولايات المتحدة.
• مانيلا / الفلبين: مطلع كانون الثاني ـ 2002: تظاهرات احتجاج واسعة ضد الوجود العسكري الأمريكي في الفلبين لأول مرة يلتقي إسلاميون وشيوعيون ضد الإمبريالية الجديدة.
• بوينس آيرس / الأرجنتين: كانون الثاني ـ 2002: انتفاضة مسلحة ضد السلطة الموالية للاحتكارات والبورجوازية المحلية وضد الفقر تؤدي إلى انهيار النظام الشبه رأسمالي تسفر عن عشرات القتلى وفرار رئيس الجمهورية، استمرار تداعيات الموقف لعدة شهور.
• أفغانستان: اعتباراً من شباط 2002/ يدور قتال ومقاومة منظمة، تحالفات جديدة في أفغانستان قائمة على أساس رفض الاحتلال الأجنبي وتنصيب حكومة موالية للعولمة، التحالف يضم قوى عريضة كان بعضها معاد للحكومة الإسلامية السابقة.

تدل أحداث كهذه بالإضافة إلى حصار وعدوان على العراق يستمر لمدة 12 عاماً، يعقبه هجوم شامل واحتلال مباشر وإدارة استعمارية، وحصار يدوم 8 سنوات على ليبيا، يسفر عن رضوخها للابتزاز الأمريكي.

وتستهدف الولايات المتحدة بوصفها قائدة للمعسكر الإمبريالي الجديد وقطبه العدواني الشرس في توجهاتها عدد واسع من الأهداف على أسس مختلفة :

• على أسس أثينية / دينية، الإسلام والكونفوشية بدرجة رئيسية.
• لا يخفي (مفكروا) وعلماء الإمبريالية الجديدة عدائهم للكونفوشية والبوذية والإسلام بوصفها تيارات ثقافية تضم اتجاهات أخلاقية وتقاليد تناهض تقاليد العولمة وثقافتها المتفسخة.
• البلدان الإفريقية بوصفها هدف دائم للنهب الاستعماري والاستثمار، وتكاد تكون مكشوفة تماماً مساعي الولايات المتحدة في إشاعة الحروب الأهلية وتشجيعها، وشراء ذمم شخصيات سياسية ومحاولات أحداث انشقاقات وتمرد والتحريض على المذابح والمجازر.
• البلدان العربية بوصفها تمثل قدرة حضارية وثقافية واقتصادية مهمة، واعدة في المستقبل، لاسيما البلدان المناهضة لقاعدة الإمبريالية الجديدة في الشرق الأوسط، الكيان الصهيوني.
• البلدان الاشتراكية أو الساعية إلى أحياء تجربة اشتراكية جديدة.
• البلدان الساعية إلى تأكيد كياناتها السياسية والثقافية الرافضة للاندغام في نسيج العولمة(الإمبريالية الجديدة) ومنها بلدان كثيرة في أميركا اللاتينية، أبرزها، فنزويلا والبرازيل، وفي أوربا مثل: روسيا، وفي آسيا: الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها..

إذن فأهداف الإمبريالية الجديدة كثيرة ومتنوعة تشمل كافة اتجاهات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكذلك هو المعسكر الذي يواجهه عريض وواسع، ولكن تشتت الإرادة، والآراء والقدرات ووعي القيادات يشوب صفوف هذه الجبهة ولكن ضراوة المعركة ونهم الإمبريالية سوف يسهم في تسارع عملية تبلور تشكل المعسكر المناهض للإمبريالية. وبقدر ما يسود التنسيق بين جبهاتها وتغليب التناقض الرئيسي أمام الخصم على التناقضات الثانوية في التفاصيل من أجل مواجهة هذا الخطر العاتي الذي لا يستهدف اقتصادياتها الوطنية كالاستعمار القديم، بل كيانها بأسره بكل مكوناته من دين ولغة وثقافة وعادات وتقاليد، بل وحتى الأمل بالمستقبل.

ويشبه العمل السياسي في العصر الراهن السير في حقل ألغام خطر، فالميدان ملئ بالمفاجئات، وعلى القوى المناهضة للإمبريالية الجديدة (العولمة) أن تستوعب حقائق العصر وأن تعمل بسياسات مرنة عندما يتطلب الموقف منها ذلك ولكن أن لا تتردد عن المواقف الصلبة الصلدة إزاء حقوقها الثابتة واستيعاب حقائق التناقض بين الأقطاب الإمبريالية وتشكل التحالفات والائتلافات فيما بينها، ورسم الطرق المؤدية إلى سلامة أهدافها الوطنية والقومية في هذه الغابة الشائكة المتشابكة من المصالح المتناقضة.

عندما ابتدأ الاتحاد السوفيتي وقبله البلدان الاشتراكية في شرقي أوربا بالاضمحلال، وانتهت الأنظمة الاشتراكية في أعقاب تفكك حلف وارسو، ومنظومة التعاون الاقتصادي (الكوميكون)، نهضت حكومات ليبرالية في بلدان شرقي أوربا، فيما راح الاتحاد السوفيتي نفسه يتعرض لهزات داخلية، على أثر السياسة التي أطلقها أخر رئيس سوفيتي، ميخائيل غورباتشوف التي أطلق عليها البيروسترويكا Perestroika(الإصلاح)، والغلاسنوست Glasnost(المكاشفة)، هذه المسيرة من التفكك والتراجع، توجت بعقد قمة بين الرئيس السوفيتي والأمريكي جورج بوش عام 1991 على متن بارجة سوفيتية في مياه مالطة في البحر الأبيض المتوسط، وبتوقيع مرسوم فك اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية الذي وقعه غورباتشوف، لم يعد له من منصب، فغادر الكرملين إلى داره الشخصية لتنتهي بهذه الطريقة الدولة الاشتراكية العظمى الأولى في التاريخ.

أطلقت الأجهزة الدعائية الأمريكية التي أصبح تواجه العالم دون منافس، أو متحد، أطلقت مصطلح: النظام الدولي الجديد، وشرعت الأجهزة الأيديولوجية الأمريكية والغربية بصفة عامة، تضع سلة مؤشرات لماهية وفحوى النظام الجديد الذي لم تطرحه جهة دولية أو رسمية لدولة معينة، وكانت العلامات المادية في واقع مسرح السياسة الدولية تشير، أن الولايات المتحدة قد غدت القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأقوى في العالم، وأنها قادة على أحداث تغيرات سياسية بحكم سيطرتها على مجالات عمل المنظمة الدولية(الأمم المتحدة)، وتوجيه تهديد مباشر ذو مصداقية وقدرة عملية في أي بقعة في العالم مع الحصول غالباً على التفويض الدولي، وضمان عدم ممانعة جدية مؤثرة للقرارات التي تتخذها على كافة الأصعدة، وحيال أي قضية في العالم.

النظام الدولي الجديد، عبر عن روح انتصار الرأسمالية على الاشتراكية، وأن هذا النظام الجديد سيفرض الاتجاهات السياسية بصورة مباشرة على الملفات السياسية التي رقدت سنين طوال على رفوف الأجهزة الدولية: هيئات التحكيم الدولية، قرارات معطلة التنفيذ لمجلس الأمن، محكمة العدل الدولية، ولم يكن بروز اتجاهات الهيمنة على صعيد العلاقات الاقتصادية بأقل من ذلك، فبعد أن استهلكت منظمة التجارة الحرة الجات GAAT في أهدافها مرامي الولايات المتحدة، أبصرت النور الهيئة الجديدة المسماة " منظمة التجارة الدولية " WTO كما للولايات المتحدة والتحالف الغربي المتمثل سياسياً واقتصادياً اجتماعات دورية " الدول الثماني": الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، كندا، استراليا، وعسكرياً بحلف الناتو، وهو حلف شمال الأطلسي، ولكنه كما سنرى، يتدخل في كافة أرجاء العالم.

كان هذا فحوى النظام الدولي الجديد، وإن لم يعلن عن ولادته بصورة شرعية، ببيان أو إعلان ولادة، ولكن كان التداول يجري به كحقيقة واقعة. بيد أن مطلقي هذه التسميات، وهي جهات ليست صحفية أو إعلامية، بل هي مؤسسات تعمل بدقة وبأشراف أعلى المستويات في الولايات المتحدة ومن الجهات الضالعة في قنوات القرار السياسي الأمريكي إنضاجاً وصياغة وإخراجاً وتنفيذاً، كالدوائر السياسية في وزارة الخارجية الأمريكية، ومعاهد تلعب دوراً مؤثراً في صياغة القرار السياسي كمعهد بروكنز، ومعاهد الدراسات الاستراتيجية في جامعة جورج تاون، هارفارد ويال، وسواها.

بيد أن تلك الدوائر سرعان ما اكتشفت أن هناك ثغرة صغيرة في هذا المصطلح تتمثل في أنه يطرح تساؤلاً كبيراً، وهو: أن لكل نظام هيئات ورئيس يتزعم هذا النظام، ثم أن النظام يعني System وللنظام آليات وقوانين عمل داخلية، وأطراف لهذا النظام، فوجد منظروا السياسة الخارجية الأمريكية إن هذا المصطلح يغل بدرجة ما أيديهم عن العمل والتصرف، وقبل كل شيء عن التأؤيل والتفسير، فأستعيض عنه بمصطلح العولمة Golobalisation، وهو مصطلح أكثر مرونة ولا ينطوي على تحديدات معينة، بل على غموض ومطاطية تسمح باستخدامه في كل الحالات.

كان منظروا السياسة الخارجية الأمريكية قد صاغوا في الثمانينات طائفة من الأفكار والنظريات استعداداً لمرحلة التفرد بقيادة العالم، وكانت المؤشرات تدل على نحو ما أن الاتحاد السوفيتي آيل إلى الانهيار نتيجة عوامل داخلية وخارجية كثيرة، إذ أصبح إدامة الزخم في السجال الاستراتيجي بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية باهض التكاليف، بل مؤذ، إذ ألحق سباق التسلح وحده أشد الأضرار باقتصاديات البلدان الاشتراكية التي كانت تضطر لمجاراة الولايات المتحدة والغرب عموماً في التسلح وأبحاث الفضاء، تخصيص نسب كبيرة تلتهم القدرات الاقتصادية ومعدلات النمو، وفي ذلك يكتب غورباتشوف:" في مرحلة ما (وقد بدا ذلك واضحاً في النصف الثاني من السبعينات)حدث شيء يصعب تفسيره للوهلة الأولى، فقد بدت البلاد تفقد وتائر حركتها، وتنامت الأنقطاعات في عمل المؤسسات، وراحت الصعوبات تتراكم، وتحتدم واحدة أثر أخرى، فيما تكاثرت المشكلات الغير محلولة وبرزت في الحياة الاجتماعية ظواهر أطلق عليها اسم ظواهر الركود، فضلاً عن ظواهر أخرى غريبة عن الاشتراكية".(9)

وعلى الصعيد السياسي/ العسكري، فقد بدا واضحاً أن المضي في سياسة سباق التسلح قد أضحى انتحارا على كافة الصعد، فبالإضافة إلى التكاليف الاقتصادية التي تلتهم معدلات التنمية، فإن تكديس أسلحة الدمار الشامل وبمقاييس غير مسبوقة، من شأنها أن تعرض العالم للدمار الشامل عدة مرات، وفي ذلك يكتب غورباتشوف، أن السياسة حسب المفاهيم الماركسية هي فن الممكن، والتحليل المادي الملموس للواقع المادي الملموس، وخارج هذا الإطار إنما تكمن المغامرة والمجازفات، والمغامرة في عالم اليوم تحمل في طياتها خطر الإبادة الشاملة للبشرية، والبيروسترويكا تقف بوضوح أمام مبدأ أساسي وهو المنطلق في منهاجها السياسي" أن الحرب النووية لا يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأيديولوجية، أو أي أهداف أخرى، إن النزاع النووي ليس حرباً بالمفهوم التقليدي، بل أنه انتحار".(10)

ووفق أراء غورباتشوف في السياسة الدولية فإننا نقف أما ضرورة إحداث تغيير على مبادئ الحرب للمفكر الألماني كلاوس فون فيتز Karl von Klauswitzبأن " الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى" إنما هي نظرية قد عفا عليها الزمن، ذلك أن الحرب النووية ليس فيها رابحون وخاسرون، فهي إبادة للجميع، بل وحتى للمتفرجين.
وفيما أبدت القيادة السوفيتية هذه العقلانية حيال تصاعد التوتر ومخاطر التسلح والنزاعات العسكرية، مضت الولايات المتحدة بسياسة تكرس فيها تفوقها وتفردها، ودشنت عصر القطبية الأحادية بفرض الهيمنة السياسية والاقتصادية المطلقة، وترجمت هيمنها على المنظمة الدولية(الأمم المتحدة) ومجلس الأمن، إلى اعتبارها وسيلة في التعامل السياسي الدولي في استصدار قرارات لا تأخذ إلا قليلاً بمصالح الدول الأخرى، كما أن ما يسمى بالردود المرنة شغلت حيزاً بسيطاً في تنفيذ سياستها الخارجية، وأصبح اللجوء إلى القوة المسلحة الطابع الغالب على السياسة الأمريكية، سواء تم ذلك عبر استخدام المادة (7) من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة، أو حتى بدون موافقة الأمم المتحدة كما حدث في العدوان المسلح على جمهورية العراق أبريل/2003.

وفي ظل الأحادية القطبية دخل العالم عصر العولمة، الذي لا يتضمن تحديداً دقيقاً معترف به قانونياً، بل أكتسب سماته وصفاته من خلال:
• مؤتمر دول الثماني الصناعية الكبرى وقد أنظمت روسيا إليه فيما بعد.
• مؤتمر التجارة الدولية.
• تعاظم الصفة الدولية لحلف الناتو الذي أخذ يتدخل في بؤر توتر في مناطق شتى من العالم: أفغانستان 2001، الكونغو 2006.
• أتساع الدور السياسي لمجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة.

ويروج منظروا العولمة، أن العالم وبفعل التقدم الكبير في وسائل الاتصالات، الطائرات(بلغ عدد المسافرين بواسطة النقل الجوي في العالم 1،580 أي ما زيد على المليار والنصف عام 1999) (11) وشيوع استخدام أجهزة الحاسوب (الكومبيوتر)، واستخدام الأقمار الفضائية في مجال الاتصالات والنقل التلفازي، والنقل المباشر لأنشطة أسواق الأسهم والسندات المالية(البورصة) عبر العالم، الأمر الذي مكن انتقال رؤوس أموال ضخمة بلمسة زر بين المصارف، وعقد الصفقات التجارية خلال أوقات قياسية، الأمر الذي جعل من العالم حقاً أشبه بقرية كبيرة، وعملت الأنظمة الرأسمالية على إزالة أية قيود أمام انتقال رؤوس الأموال السائلة أو بواسطة الشركات العملاقة، والتهديد بالعزل على من يخالف شروط الانتقال الحر للأموال، وتحقيق الأرباح وتحويلها، وبذلك أصبح العالم بأسره عبارة عن مزرعة للاستثمارات، تتوارى الإمكانيات المالية البسيطة أمام المنافسة الضارية، وأصبحت شعوب البلدان النامية تمثل أيدي عاملة زهيدة الثمن للشركات العملاقة التي راحت تفرض شروطها في ظل من الهيمنة السياسية والاقتصادية المطلقة.

وكان مفكرون وأساتذة للعلوم السياسية في الولايات المتحدة: صموئيل هنتكتن، وفرانسيس فوكوياما، قد تمكنوا من خلق التأثيرات بأفكارهم عن حتمية صدام الحضارات وصراعها، بالإشارة إلى إمكانية تحقيق مجتمع عامل متقارب في المستوى الذهني والثقافي/الحضاري، وذلك من أجل تحقيق مستويات متقاربة اقتصادياً واجتماعيا، واستخدموا المعطيات العلمية والإحصائيات والطرق على جانب وحيد من القضايا وذلك بألأتجاه خلق توتر دائم قد يبدو مفيداً لشد المجتمعات الغربية، والإبقاء على وحدة مصالحها، بما يضمن المكانة القيادية للولايات المتحدة الأمريكية.(12)

وتعتقد الولايات المتحدة (كما يعبر عن ذلك مفكروها واستراتيجيوها) أن يمكن للقوة الأمريكية "العمل على الظهور التدريجي لمجتمع عالمي ذي مصلحة مشتركة"، وأن لا يوجد ند عالمي للولايات المتحدة الأمريكية، وأن لا غنى عن القوة والهيمنة الأمريكية للأمن العالمي.(13)

وبرغم ذلك، فإن العالم لم يصبح أكثر أمناً، ويشير تقرير سنوي حول النزاعات في العالم أن عام 2002 وحده شهد ثلاثة وعشرون نزاعاً مسلحاً راح ضحيته 125000 ألف إنسان، بالإضافة إلى 79 نزاعاً متوسطاً، تسبب في مقتل 100ـ 1000 لكل منها، و38 نزاعاً سياسياً عنيفاً أدى كل منها إلى مصرع 25 ـ100 شخصا، ولم تشخص إلا 35 دولة فقط في العالم تخلو من الصراعات السياسية العنيفة، أي أقل من ربع دول العالم.(14)

والقارئ لأطروحات وأفكار العولمة، يرى برنامجاً واسعاً يشمل العالم بأسره، بأصعدته السياسية والثقافية والاقتصادية، وأن منظري العولمة يضعون التفاصيل لما ينبغي عليه أي شعب ودولة في العالم فعله، وهذه البرامج ترافقت مع نهاية القطبية الثنائية أي قبل نهاية الألفية الثانية والقرن العشرين بما يقارب العقد، في مرحلة يطلق عليها الاستراتيجيون أو الدبلوماسيون على حد السواء، استثمار الفوز، تتضمن الاتجاهات الأساسية للعولمة، ولا يخفي هؤلاء المفكرون الخطط الأمريكية لقيادة العالم حسب تصورها ولمصلحتها، ولكن الوقائع والمعطيات الحالية تشير بعد ما يزيد على العقد من السنين، أن الخطط لم تأخذ بنظر الاعتبار للكثير من الخصائص، وأن ثقافات الشعوب وتقاليدها ليست معلبات يمكن تصديرها أو استيرادها، فهناك شعوب كرست تقاليدها منذ ألاف من السنين، بل وتخيلت الولايات المتحدة أن بالإمكان بوسائل الضغط أن تتخلى أمم عن لغاتها الوطنية، فاللغات الصينية واليابانية مثلاً، رغم تعقيدها الشديد قراءة وكتابة ونطقاً، إلا أن تلك الشعوب وغيرها لا يمكن أن تجد في محاولات الولايات المتحدة حلولاً معقولة، فمسألة الذهنيات والتقاليد القائمة هي عبارة عن توليفة من العناصر والمعطيات ليس من السهولة اختراقها، وتشير دراسة هي نتاج لدراسات مكثفة عن البيئة الاجتماعية قام بها خبراء تابعون للأمم المتحدة في البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وجدوا أن لتلك الشعوب تقاليد ثقافية في اللباس والطعام هي عبارة عن نسيج ذو مصادر متعددة، ومجموعة التصورات الخاطئة قادت إلى نتائج لا يمكن أن توصف بالنجاح بسبب تجاهلها التام المكونات العميقة للشعوب وتقاليدها الثقافية.

ولا ترغب الدوائر السياسية أو الأكاديمية الغربية على حد السواء، حتى تلك التي توصف بالحصافة والعلمية والاتزان، الاعتراف بأن ما تشهده البلدان النامية في واقع الحال ليست سوى مخلفات المرحلة الاستعمارية وآثارها السياسية والاقتصادية والثقافية، في وقت يبدو ذلك ظاهراً للعيان دون أي فرصة للالتباس، فعلى سبيل المثال يتمثل السبب الحقيقي لعدد كبير من الصراعات المسلحة إلى قضايا الحدود العالقة، إذ كانت الإمبراطوريات الاستعمارية تخطط الحدود بين الدول بناء على مصالحها الاقتصادية والسياسية / العسكرية، أو بناء على قدراتها العسكرية، وهكذا نشأت العديد من مشكلات الحدود التي تسببت في النزاعات المسلحة، كما أن السحق الثقافي والاجتماعي قطع مسيرة تقدم شعوب أخرى كثيرة، لذلك فقدت خصائصها الوطنية والقومية، وهي تكافح الآن من أجل استعادة لغاتها الوطنية وتقاليدها، والسيطرة على ثرواتها الطبيعية التي هيمنت عليها الدول الاستعمارية، وسط تناقضات لا حصر لها، جلها بسبب وميراث الحقب الاستعمارية.

والعولمة تعني إحباطاً لتلك الجهود والمحاولات، فالعولمة تبشر بعالم يفكر بطريقة متشابهة، ويستهلك سلعاً متشابهة، بل ويشاهد أفلام سينمائية متشابه، والأمر يهدف في نهاية المطاف إلى خلق ذهنية متقاربة، أما على الصعيد الاقتصادي فقد أدى التباعد الشاسع في مستوى التقدم الاقتصادي إلى فقدان البلدان النامية لمكانتها في الاقتصاد الدولي كبلدان مصدرة للمواد الخام، يوم كانت المواد الخام تمثل قيمة اقتصادية كبيرة في السوق العالمية، أما في الوقت الحاضر، فقد أدى الارتفاع الكبير في أسعار السلع والمنتجات الجاهزة من الدول الصناعية المتقدمة، وبتكنولوجيا متفوقة، إلى تراجع مكانة البلدان النامية في التجارة الدولية.
ولا يخفي قادة النظام الجديد، أهدافهم في الهيمنة والسيطرة، وتجد ذلك بوضوح في الأعمال التي قاموا بتأليفها، وهناك خطط لإعادة تقسيم العالم بين القوى حسب مقدرتها، وهي بطبيعة الحال من النتائج الطبيعية بعد كل حرب، والولايات المتحدة والغرب الرأسمالي يعتقد أنه ربح الحرب الباردة، وبذلك يحق له التصرف كمنتصر، إلا أن ثمة مشاكل جانبية، هي أيضاً من لزوميات كواليس مؤتمرات المنتصرين، كما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى في مؤتمر فرساي، وكما حدث في المؤتمرات التي صاحبت نهاية الحرب العالمية الثانية، يالطا، وبوتسدام، فأوربا تعتقد أن الولايات المتحدة تريد الاستئثار بغنائم الحرب، وتحرمها من أفضل مناطق النفوذ: الشرق الأوسط.

والشرق الأوسط ينطوي على فقرة بالغة الأهمية للدول الصناعية، وأهميتها قد تكون حاسمة في معركة التفوق، الصناعي / الاقتصادي، والعسكري، ولا نقصد بذلك سوى النفط والغاز.فقد قدرت أجهزة التخطيط والإحصاء أن الطلب على النفط سوف يتزايد بصفة متصاعدة، بينما يتقلص العرض منه بصورة دراماتيكية، يصاحب ذلك تقلص إنتاج أو شحة، وربما نضوب مكامن طاقة طبيعية مثل الفحم الحجري، فيما لا تمثل مصادر الطاقة الطبيعية من الرياح وأشعة الشمس ما يمكن الركون إليه، يقابل ذلك المخاوف المتزايدة من استخدام الطاقة النووية بسبب مخاطر وأمن المفاعل النووية ثم مشكلة التخلص من النفايات النووية التي لا ينتهي مفعولها بالتقادم.

النفط والغاز هي كلمة السر للقرن الحالي، والولايات المتحدة بوجودها العسكري المباشر في الشرق الأوسط قد ضمنت احتياجاتها(على الأقل ضمن الحسابات الحالية) وهناك استهلاك ياباني كبير، والاقتصاد الصيني الصاعد المستورد للطاقة، كلها معطيات تؤكد أن الطاقة هي مشكلة القرن الحالي، بالإضافة إلى التنافس التجاري الحاد بين الأقطاب الصناعية، ويتعرض جدول الدول الأكثر تصديراً إلى التغير صعوداً وهبوطاً، مؤشراً على تصاعد أهمية الصين وتراجع الولايات المتحدة، ويتوقع الخبراء الاقتصاديون الأوربيون، أن الصين ستتصدر قائمة الدول المصدرة لا محالة عام 2007 أو 2008.

في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان المذيع الأمريكي يتهيأ لنقل نشرة الأخبار، أدلى بهذه الجملة: يتعين عليكم أيها السادة المستمعين الاستعانة بالخرائط لما سنتلوه عليكم من أنباء. ولا تخفي العولمة والنظام الدولي الجديد عن نواياهم بتغير الخرائط بل وأحداث تغيرات عرقية ودينية وفق رؤى(عصرية) تتلائم مع العولمة.وحتى زمن وضع هذا المؤلف(فبراير/2007) كلفت مرحلة تنفيذ خطوات العولمة مئات الألوف من القتلى، وأضعافهم من الجرحى، وتعترف منظمات غوث اللاجئين أن كارثة إنسانية قد حدثت ربما هي الأقسى منذ تشريد الفلسطينيين من بلادهم، فقد هجر الملايين من العراقيين من بلادهم إلى البلاد المجاورة، وإلى بلدان أخرى، وتجري أعمال تطهير عرقية وطائفية بصفة علنية في أكثر من بلد، وتجري فعاليات تحريض على الفتن والحروب الداخلية بهدف نهائي هو وضع خرائط جديدة للعالم تتناسب مع أهداف القوى المهيمنة على النظام الدولي الجديد(العولمة)، وليس من المستبعد أن تتراكم أسباب خلافات، وتتصاعد أزمات لتبلغ درجة توتر عالية يصبح معها أمر اندلاع نزاعات مسلحة ليس مستبعداً، فالمشكلات القادمة تحمل معها طابعها المتفجر:

• الطاقة.
• البيئة ومضاعفاتها: الاقتصادية/الجغرافية
• ندرة المواد الخام.
• إقامة مناطق محيطية للمراكز.
• انتشار أسلحة الدمار الشامل.
• المشكلات الديموغرافية.
• الأمراض الفتاكة(الإيدز ـ أنفلونزا الطيور ـ إيبولا).

 هوامش الفصل الرابع

1. مكدوف، هاري: الإمبريالية من عصر الاستعمار، ص142 بيروت/1981
2 . عبد الله، عبد الخالق: العالم المعاصر والصراعات الدولية، ص 32
الكويت/1989
3. Dietrich, Mario: Lebens Schild In USA, in Stern Nr. 22/1990, Hamburg, BRD
4. نامق، د. صلاح الدين: النظم الاقتصادية وتطبيقاتها، ص28 ، القاهرة/ 1982
.5 الدباغ، د.ضرغام عبد الله: الأبعاد السياسية لحرب فوكلاند، ص5، بغداد/1985
.6 سوزا، نيلسون أرووجودي : نفس المصدر، ص30 بغداد/ 1999
.7 مكدوف، هاري : نفس المصدر، ص 147 بيروت1981L
.8 عبد الله، عبد الخالق : نفس المصدر، ص 32 ، الكويت/1989
9. غورباتشوف، ميخائيل: البريسترويكا والغلاسنوست، ص16، بغداد/ 1989
10. غورباتشوف: نفس المصدر، ص161
11. خليل حسين، د. مجيد: أثر التشريعات القانونية على تطور اقتصاديات النقل الجوي، (أطروحة دكتوراه) ص73، لاهاي 2006
12. هنتكتن، صموئيل: صدام الحضارات، ص72، ليبيا 1999
13. برجنسكي، زبيغينيو: الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، بيروت/2004
14. برجنسكي: نفس المصدر، ص 51
15. وكالات الأنباء: 17/ فبراير، إحصائيات وكالات الغوث ومكافحة الفقر والجوع
16. سعيد، لبنى: مطرقة الدَّين، وسندان الفساد، موقع اقتصادي على الإنترنيت فبراير/ 2007
17. مطر، د. زكريا: العولمة، هدم الاقتصاد القديم، موقع اقتصادي على الإنترنيت، فبراير / 2007
18. Ausgabe Nr. 26/ 2006, Hamburg , BRD: Der Spiegel
19. Frankforte Rundschau: 17/ Feb/ 2007
20. Artikel in Tagesspiegel vom 11/2/2007
21. المجذوب، د. محمد: التنظيم الدولي، ص198 بيروت/ 2002
22. Schmett, Helmut: Vorlesung, Feb/2006, Phoenix
23. Deutsche Welle: Anfang Januar/2007, Berlin
24. برجينسكي، زبيغنيو: الأختيار، ص201

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2003 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع