المحامي المستشار محي الدين محمد يونس
أحداث ساخنة في الصراع بين السلطة في العراق والحركة الكردية 1968 – 1975 -الجزء العاشر
ثانيا/ تقييم الأداء العسكري للحركة الكردية
في شهر ايار 1972 كان الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون) يزور طهران ومعه الدكتور (هنري كيسنجر) وفتح شاه إيران (محمد رضا بهلوي) بنفسه مع الرئيس الامريكي موضوع المساعدة للأكراد وقال انه وعد (مصطفى البارزاني) بأن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تساعده وقال انه قدم هذا الوعد "كصديق" وأنه من الضروري للولايات المتحدة أن تعزز وعدها عملياً، ثم قدم الشاه في الاجتماع للرئيس الأمريكي قائمة بالأسلحة التي يحتاجها (مصطفى البارزاني)، ووعده الرئيس (نيكسون) ببحث القائمة "بروح إيجابية" فور عودته إلى واشنطن وفعلاً وفت الحكومة الأمريكية بوعدها وخاصة بعد أن أصدرت الحكومة العراقية قرارها في 1 حزيران 1972 بتأميم نفط العراق وطرد الشركات الأجنبية، حيث تقرر في 16 حزيران 1972 وفي اجتماع خاص بين نيكسون وكيسنجر الموافقة بسلطة الرئيس على مساعدة الأكراد و تقرر اعتماد ستة عشر مليون دولار لتغطية نفقات الشحنة الاولى من الاسلحة الامريكية للأكراد(1).
ريتشارد نيكسون الرئيس السابق للولايات المتحدة الامريكية
كانت إيران تحث الكرد على الرد على الحكومة العراقية بعنف بعد توتر العلاقة بينها وبين الحركة الكردية جراء الخلل الذي انتاب هذه العلاقة بعد حوادث محاولات اغتيال (ادريس البارزاني) في عام 1970 و محاولتي اغتيال (مصطفى البارزاني) في عامي 1971 و 1972 والحوادث الاخرى والتراجع من قبل الطرفين في تنفيذ الالتزامات بينهما والمقررة بموجب اتفاقية آذار 1970 وكانت ايران تتوعد الاكراد بجميع انواع المساعدات وفي مستويات لا تقارن بالسابق وتظاهرت وسائل الاعلام الايرانية بالدفاع عن الأكراد الاريين وكان العون المادي بمستوى الوعود أم العون العسكري فكان مخططاً له بان لا تنجز الثورة الكردية او الحكومة العراقية نصراً حاسماً أياً منهما على الآخر(2).
في آذار 1975 توصلت إيران والعراق الى اتفاق كان من شأنه أن توقف إيران كل مساعداتها للأكراد وان تمنع اية إمدادات عن طريق اراضيها و ان تغلق حدودها في وجه التحركات الكردية بعد مهلة معينة.
هنري كيسنجر و السناتور أوتيس بايك
كان الكونغرس الامريكي قد شكل لجنة خاصة برئاسة (اوتيس بايك) عضو الكونغرس الامريكي للتحقيق في النشاط السري لأجهزة المخابرات الأمريكية انتهت من أعمالها وقدمت تقريرها الى الكونغرس في 19 كانون الثاني 1976 ولم ينشر التقرير بسبب تدخل الرئيس الأمريكي (فورد) الذي اعترض لدى الكونغرس على ذلك واعتبر نشره يلحق ضرراً بالمصالح العليا للولايات المتحدة،
جيرالد فورد الرئيس السابق للولايات المتحدة الامريكية
ولم يكن تدخل الرئيس الأمريكي بمنأى عن توصية من (هنري كيسنجر) لأنها تكشف تفاصيل كثيرة عن خبايا النشاط السري الأمريكي ومنها في مجال العلاقات مع الحركة الكردية ومدها بالمساعدات المادية والعسكرية، بالرغم من قرار منع نشر تقرير لجنة (بايك) والاحتياطات التي اتخذت من أجل ذلك الا ان احد الصحف الأمريكية قامت بنشر التقرير بالكامل والذي يصف السياسة الامريكية تجاه القضية الكردية والأكراد بأنها غير اخلاقية ويضيف .."فلا نحن ساعدناهم ولا نحن تركناهم يحلون مشاكلهم بالمفاوضات مع الحكومة العراقية... لقد حرضناهم ثم تخلينا عنهم لقد دخل (كيسنجر) هذه اللعبة لمساعدة الاكراد مجاملة لإيران(3)!
وقد اتضح فيما بعد بأن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ووجهة نظرها بالنسبة للقضية الكردية في تلك المرحلة لم يكن يرمي الى اسقاط النظام العراقي بل تغيير سياسته وإذا ما غير سياسته فسيطلب إليه تقديم التنازلات للحركة الكردية(4).
في خريف عام 1974 بدأ النظام العراقي بتغيير سياسته وسلوكه حيث وصل الى قناعة من أن درجة تقاربه مع الاتحاد السوفيتي وصل الى حد يلحق به الضرر والعواقب الوخيمة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها والاستمرار في هذا النمط من العلاقة ليست في صالحه لذلك اختار التقارب وحل مشاكله مع إيران باللجوء الى وساطة الدول العربية التي كانت لها علاقات متميزة معها مثل مصر والجزائر والأردن والمغرب وبذلك يكون النظام العراقي قد اصطاد عصفورين بحجر واحد فمن خلال تطبيع علاقته بالنظام الإيراني الذي كان يطلق عليه آنذاك شرطي أمريكا في الخليج يكون قد قضى على الحركة الكردية من جهة وحسن علاقته مع الولايات المتحدة واتقى شرها من جهة اخرى، اما الحركة الكردية وبعد ان تكشفت لها الحقائق والمخاطر تيقنت من أنها في ورطة فلا هي قادرة على معاودة الاتصال مع النظام العراقي وصاحب القرار فيه (صدام حسين) كما أنها لم تكن تستطيع قطع علاقاتها مع شاه ايران و نظامه بعد أن أصبحت علاقة استراتيجية في الواقع العملي وبعد أن كانت الحركة الكردية قد تجاهلت وضع خطة استراتيجية لمسيرتها السياسية والعسكرية تتضمن جواز استخدام تكتيك خاص في مرحلة معينة للوصول الى اهداف تلك المرحلة بشرط ان لا يتعارض مع الخطة الاستراتيجية والتفكير باحتمال أن تكون المصالح المشتركة سبباً في التقارب بين العراق وايران وحل مشاكلهم على حساب القضية الكردية وكما كانت المصالح هي المفرقة بينهما ومن خلال ذلك كانت الحركة الكردية مستفيدة من سوء هذه العلاقة وكان الاجدر بها ان تكون لديها خطة بديلة لمعالجة الا تضع نفسها في زاوية محصورة مميتة كما حصل لها بعد الاتفاق بين الدولتين.
ويبدو واضحا من خلال الاطلاع على المناشدة السرية التي بعثتها قيادة الحركة الكردية الى ممثل CIA في 10 آذار 1975 حجم المعاناة والتخبط من تداعيات هذا الاتفاق عليهم حيث جاء فيها " ان مصير شعبنا في خطر غير مسبوق، ان الدمار الشامل يحوم فوق رؤوسنا، ليس هناك تفسير لكل ما يجري، نحن نناشدكم ونناشد الإدارة الأمريكية التدخل إيفاءً منكم بوعودكم"
كما أن التقارير تشير الى تسلم (هنري كيسنجر) رسالة من (مصطفى البارزاني) في نفس اليوم جاء فيها:
" ان قلوبنا تنزف ونحن نشهد ان الاثر الجانبي المباشر لاتفاقهم هو الدمار غير المسبوق لشعبنا الأعزل، بما ان (حليفكم إيران) قد اغلق حدوده واوقف كل انواع الدعم عنا، بينما عدوه (العراق) قد بدأ أكبر هجوم له وما زال مستمراً حتى هذه اللحظة. إننا نشعر يا سعادة الوزير بأن على الولايات المتحدة مسؤولية اخلاقية وسياسية نحو شعبنا"(5)
يقال عن السياسة بأنها (فن الممكنات) وعلى ضوئه بدأت اللقاءات والمفاوضات بين العراق وإيران في النصف الثاني من عام 1974 وفق الخطوات التالية وبدعم من الدول المعنية بمصالحها مع الدولة الغنية العراق:
1- بدأت المحادثات بين وزيري خارجية العراق (سعدون حمادي) وإيران (عباس خلعتبري) في اسطنبول في آب 1974 وكان موضوع المحادثات الطلب الإيراني بتحديد الحدود في منطقة شط العرب بحسب خط التالوك والطلب العراقي بإنهاء دعم ايران للحركة الكردية، أصر العراق على رفضه بان يكون خط التالوك خط الحدود الفاصل بين البلدين في شط العرب .
2-قامت الحكومة الإيرانية بزيادة دعم الحركة الكردية في تلك الفترة من خلال امدادات الاسلحة والمشاركة الفعلية مع قوات البيشمركة في الهجوم والتصدي للقوات العراقية وكان هدفها من ذلك هو لزيادة الضغط على العراق وفي هذا الصدد صرحت بغداد بان هدف هذه الهجمات هو:
أ- ممارسة الضغط على العراق اثناء المفاوضات بهدف ابتزازه.
ب- توفير المساعدة لطغمة عميلها المهزوم (مصطفى البارزاني).
3- تم تعليق المفاوضات في 28 آب عام 1974 وفي اليوم التالي تقدم العراق بشكوى الى الأمم المتحدة حول تمركز عدد كبير من القوات الإيرانية المؤلف من خمس فرق عسكرية على طول حدوده.
4- في تشرين الأول 1974 وخلال مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الرباط والذي حضره عن الجانب العراقي (صدام حسين) وخرج المؤتمر بتوصيات في أن يقوم الرئيس (السادات والملك الحسن الثاني والملك الحسين) بدء بعثة للوساطة.
5- في كانون الأول 1974 انخرط كل من (السادات و هواري بومدين) في نشاطات وساطة مكثفة إلا أنهما فشلا في مسعاهما بسبب رفض العراق التنازل عن سيادته على شط العرب وبقيت الحالة دون حل من جراء اصرار الدولتين على موقفهما المتعنت.
6- قام شاه إيران في 6 كانون الثاني 1975 بزيارة الى الأردن والتقى ملكها (الحسين بن طلال) وبعدها مصر والتقى بـ(السادات) للفترة من 8 الى 12 من نفس الشهر و دون التوصل إلى أي نتائج ايجابية مع زيادة التوتر على طول الحدود الايرانية العراقية وتزايد الدعم الايراني للكرد.
7- في 11 شباط 1975 أعلن (صدام حسين) عن تمسك العراق بسيادته واستعداده للدفاع عن أراضيه ومياهه الإقليمية في شط العرب(6).
8- كانت المرحلة الأخيرة من المفاوضات في الفترة من 4 الى 6 آذار 1975 في الجزائر خلال مؤتمر الدول المصدرة للنفط (أوبك).
وهنا لا بد من الإشارة الى الخطوات التي رافقت توقيع اتفاقية الجزائر من قبل شاه إيران (محمد رضا بهلوي وصدام حسين) نائب الرئيس العراقي بتاريخ 6 اذار 1975 وعلى لسان الدكتور (فخري قدوري) الذي كان ضمن الوفد المرافق لـ(صدام حسين) حيث يقول:
" كان الرئيس الجزائري (هواري بومدين) يستقبل شخصياً في مطار الجزائر الملوك والرؤساء الذين كانوا يصلون تباعاً لحضور مؤتمر القمة لدول الأوبك في شهر آذار عام 1975 نزل (صدام) من الطائرة وكنت عضواً في الوفد المرافق وبقي جالساً في قاعة الاستقبال على غير عادة الرؤساء الآخرين ممن كانوا يتوجهون الى محل اقامتهم مباشرة بعد الاستقبال(7).
كان التنسيق تم مسبقاً مع (بومدين) ويقضي بانتظار صدام حتى هبوط طائرة شاه إيران، وهكذا تم اللقاء الاول وجهاً لوجه بين (صدام والشاه) وبحضور (بومدين) وسط دهشة أعضاء الوفد العراقي او غالبيتهم على اقل تقدير والذي كان معزولاً عن ما خطط له مجلس قيادة الثورة وانتقال موقفه لحل المشاكل مع ايران من حالة الصراع الى التفاوض، فمنذ نشوء الأزمة بين البلدين وحتى ذلك التاريخ عبأ العراق حملة سياسية وإعلامية واسعة في الداخل والخارج وسخر مؤتمرات وطنية وإقليمية للتنديد والوعيد وكأن التفاهم حول حلول معقولة أصبح طريقاً مقفلاً".
ويضيف الدكتور فخري قدوري:
" خلال أيام مؤتمر الاوبك نضجت نقاط الاتفاق بشأن المسائل الرئيسية -شط العرب- والمسائل الاخرى بجهود الوساطة الجزائرية. ذات ساعة وفي احدى القاعات الجانبية للمؤتمر كان الثلاثة واقفين (صدام والشاه وبومدين) وعلامات التشنج ظاهرة على وجوههم"
ثم يقول الدكتور فخري قدوري:
" استغرق الحديث المتوتر بين (صدام والشاه) وقتاً أطول بسبب الترجمة التي كان (بومدين) يقوم بها من العربية إلى الفرنسية وبالعكس، شعر (هواري بومدين) بالإحراج امام عيون الاخرين من اعضاء الوفد فأخذ بيدي (صدام والشاه) الى خارج القاعة، وفي سيارة متواضعة -رينو 16- جلس (صدام والشاه) في المقعد الخلفي وجلس (هواري بومدين) بجانب السائق وانطلقت السيارة الى مكان لم نعرفه حيث تمت تسوية النقاط العالقة".
أخيراً يذكر الدكتور فخري قدوري:
" في اليوم التالي وفي قاعة المؤتمر أعلن الرئيس الجزائري عن حدث هام: الاتفاق بين بلدين جارين عضوين في الأوبك هما العراق وايران، وقف الملوك والرؤساء مصفقين وقتاً طويلاً لهذه البشرى الكبيرة، لكن المفارقة حلت فأضافت ألماً وحقداً في قلب (صدام)، إذ ترك صدام مقعده متوجهاً لمصافحة (الشاه) ظناً منه أن الشاه سيفعل الامر نفسه و يلتقيان في منتصف المسافة يتبادلان التهنئة البروتوكولية إلا أن (الشاه) بقي واقفاً أمام كرسيه ولم يتحرك خطوة واحدة، مما اضطر صدام ان يكمل المسافة وحده حتى وصل الى (الشاه) وتمت المصافحة فاعتبر (صدام) تصرف (الشاه) نوع من الإهانة ولم ينتهي هذا الجرح الشخصي والرسمي طيلة السنوات التي تلت"(8).
لقد أصر شاه ايران على موقفه المتصلب في المفاوضات مع العراق من خلال قوة موقفه التفاوضي بالاستناد الى الورقة الكردية ولم يتراجع عن مطالبه وخاصة في ما يخص منها تقاسم السيادة على شط العرب على عكس (صدام حسين) الذي كان في موقف ضعيف أجبره على التنازل لخصمه من أجل القضاء على الحركة الكردية بعد أن تخلت الولايات المتحدة الامريكية عن وعودها للضغط على الحكومة العراقية لتأمين شروط أفضل للحركة الكردية بعد أي تقارب بينهما حيث لم تر في الكرد رصيداً استراتيجياً يستحق التدخل لصالحهم أما عن علاقة الحكومة العراقية مع الاتحاد السوفيتي فقد استمرت هذه العلاقة بعد تهذيب حجمها ونوعها بحيث تكون مقبولة من الأطراف الثلاث .
بالرغم من عدم ارتياح الاتحاد السوفيتي لهذه النتائج المقللة لحجم تأثيرها في المنطقة وعدم رغبتها بالمصير الذي حل بالحركة الكردية في العراق من جراء هذه الاتفاقية... غير المتوقعة من قبل قيادة الحركة الكردية وبالرغم من عدم ثقتها في موقف شاه إيران وعدم قناعتها بمواقفه كما أسلفنا إلا أنها كانت بالمقابل على قناعة في بقاء العلاقة بين العراق وإيران على حالة من التوتر والخصام وفي أسوأ احتمال أن لا تتخطى اية خطوات مستقبلية للتقارب بين البلدين غايات تكتيكية مرحلية ولن تصل من جانب النظام الايراني في أي حال من الاحوال الى قرار إنهاء هذه الحركة وبهذا الشكل الذي الحق بإيران نفسها الضرر أيضا من حيث ما يستجد من احداث بعد رحيل الشاه واسقاط نظامه عام 1979 ومجيء (الخميني) إلى سدة الحكم في ايران ومن أولوياته العزم على الإطاحة بـ(صدام حسين) ونظامه.
والذي طرده من العراق في عام 1978 لإرضاء الشاه ويعتبر التصرف هذا من الأخطاء التي افقدته ود (الخميني) الذي قرر الانتقام بسبب موقفه العدائي منه.. ونشوب الحرب الطاحنة بين الدولتين من عام 1980 ولغاية عام 1988 والسؤال الذي يطرح نفسه عن مدى تأثير بقاء الحركة الكردية على نتائج هذه الحرب لصالح إيران لو لم يقم (محمد رضا بهلوي) بتصفيتها بالاتفاق مع (صدام حسين) في عام 1975 وفي موضوع ذو صلة يقول (برويس رايدل) الخبير في مركز بروكينج للأبحاث وهو مسؤول مكتب ايران في المخابرات الأمريكية عام 1978 " أن المخابرات العراقية ساعدت (الخميني) في إدارة عملية -تخريب سرية- من النجف ضد الشاه وشكلت رحلة حج الشيعة الايرانيين الى النجف غطاءً مفيداً للتواصل مع متعاونين من داخل إيران" ويضيف رايدل، "وسط انتقادات بان أجهزة الاستخبارات الأمريكية قد اخفقت في توقع الثورة، أياً كان إخفاق الاستخبارات الأمريكية من الواضح ان العراقيين لم يتوقعوا قوة الثورة وحجمها، هذه الثورة التي ساهم في خلقها من خلال دعم (الخميني) طيلة سنوات وجوده في النجف" ويختتم رايدل قائلاً "ابعد صدام الرجل الذي كان يعمل لسنوات ضد الشاه قبل لحظة انتصاره وكان ذلك خطأً فادحاً".
أما مستشار الأمن القومي الامريكي (زبيغنيو بريجسنكي) فقال ملخص السياسة العراقية التي قدرت انها تنجح باستغلال الخميني في العراق (13) عاماً في سبيل معارضة شاه ايران، ومن ثم تحول (الخميني) لعدو يشن الحرب على العراق (8) سنوات وقال (بريجسنكي) في رسالة كتبها للرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) بحسب رايدل " ان العراق الزم نفسه بأمور لا يمكن تحقيقها"، وفي هذا الصدد يتحدث (حامد الجبوري) وزير الدولة للشؤون الخارجية وكيل وزير الخارجية في عام 1978 في مقابلة مع قناة الجزيرة الفضائية في برنامج شاهد على العصر.
حيث يقول " ليلة الخميس على الجمعة اتصلوا بي من وزارة الخارجية واعلموني بأن السفير الايراني يطلب مقابلتي بشكل عاجل هذه الليلة طلبت منهم ابلاغه تعذر اللقاء به في هذه الليلة وتأجيل ذلك الى صباح اليوم التالي والصباح رباح بسبب وجود ضيوف عندي و أمنح نفسي فرصة لمعرفة اسباب مجيئه وذهبت صباح اليوم التالي الجمعة الى وزارة الخارجية فدخل عندي السفير الايراني الى مكتبي وبلغني رسالة الى (صدام حسين) وليس الى البكر لان الشاه كان يعرف مركز القوة في العراق - تقول الرسالة، نرجوكم طلعوا الخميني من العراق- فأجبته الخميني وصل الحدود الكويتية وهو في طريقه للخروج من العراق وقد حصل تلكؤ من الجانب الكويتي حيث لم يسمح له بالدخول اليها واخذ طائرة الى فرنسا وعاد الى صفوان".
ويضيف (حامد الجبوري):
" بعد ساعات قليلة جاءني طلب من السفير الايراني يرجو مقابلتي بشكل عاجل وعندما قابلته بلغني رسالة شخصية وعاجلة من البلاط الشاهنشاهي موجه الى (صدام حسين) يرجونه بالاحتفاظ بالخميني وعدم السماح له بالخروج من العراق.
جاوبني (صدام) بالنص قول للسفير خليه يكول للشاه صدام مو موظف عندك خميني طلع من العراق وخلص".
كما يقال بأن (فرح ديبا) زوجة شاه إيران قد طلبت من (صدام حسين) عند زيارتها الى بغداد في عام 1978 ولقائها به وطلبها عدم السماح للإمام (الخميني) بالخروج من العراق لان خروجه سيمكنه من زيادة نشاطه السياسي والإعلامي ضد النظام الإيراني ودون قيود.
وما دمنا نتحدث عن الخطأ الكبير الذي وقع فيه (صدام حسين) من جراء الخطأ الكبير من جانب شاه إيران (محمد رضا بهلوي) عندما ألح عليه في طلب طرد (الخميني) من العراق وتداعيات ذلك على الدولتين لاحقا وفي هذا الصدد يذكر الدكتور (كريم فرمان) مدير مكتب الاتصال الخارجي والمتابعة في مكتب (صدام حسين) في مقالة بعنوان (مع الخميني وجهاً لوجه في باريس- ماذا ارسل لصدام) نشر في عدة مواقع منها موقـــع الكاردينيا الــذي نشرتـــه بتاريخ 9/9/ 2020.
وندرج المقال هنا نصاً لقيمته التوثيقية لهذا الحدث التاريخي وما نجم عنه من أحداث وتداعيات خطيرة بالنسبة للبلدين والمنطقة والعالم...
(( في مكتب الرئيس (صدام حسين) رحمه الله وفي ليلة من ليالي الشتاء في مطلع شهر تشرين الثاني من عام ١٩٧٨م طلب مني السيد الرئيس استدعاء أحد رفاقه الحزبيين القدامى لمقابلة عاجلة، ولما كان هذا الرفيق القديم قد تعرض لمشكلة شخصية سجن بسببها خمسة سنوات وأمضى منها سنتان وشمله الرئيس بعفو خاص فتقاعد بعدها من الحزب والدولة وكان من الصعب معرفة رقم هاتفه اوعنوان داره أبلغت الأمن العامة بضرورة الوصول اليه وابلاغه بالحضور إلى استعلامات القصر الجمهوري عاجلاً.
في مساء اليوم التالي حضر الرفيق (علي رضا باوه) واستقبله الرئيس بالأحضان وبعد السؤال عن أحواله وأسرته شكر علي سيادة الرئيس على هديته له قبل شهور وكانت كالعادة سيارة صالون ومسدس وعشرة آلاف دينار، وكانت هذه عادة الرئيس فهو دائم التفقد لرفاقه الحزبيين القدامى حتى لو انقطعوا عن العمل.
صدام / رفيق علي كيف هي علاقتك مع (الخميني) ؟.
الرفيق علي / ارتبك ليقول سيدي كانت علاقتي به خلال إقامته في النجف لاجئاً بحكم مسؤوليتي الرسمية عن مكتب حركات التحرر الذي يتبع له اللاجئين السياسيين الأجانب في العراق وانقطعت علاقتي به منذ غادر أو رحل من العراق!! .
صدام / اخ علي انا اريد ان اكلفك بمهمة سرية وخاصة جدا اسأل فقط عن جو العلاقة الشخصية بينكما هل يقدرها (الخميني) هل يكن لك ودا مثلاً؟؟ .
الرفيق علي / سيدي الرئيس اظن الإمام يقدر لي كثيراً موقفي منه عندما اعدم الشاه ولده البكر (مصطفى) وقمت بجلب جثمانه من طهران لدفنه في مقبرة النجف على نهج الشيعة واشرفت على الدفن والتعزية.
هنا قال صدام له… يبدو أن حكم الشاه يصارع أنفاسه الأخيرة والشايب يقصد (الخميني) جاي جاي لطهران أريد منك أن تذهب برحلة سريعة لباريس وتقابله بحجة رغبتك في السلام عليه وأنك وصلت باريس للعلاج ولا يمكن أن تغادر دون السلام على الإمام وهو يعلم انك من الشيعة وتصطحب معك الرفيق كريم فهو صغير السن ويمكن أن تقدمه بأنه ابن اختك ومرافق لك في المشفى ..اريد ان تجس نبضه شنو يفكر نحو العراق الذي أقام به ١٤ سنة وماذا يضمر!!!.
على متن الخطوط الجوية العراقية في اليوم التالي غادرنا سوية إلى باريس أنا والأستاذ علي رضا باوه وصلنا مساءاً وكانت عاصمة النور تغتسل بالمطر الشفيف على قول الشاعرة العراقية لميعة عمارة، نزلنا في أحد فنادق الشانزليزيه ذات الأربع نجوم وفي الصباح صعدنا في تاكسي يقوده شاب جزائري مقيم هناك على العنوان الذي عندنا أوصلنا إلى فيلا نوفل لوشاتو في قرية جميلة بالقرب من باريس ..
عند الباب لاحظنا أن الدار تزدحم بكاميرات التلفزة ومصورين كثر وصحفيون وزوار في الباب سألنا شرطي فرنسي سري إلى أين قلنا له بالإنجليزية visitors ربما لم يفهمها وفي هذه الأثناء لمحنا شاب من مكتب الإمام تعرف فورا إلى علي باوة وقال بالعربية اهلا علي .. كان ذلك الشاب هو صادق قطب زادة طالب ايراني يدرس في فرنسا ويقوم بمهمة سكرتير (الخميني) وسبق أن كان يتردد على مدينة النجف.. بادره علي انا في رحلة علاج شارفت على الانتهاء ورغبت بالسلام والتحية لمولانا وسيدنا وايضاً ننهل من بركاته بالشفاء ووو الخ .. أجاب صادق زادة أن مواعيد الإمام هذا اليوم مزدحمة جدا وصعب ترتيب موعد لكم .. اترك لي العنوان ورقم الهاتف وسأخبرك!!!.
في الليلة رن الهاتف في استقبال الفندق وعلى الطرف الآخر كان صادق قطب زادة والذي أصبح وزيرا للخارجية الإيرانية لاحقاً وقد أعدم بسبب اتهامه بالتجسس فيما بعد …أخ علي موعدكم مع السيد غدا الساعة ١١ صباحاً.
وعلى الموعد وصلنا مقر إقامة (الخميني) وأدخلنا زادة فوراً على الإمام الذي كان كعادته كما قال لنا زادة يكون مجلسه عندما يكون الطقس صحوا يفضل الجلوس تحت شجرة تفاح كبيرة عند مدخل البيت.
خلال خطوات الطريق همس علي في أذني أرجوك كريم قبل يد الإمام كما افعل انا كي لا يتوجس وهذه طريقتنا الشيعة في تحية رجال الدين..
شاهدت (الخميني) مبتسماً لمقدم هذا الزائر العراقي له وبادره اهلاً علي صديقي القديم وعدوي في آنٍ واحدٍ معاً..
وكان (الخميني) يتكلم بعربية فصحى جداً فرد عليه علي سيدنا صديق هاي مفهومة بس عدو شلون ترهم !!!،
قال (الخميني) نعم صديق لأني لا انسى لك ما قدمته لي خلال إقامتي في النجف من افضال خصوصاً جهودك العظيمة في جلب جثمان ولدي مصطفى من طهران ودفنه في النجف الأشرف أما عدو فلانك من جماعة صدام..!!،
ضحك قليلاً ثم اردف كيف هي احوالك سمعت ان صدام قام بحبسك!! رد عليه علي لا سيدنا لم يحبسني هو انما وقعت لي مشكلة عائلية وقد أخرجني بعفو خاص .. المهم سيدنا أن شآء آلله تكون في طهران قريباً واكيد راح تكون علاقتك مع العراق الجار وبلد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وارض الأئمة الأطهار زينة وطيبة ونستبشر بك خيراً…!!، امتقع وجه الإمام ليرد:
لا لا ابداً أول شيء سأقوم به أن عدت لإيران هو اسقاط صدام والبعث الكافر وتحرير شيعة العراق من الظلم!!!!.
انا فقط مهمتي كانت استمع للحوار بينما كانت ساعة اليد التي ارتديها تسجل كل كلمة !! المهم بعد أحاديث عمومية اخرى قال له علي استأذنك سيدنا لأني راجع مع ابن اختي غداً لبغداد ودعواتك لي بالشفاء ثم قبله من يده ورأسه وخرجنا من نوفل لوشاتو إلى مطار اورلي ..
اليوم التالي كان بيدي في بغداد تقرير بخط الرفيق علي رضا باوه صديق (الخميني) والرفيق القديم للرئيس كتب فيه كل ما جرى من حوار وختمه بعبارة سيدي الرئيس((أن السيد يقول أول ما أفعله عندما أحكم طهران هو إسقاط حكم الرئيس صدام والبعث)) ولم يعلم الرفيق علي رضا أن الرئيس كان قد استمع لتسجيل كامل للحوار من الساعة التي كانت في يدي و قامت الإدارة الفنية بجهاز المخابرات العراقية بتفريغه على كاسيت!!!.
الامام الخميني زعيم الثورة الإسلامية في إيران
بعدها شرع الرئيس صدام بترتيب أمور البلد لتوقع الحرب فقام باستمالة الشيعة العراقيين في مدنهم وقراهم وعزز من مكانتهم وتواجدهم في المناصب والمراكز القيادية واشتغل على تحضير الجيش العراقي بالتدريب والتسليح وهذا فعلاً ما حصل عندما قامت طائرتين ايرانيتين بقصف بغداد يوم ٤ ايلول ١٩٨٠م وأسقطت إحداهما قرب نهر دجلة وتم أسر الطيار حياً…
هذه شهادة للتاريخ قبل أن يغادرنا لكي لا يأتي من يقول أن العراق هو من بادر بشن الحرب على الجارة إيران.
الحركة الكردية وخيار الحرب
لقد تطرقنا في فصل سابق إلى الأسباب التي دفعت النظام العراقي الى سلوك خيار الحرب مع الحركة الكردية في عام 1974 وهنا لا بد من ذكر الأسباب التي دفعت هذه الحركة لاختيار نفس السلوك والدخول في حرب طاحنة مع النظام العراقي بالاستناد الى عوامل داخلية وخارجية شجعتها على ذلك.
1- العوامل الداخلية والتي يمكن أن نجملها في النقاط التالية:
أ- استطاعت الحركة الكردية بزعامة (مصطفى البارزاني) من زيادة رصيدها الشعبي بين الجماهير الكردية خلال الاعوام 1970-1974 حيث بلغت شعبية البارزاني ذروتها وأصبح تحت امرته قوة تناهز اكثر من (150) مائة وخمسون الف مسلح(9).
ب- استطاع (مصطفى البارزاني) بعد صدور اتفاقية 11 آذار 1970 بخطوة غير متوقعة في جمع الشمل الكردي وعودة الجناح المعارض الذي كان يتزعمه (جلال الطالباني) وانهاء الخلافات القائمة بينهما على اثر الانشقاق الذي حصل في عام 1964 والصراع السياسي والعسكري الذي دار بين الجناحين طيلة الفترة المذكورة وكانت نتائج هذا الصراع وخيمة على الشعب الكردي وما سببته من مآسي وويلات راح ضحيته العشرات من القتلى والجرحى من الجانبين والامر الذي يؤسف له ان يعود هذا الصراع مجدداً الى الواجهة وبشكل اكثر عنفاً وشدة في الحرب الداخلية التي حصلت بين نفس الجناحين ممثلين بالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة (مسعود البارزاني) والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة (جلال الطالباني) بين عامي 1994-1998 ولم تنتهي حالة الاشتباك بينهما إلا بتدخل الولايات المتحدة الامريكية عن طريق وزيرة خارجيتها (مادلين اولبرايت) حيث وقعت قيادتا الحزبين في واشنطن على اتفاق صلح بينهما في أيلول 1998 بعد ان خلف الصراع اكثر من ثلاثة آلاف قتيل وجريح والاف المهجرين.
جلال الطالباني ومسعود البارزاني ومادلين اولبرايت
وكان للتدخل الأمريكي الدور الحاسم في إنهاء حالة الاقتتال الذي كان محل ارتياح بعض الاطراف الداخلية وعلى الخصوص النظام في بغداد والبعض من الدول الاقليمية وعدم استجابة الحزبيين للمحاولات الحثيثة المستمرة للأحزاب الكردية في الإقليم(10) بالإضافة الى الحراك الشعبي المطالب بإيقاف نزيف الدم الذي لم يتوقف إلا من خلال تدخل الولايات المتحدة الأمريكية.
صحيح أن القتال قد توقف عقب هذا الاتفاق الا ان الحرب الباردة لا زالت مستمرة كالنار تحت الهشيم من حين الى حين في خلاف على مسألة تثار وهذا ديدنهم فيما بينهم يفرض عليهم التباعد والاستقواء من حلفاء خارج صفوفهم يفرضها التواجد الجغرافي لنفوذهم وصحيح ان العراقيين اتفقوا على ان لا يتفقوا والاصح ان الاكراد اتفقوا على ان لا يتفقوا ويستمروا في العيش في شقاق(11).
ج- انهاء رؤساء العشائر الكردية علاقاتهم مع الحكومة المركزية في بغداد وعودتهم الى كنف زعيم الحركة الكردية (مصطفى البارزاني) ومبايعته كرئيس للشعب الكردي باستثناء البعض منهم وخاصة من رؤساء العشائر الكبيرة في كردستان العراق من الهركية والسورجية والزيبارية والذين نزحوا من مناطقهم الى بغداد ومناطق أخرى تم تخصيصها لاستقرارهم ومن صاحبهم من أفراد عشائرهم من قبل الحكومة العراقية ومساعدتهم مادياً ومعنوياً لحين عودتهم الى كردستان بعد تجدد القتال في بدايات عام 1974 كما ان قسماً من رؤساء العشائر الذين بايعوا رئيس الحركة نكثوا العهد وعادوا الى التعاون مع الحكومة العراقية ضد الحركة الكردية وهذه الظاهرة اصبحت طبيعية على مر التاريخ الحديث في كردستان .
د-زيادة الموارد المالية للحركة من خلال انتعاش الحركة التجارية في المنطقة مع المناطق الاخرى من العراق وما كان يؤول الى مالية الحركة من مبالغ عن طريق الرسوم والضرائب بالإضافة إلى نشاط الحركة السياحية في فترة السلام التي شهدتها مدن كردستان (اربيل، السليمانية، ودهوك) من خلال مرافقها السياحية واقبال المواطنين من المحافظات العراقية الاخرى عليها.
2- العوامل الخارجية
كان للعوامل الخارجية دور فاعل في دفع الحركة الكردية للدخول في مواجهة عسكرية مع النظام العراقي ومن أهم هذه العوامل:-
أ-الدعم العسكري/ بكافة انواعه من إيران وعن طريقها من الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل التي زودت الحركة بكمية كبيرة ومن مختلف الانواع من الاسلحة التي كانت قد استولت عليها من الجيوش العربية التي اشتركت في حرب الأيام الستة في عام 1967 وكانت نتائجها كارثية على الدول العربية حيث منيت بخسارة فادحة في الرجال والاموال ومزيداً من الأراضي في سيناء من مصر والضفة الغربية من الأردن والجولان من سوريا.
ب- الدعم المالي/ من نفس الدول بالإضافة إلى المساعدات المختلفة في مجالات عدة فنية و صحية وغذائية.
ج- الدعم المعنوي/ الوعود غير المسبوقة من إيران والولايات المتحدة الأمريكية للحركة الكردية بتزويد قوات البيشمركة بأسلحة نوعية متطورة اثرت تأثيراً بالغاً في رفع معنويات هذه القوات وزيادة إقبال الملتحقين في صفوفها وفي هذا الصدد يذكر من أنه في 20 كانون الأول 1973 اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني ومعهم قادة المناطق العسكرية و خطب (مصطفى البارزاني) في الاجتماع قائلاً بانه سوف يقاتل الحكومة العراقية اذ تجددت الحرب بنفس الأسلحة المتوفرة لدى الجيش العراقي(12).
حديث قائد الحركة الكردية (مصطفى البارزاني) عمم على كافة القيادات السياسية والعسكرية وبنفس المعنى في خطاب للقيادي في الحركة (محمود عثمان) في ندوة مفتوحة في كلالة بعد 11 آذار 1974 وهو واقف على سطح أحد المقاهي تحف به مجموعة من كوادر الحزب بينما الناس متجمهرين في الشارع العام "سنحارب الحكومة بالسلاح الذي تحاربنا به"(13)(14).
ومما لا شك فيه أن كلام قائد الحركة لم يأتِ جزافاً بالتأكيد اعتمد على الوعود التي قطعتها حكومة الشاه للحركة ومن الجدير بالذكر في هذا المجال تكليف لجنة فنية للقيام بإجراء المسوحات على الطرق والجسور وخاصة في مضيق كلي علي بك للتأكد من مدى قابليتها على استيعاب وتحمل هذه الأسلحة من الدبابات والمدرعات والناقلات.
كما يعتقد البعض من أن كلام قائد الحركة الكردية قد يفسر من اجل رفع المعنويات او تحذير الحكومة العراقية وجعلها تتراجع عن الإقدام في شن الحرب.
د- الدعم السياسي/ مما لا شك فيه من أن توسع علاقات الحركة الكردية من كافة النواحي مع العديد من الدول يعتبر اعتراف منها بشرعية قيادة (مصطفى البارزاني) والحزب الديمقراطي الكردستاني في تمثيل الشعب الكردي في العراق ومساندة مواقف الحركة في المحافل الدولية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان صراحةً أو ضمناً.
هل كان الأداء العسكري للبيشمركة بمستوى الطموح؟
يقول زعيم الحركة الكردية عن القتال بين قوات البيشمركة والجيش العراقي في عام 1974 " هذه المرة نحن نقاتل ضد الروس... هم الذين يساندون (صدام حسين) و(حسن البكر) الروس هم الذين يقدمون الدبابات والطائرات التي يريدون من خلالها سحق فرقنا من البيشمركة والخبراء العسكريون الروس هم الذين يضعون خطط المعارك"(15).
لا نجانب الصواب في تأكيد دور الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة العراقية في قتالها مع الحركة الكردية عام 1974 وبطبيعة الحال كان ذلك من نتائج معاهدة الصداقة والتعاون المبرمة بينهما إلا أننا عندما نأتي لتقييم الأداء العسكري لقوات البيشمركة في مواجهة الجيش العراقي لابد او من الضروري أن نطلع على ما يذكره القيادي في الحركة (جرجيس فتح الله)(16) في هذا الصدد حيث يقول: " سرى شعور اللامبالاة في معظم القادة العسكريين وكان مقدراً له طبعاً ان يتسرب و يتفشى في صفوف المقاتلين البيشمركة لقد امسى داءً قاتلاً فيه امتص كل حماسته ومعنوياته خلال أعوام 1970- 1974 واصابه بالشلل والتحلل قوته القتالية التي اكسبته في ما مضى شهرته العالمية وأوقعت الرعب في قلوب أعدائه فانطوت اسطورة البيشمركة فعلاً... ويستطرد قائلاً جلس معظم القادة الحزبيين والآمرين العسكريين في المؤخرة أو احتموا في كهوف جبلية امينة تتوفر فيها أسباب الراحة والحماية يحيطون أنفسهم ببطانة من الطفيليين ويستعين بعضهم على قضاء الوقت بمعاقرة الخمر والتمتع بخير الطعام وكل منهم ينتظر نوبته للسفر الى ما وراء الحدود للاجتماع بأهله لقضاء إجازة طويلة هناك".
ونأتي على ما ذكره قيادي آخر وهو (شكيب عقراوي) حيث يقول: " في يوم 2 تشرين الأول 1974 دخلت مدافع وصواريخ الكتيبتين الايرانيتين الى كردستان العراق، وبعد يوم 22 تشرين الأول بدأ قادة الوحدتين الايرانيتين بكتابة التقارير للجيش الايراني بان الثوار الاكراد لا يقاتلون الجيش العراقي بصورة جدية ويحاولون الاعتماد على الجيش الايراني وقد وصلت هذه التقارير الى شاه ايران بصورة متتالية وفي شهر كانون الثاني 1975 فأن هذه التقارير رسمت صورة قاتمة لدى شاه ايران عن أداء قوات الثورة الكردية في جبهة القتال مما جعل شاه ايران يعتقد بأنه سوف لا يكون بإمكان الثوار الأكراد منع الجيش العراقي من التقدم نحو الحدود الإيرانية وانه سوف يكون من الأفضل لإيران قبول تنازل عراقي لإيران ومنع المواجهة مع الجيش العراقي"(17).
اما القيادي الآخر في الحركة (محمود عثمان) فانه عندما يتحدث عن الاخفاقات في المجال العسكري يردها إلى الأمور والجوانب التالية:
1- اسلوب القتال الذي اتبعته الحركة الكردية في قتالها مع الجيش العراقي من خلال الحرب التقليدية والذي لم يكن يتلاءم مع إمكانيات وقدرات الحركة في مقابل ما يمتلكه الجيش العراقي من إمكانيات وقدرات متنوعة من الأسلحة والأجهزة في شتى المجالات جيش منظم لدولة معترف بها دولياً ويضيف الكاتب أنه كان الاجدر بقاء قوات البيشمركة في قتالهم مع الجيش العراقي على نفس ما كان متبعاً عند بداية الثورة ألا وهو حرب الانصار او العصابات.
2- عدم اهتمام قيادة الثورة الكردية بالضبط والربط العسكري الذي هو أساس عمل أي جيش في العالم مما سبب التسيب في صفوف البيشمركة.
3- عدم الاهتمام بالتغيرات والتطورات في المجال العسكري من حيث التدريب على الأسلحة والاستفادة من خبرات الضباط الذين التحقوا بالثورة وبقاء الدور للمسؤولين القدامى غير الكفوئين والاعتماد على المساعدات الخارجية والدعم العسكري الإيراني مما تسبب بصدمة عند قطعها(18).
محمود عثمان
نعود إلى ما كتبه القيادي في الحركة الكردية (جرجيس فتح الله) حول خيار الشاه في تفضيل الاتفاق مع الحكومة العراقية والتخلي عن دعم الثورة الكردية حيث يقول: " كانت الاشهر الثلاثة الاخيرة من عام 1974 حالة ميؤوس منها وحاول الجانب الايراني انقاذ الموقف وتدخل جدي من مدفعيته الثقيلة فخذلته القوات البرية للبيشمركة وأصبح الانهيار ماثلة للعيان بسبب التهرب من القتال ولم يبقى الا ان يطلب من إيران تدخل الجيش الايراني لتدخل الدولتان في حرب"(19).
لا نستطيع أن نفند مزاعم المسؤولين الثلاثة في الحركة ومواقعهم المهمة في تشخيصهم للخلل في الجهد العسكري للبيشمركة خلال فترة القتال التي امتدت من آذار 1974 ولغاية آذار 1975 تمثل في عدم جدية هذه القوات في قتالها مع الجيش العراقي ومحاولة التهرب والتسرب من جبهات القتال بمختلف الحجج وضعف المعنويات لدى القادة والأفراد وعدم اندفاعهم كالسابق كما كان عليه الحال في بداية الثورة، سنوات السلام الاربعة التي أعقبت اتفاقية الحادي عشر من اذار 1970 أضعفت حماس المقاتل وابعدته عن أجواء القتال والصمود في المواقف الصعبة وما شجع على ذلك هو تدخل إيران المباشر من خلال دعمها العسكري للحركة.
حان الآن أن نفكر بشفافية ونكون أكثر انصافاً في تقييمنا للأداء القتالي لقوات البيشمركة خلال الفترة المذكورة ويحق لنا ان نتساءل اذا كان الاداء القتالي لهذه القوات بهذا الضعف والهوان وعدم الشعور بالمسؤولية والتهرب من القتال إذن من تسبب في قتل (16000) ستة عشر ألف منتسباً للجيش العراقي و(60000) ستون ألف جريح منهم، اما في الطرف الآخر فقد قتل (50000) خمسون الف من قوات البيشمركة والاهالي وجرح ما يقارب (100,000) مئة ألف منهم(20)، هذه الأرقام أليست دليلاً كافياً على الحجم الكبير من الخسائر البشرية الناجمة عن الاندفاع الجدي للقتال من قبل قوات البيشمركة، اين قتل او جرح هؤلاء؟ ولماذا قتلوا؟ نعم وبالرغم من الانتقادات التي وجهت الى قوات الثورة الكردية في قتالها مع الجيش العراقي الى اننا لا يمكن أن ننكر حجم التضحيات التي بذلتها هذه القوات والخسائر الكبيرة في الجانب الآخر في هذه الحرب العبثية التي خلفت الويلات والمآسي لهذا الشعب وارغمت الحكومة العراقية بالتالي للاتفاق مع الحكومة الإيرانية وتوقيع اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975 المذلة للعراق والخاسرة بكل المقاييس الوطنية والسياسية.
هوامش الفصل الثالث:
1- منذر الموصلي/ القضية الكردية في العراق/البعث والاكراد / ص334
2- د. عبد الخالق ناصر العامري/ البارزاني مصطفى والقضية الكردية في العراق 1931-1975/ ص326
3- منذر الموصلي/ المصدر السابق / ص336
4- د. حامد محمود عيسى/المشكلة الكردية / ص235
5- اونو بينغيو/ كرد العراق دولة داخل دولة/ ص188
6- اونو بينغيو / المصدر السابق/ ص182
7- الخسائر البشرية في صفوف الجيش العراق والتدخل الإيراني في صالح الحركة الكردية أجبر صدام حسين للخروج عن السياقات البروتوكولية والتنازل عن الكاريزما الشخصية ولو لحين انجاز الهدف المطلوب.
8- د. فخري قدوري/ هكذا عرفت البكر وصدام/ ص208
9- بهاء الدين نوري/ مذكرات/ ص321
10- كان الكاتب عضواً في لجنة التطبيع ممثلاً عن حزب المحافظين الكردستاني والتي شكلتها الأحزاب الكردستانية من اجل محاولة إيقاف القتال بين الحزبين وبالرغم من اللقاءات المكوكية لهذه اللجنة مع قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في مصيف صلاح الدين والاتحاد الوطني الكردستاني في أربيل الا انها لم تثمر عن أية نتيجة إيجابية.
11- جوناثان راندل الكاتب الأمريكي الف كتاباً بعنوان (أمة في شقاق) يتحدث فيه عن وضع القيادات الكردية السياسية والعشائرية وعدم توافقها على مر الزمن تفرقهم المصالح وتدخلات الأطراف الأجنبية.
12- شكيب عقراوي/ سنوات المحنة في كردستان/ ص371
13- يونان هرمز/ ايامي في ثورة كردستان/ ص147
14- شيخ محمد رسول خليفاني (خال الكاتب) كان مقرباً من القيادة الكردية وحدث الكاتب بانه كان مكلفاً من قيادة الحركة الكردية لمصاحبة اللجنة في مهامها داخل مضيق كلي علي بك لقياس أبعاد الجسور الحديدية ومدى قدرتها على تحمل مرور الأسلحة الثقيلة التي كانت الحركة موعودة بها من قبل إيران.
15- كريس كوتشيرا/ مسيرة الكرد الطويلة / ص66
16- جرجيس فتح الله/ زيارة الى الماضي القريب/ ص91
17- شكيب عقراوي/ المصدر السابق / ص375
18- محمود عثمان/ تقييم مسيرة الثورة الكردية/ ص31
19- جرجيس فتح الله/ المصدر السابق/ ص94
20- صلاح الخرسان/ التيارات السياسية في كردستان العراق/ ص235
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/maqalat/46499-2020-10-24-13-07-15.html
736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع