د. ضرغام الدباغ
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد:
التاريخ / 2020
مقاتل الفرس في العراق
(خارطة موزائيك القوميات والأعراق في إيران)
يستغرب القارئ والضارب في كتب ومصادر التاريخ، القديم والحديث، أن يجد عقدة متأصلة لدى حكام بلاد فارس، أو دولة إيران الحديثة (ملكية على أنواع السلالات الحكمة، أو تحت حكم الملالي)، تتحكم على عقلية القيادات الحاكمة أو صناع القرار فيها، عقدة سياسية / اقتصادية / ثقافية، تتمثل بالتوجه غرباً. وقد وجدت هذه القيادات والزعامات، في هذا الشعار لافتة جيوبولتيكية ستمثل جوهر السياسة الإيرانية، على مر العصور تخفت أحياناً وتخبو لكن دون أن تزول، ثم تتصاعد حيناً على نحو شرس، تتخذ طابعاً اعتدائياً، ينطوي في جوهره على التوسع غرباً .. العراق كخطوة أولى لهذا التوسع ..... لماذا ..؟ وهذه موضوعة مهمة كتبنا عنها كثيراً، ولنأت الآن على العقدة ..
الفرس اليوم لم يحتلوا العراق، بل هم تواطؤا، تعاهدوا، تعاقدوا، تقاولوا ... هذه المصطلحات ممكنة، عقدوها مع الأمريكان والإسرائيليين، وإذا يتطلب الأمر حتى مع شياطين الأرض ليصلوا أرض العراق، في تعاقد وتعاهد سنطلع على أسراره يوماً، أن يستلموا العراق مقابل (؟)، ولا ندري ما هو الثمن، فالأمريكان خسروا كثيراً جداً : في الأرواح (قتلى وجرحى)، والمعدات، والأموال، والأمريكان لا يفعلون ذلك مجاناً، إلا مقابل مكاسب ووعود. وهل أوفوا الفرس بوعودهم، فالمعروف عنهم أنهم ينكلون بعهودهم، وبرأيهم لماذا يوفون العهود مع حرامية مثلهم، هي صفقة بين لصوص وسراق، لا مكان للشرف بين الضباع والثعالب وبنات آوى، وبرأي الشخصي ليس في هذا ما يغيض ..
ولكن ما يغيظ هو أن الفرس يحلو لهم أن ينسبوا لأنفسهم البطولة، والذكاء، والدهاء، لمجرد أنهم كسبوا مباراة يلعبها الزعران في الأزقة، ووضعوا أيديهم وأرجلهم في حوض قذر لا يشرف .. فأستلموا العراق بقضه وقضيضه، من شماله إلى جنوبه، وراحوا يملأون الدنيا طنيناً وأزيزاً، وكان الأجدر بهم أن يخجلوا، فالفارس يخجل من فروسية غيره .. فما بالك أن ينسبها لنفسه .. البعض يعتبر أن ذلك في عرف وقواعد الفروسية عار، وفي قواعد مسابقات الفروسية، من يسقط من على ظهر الجواد، يصبح خارج المسابقات، ولكن بالله عليك من يسأل عن الشرف في هذا اليوم الأسود، وقد اختلط الحابل بالنابل، وحتى بالكورونا ...وتبدو في مطالبة الفرس بأن يكونوا كرماء في العراق وأن لا يتصرفون كاللصوص والحرامية، فهذه أشبه بالنكتة، كأن تقسم العاهرة بشرفها، وهكذا أساءوا لنفسهم ولمن تعامل معهم.
الفرس يدركون كما يعلم العالم بأسره، أن هناك حرباً سرية / علنية ضد العرب والمسلمون. ولهذا أجيز لهم أن يلعبوا وفق أتفاق يبدو أنه تفصيلي ودقيق (الأمريكان والاسرائيليون لا يقبلون إلا بأتفاقيات تفصيلية دقيقة)، أن يلعبوا في المنطقة، وبالفعل ساعدوهم في العراق وسوريا ولبنان، واليمن، ولكننا لا نعلم مواد وفقرات هذا الاتفاق وأبعاده، لذلك يعمل الفرس المستحيل لكي يتغير وجه العراق وشكله وداخله ودواخله، ليقنعوا أنفسهم بأن الحلم بات حقيقة، ولينتقموا من كل كوابيسهم، وإحباطاتهم، ومن تمثيلهم الفاشل لدور قاطع الطريق البطل، الذكي، الشجاع الذي ينال ما يريد بقوة سيفه، الذي أنتجه الحدادين في بلادهم، فإذا بسيفهم يكسر، وافتضح ذكاءهم على أنه غباء مطلق وضياع للوقت والجهد ... ومزيد من الخسائر .. ونواح وأنين ..! وإضافة سبب جديد للحزن المستديم.
قرأت بدقة تامة تاريخ الفرس والمنطقة التي يقطنونها بشكل تفصيلي، والشعوب الذين يحيطون بهم ومن الشمال والشرق شعوب تركية (ترك، آذريون، تركمان، أوزبيك، كازاك)، والأرمن، وفي الجنوب: البلوش، والبشتون، (العناصر المكونة للشعب الأفغاني). والعلاقات بين الفرس (المكون القيادي في إيران) وشعوب هذه المنطقة والتي لم تكن يوماً على ما يرام، ولم تشهد سلماً دائماً وتعاوناً في هذه المنطقة التي هي أحوج ما تكون للسلم والأمن والتعاون.
وفي البحث عن تاريخ إيران، نجد أن أسم (إيران) هو حديث (منذ عام 1935)، لما كان يطلق عليه أسم بلاد فارس، وإيران أسم فني يعني الآريون ولكن ليس جميع شعوب إيران آرية، ولا توجد منطقة جغرافية محددة أسمها إيران، والفرس ليسوا أكثرية مطلقة، وهناك ثقافات عريقة لشعوب أخرى في المنطقة التي يطلق عليها إيران. مع العلم أن الفرس يزعمون أن كل هذه الشعوب هي فارسية : العيلامية، الساسانية، البارثية، ولا يعرف ما إذا كانت لها لغاتها الخاصة أم لا ..
وبلاد فارس، خاضت منذ القدم، حروب وصراعات (أسبابها كثيرة) وبلغ بهم الطموح إلى دخول آسيا الوسطى، والاحتكاك بحضارة الاغريق التي كانت تتأسس على أرض اليونان، شبه الجزيرة الهيلينية وجزر بحر إيجة والمتوسط، ولكن هذه المغامرة انتهت بسلسلة من الخسائر، ردت إلى أراضيهم، ولكن الأغريق لم يكتفوا بصدهم، والأنتصار عليهم في آسيا الصغرى (تركيا) بل ولاحقوهم، حتى انتصروا عليهم في معركة ساحة على أرض العراق (في سهل أربيل)، في معركة كبيرة فاصلة أطلق عليها معركة (غوغميلا ــ Gaugamela ) ثم لاحقوهم إلى أرض فارس ويددوا هناك فلولهم وكذلك دولتهم، وأقاموا دولة هيلينية في بلاد فارس، وبعد وفاة الاسكندر المقدوني، تأسست الدولة السلوقية خلال قرنين (الثالث والثاني ق.م). ثم كانت هناك دولتان فارسيتان : البارثيين، والساسانيين، حتى الفتح الإسلامي 651 . فخاضوا معاركهم مع المسلمين، وفي العصور اللاحقة كانت صراعاتهم تتركز مع العرب قبل وبعد الإسلام، ثم مع الأتراك العثمانيين، (وغيرهم) فدارت رحى معارك كثيرة.
وهذا البحث نركز على تلك الحروب التي دارت على أرض العراق، مع العرب المسلمين، ومع العثمانيين، والعراقيين، وهي حروب كثيرة، إلى عدد لا يحصى من الصراعات والاشتباكات مما تطلق عليها معاهد السلم والأمن " أشباه الحروب " (war-like condition) وقد نلاحظ أن لحروب الفرس في العراق لها طابع لها صفة الهزيمة الساحقة، بدرجة يتقرر على أثرها غالباً مصير الدولة الفارسية.
من المؤكد أن للفرس أسبابهم العميقة في أن يكون العراق خاصة (وغير العراق عامة) هدفاً لأطماعهم، والأطماع هي ليست كما يعتقد في التحليل السطحي، هو إقامة دولة كبيرة، نعم هذا كان الهدف منذ أقدم العصور وقبل أن يكون هناك سنة وشيعة وعرب وإيرانيون (قلنا أن كلمة إيران لم تكن موجودة)، التوسع شرقاً (بالتحديد) هو مبدأ تقوم عليه دولة الفرس في الوصول إلى الأنهار والمضائق والبحر المتوسط، فإيران (الفرس) يجدون أنفسهم بين فكي كماشة .. ويشاء قدر الفرس أن يكونوا جغرافياً، بين أمتين قويتين، لها تاريخ وتراث وثقافة : العرب والترك ... والفرس يجدون في أنفسهم مستحقات أمة عظمى، وأن تكون هذه الأمة هدفها التوسع .. درءأ لمخاطر التمزق الداخلي تجمع الشعوب الغير قائم على مبدأ، أو معطى تاريخي (جغرافي، قومي، ديني).. وهذا مدخل لدراسة كبيرة، ويركز بحثنا هذا على حروب الفرس في العراق.
والعقل السياسي الفارسي محكوم بالتطلع والاستيلاء على الغير وهذا الأمر أبعد من العداء الفارسي / العربي، وأبعد من الإسلام وانتشاره في خلف زاغروس، وملالي أيران اليوم يضعون نوايا العدوان والتوسع بظهر الدين، أو الانتقام من الفتح الإسلامي، ولكن قراءة بسيطة وسطحية للتاريخ تظهر زيف هذا الزعم، الفرس يفعلون هذا لدواع وأسباب الأمن القومي (لا نناقش صحتها أو خطأها) لا للدين ولا للثأر من العرب، فهذه كلها مزاعم تدحضها وقائع التاريخ المادية.فلنأت إذن على المعارك الحديثة ، منذ العصر الإسلامي فصاعداً.
يمكن تسجيل معركة ذي قار وهناك تفاوت في سنة حدوثها ولكن من المرجح أنها حدثت في بداية البعثة النبوية 600 ميلادية، لأسباب سياسية هي أن العرب في وادي الرافدين بدؤا يتطلعون إلى دور أخوانهم في نجد والحجاز، وإلى الدعوة، والأنباء الأولى لإقامة الدولة الإسلامية، وكما طرح انتصار العرب في ذي قار هدف فتح العراق في مقدمة أهداف الدولة الإسلامية، لذلك، فإن أنتصر العرب في ذي قار تحدث عنه الرسول الكريم بقول " هذا يوم أنتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا " .
الأجواء السياسية للمعركة :
كان العرب في العراق وسورية متفرقين مشتتين، بين قوتين الدولة العظمى الرومية، والفرس، وكان الغساسنة في بلاد الشام، والمناذرة في بلاد الرافدين، كل طرف منهم يحاول الحصول على مكاسب على حساب الطرف الآخر، استناداً واعتماداً على القوى التي يحتمون بها، وكانت القوى الدولية بدورها يسرها هذا التمزق لتستفيد من عرب العراق ككيان وسادة ناقص السيادة بينها وبين الروم، فيما يستغل الروم الغساسنة كدولة وسادة بينها وبين الفرس بلاد الرافدين، وهكذا كانت تدور صراعات لا يستفيد منها العرب، بل كانت تدور لصالح القوى المحتلة.
والفرس من أجل أن بستحكموا بالموقف في بلاد الرافدين، أتبعوا " سياسة فرق تسد " فأخذوا يقربون قبائل عربية ويغدقون عليها، ويعرضون مذهبهم " المزدكية "، وتمكنوا بأتباع سياسة الترهيب والترغيب من كسب بعض الموالين لهم من القبائل العربية (وهي سياسة تتميز بالكسب السريع المؤقت، ثم فقدان المكاسب بسرعة مماثلة). ولكن قادة القبائل ضاقوا ذرعاً بالغطرسة وبإجراءات الإدارة الفارسية التي كانت تنهب البلاد وتظلم السكان، وأبتدأ مسلسل المناكفات، وحاول الفرس ارغام العرب أنهم تحت السطوة والسيطرة، وهذا كان يقابل بالإذعان حيناً والرفض السلبي أحياناً، وتراكم السخط يوصل للثورة ... وبصرف النظر عن الأسباب والتفاصيل، فإن لحظة الصدام المسلح وهي مرحلة تتجاوز السخط، والرفض، وعدم التعاون، قد حلت وفي المعركة تمكنت القبائل العربية بقيادة المثنى بن الحارثة الشيباني، من كسر شوكة الفرس، الذين وإن لم يغادروا العراق نهائياً، إلا أن نفوذهم تقلص بدرجة كبيرة، بنتيجة معركة ذي قار، ومؤشراً على ابتداء مرحلة النهوض المعادي للفرس بتقدم الدعوة الإسلامية وهيمنتها على شبه الجزيرة العربية.
إذا كانت المعارك الحربية تقاس وتحسب بنتائجها السياسية، فمعركة ذي قار بهذا المعنى كانت تنطوي على أهمية بالغة ونتائج ذات أبعاد قريبة وبعيدة. فعلى صعيد النتائج القريبة، كانت بداية نهاية الوجود الفارسي في العراق ، وهو وجود يفتقر إلى أسس وجذور هو ما يجعل وجوده يتسم بالقلق والاضطراب وصعوبة استيلاءهم على العقل والوجدان العربي حتى في مراحل قبل الإسلام، وصعوبة تجاوزهم لعقبتين رئيسيتين :
• عشق العرب للغتهم ومنها يتفرع ولعهم في فنون اللغة : الشعر، النثر، الجناس، الطباق، وفن الكلام، والرواية، ونقل الأخبار. وساهمت اللغة في تعميق الوحدة الاجتماعية والسياسية، وقادت إلى أن تصبح اللغة العربية مؤسسة من مؤسسات الوجود العربي المميز.
• أعتزاز العربي التقليدي بأنتماؤه القبلي (العشائري) وقد تكرست عبر العصور لتصبح جزء من المنظومة الدفاعية الذاتية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، منظومة تمثلت بممارسات وتقاليد وقيم التي تمارس في مضيف القبيلة، وهي أداة لاستحصال موحد الأراء حول الموضوعات المطروحة، ولهذه جانبها الإيجابي المتمثل كجدار مصد لمحاولات التسللل إلى المجتمعات العربية. ورغم أن ثقافة العشائر لا تعتبر انغلاقاً، بل هي منفتحة على وافدين كثر إلي البلاد العربية.
وهذه جميعها قبل أن بزوغ فجر الإسلام الذي عزز الهوية السياسية والثقافية، وأوجد نظرية سياسية متقدمة وهي الولاء للدولة الإسلامية، وهذه ستكون في المراحل اللاحقة (بعد فتح مكة وتوحيد شبه الجزيرة العربية) العنصر الأهم في أساس بناء الدولة العربية الإسلامية، لتتكامل المنظومة في جانبها الثقافي / الاجتماعي / الإيماني ــ الاعتقادي. وهي عناصر ستبلور خصائص البلاد العربية : الزراعة ( وادي الرافدين ــ النيل)، والتجارة والترانزيت، استخراج اللؤلؤ في الخليج. وهي سمات منحت المجتمع العربي ملامحه وخصائصه الدقيقة المتميزة. جعلت من الصعوبة على قوة أجنبية أن تفرض هيمنتها الثقافية أولاً، بما في ذلك ثقافات الدول الاستعمارية الكبرى.
لهذه الأسباب لم يتمكن الفرس مطلقاً من تأسيس تواجد مقبول من أهل البلاد، وعرب العراق وإن كانوا على غير دين الإسلام، إلا أنهم لم يتقبلوا الديانة المزدكية، كما لم تنتشر الزرادشتية، ولم تصبح مذهبا نافذا برغم سياسة الترهيب والترغيب التي مارسها الفرس. ولما بلغ التناقض أشده، انفجرت على شكل انتفاضات مسلحة كانت معركة ذي قار إحدى ذراها، وسوف تتواصل بعد الفتح الإسلامي بمعارك عديدة تنهي بتحرير العراق على يد القبائل العربية العراقية المتلاحمة مع الجيش الإسلامي القادم من شبه الجزيرة العربية.
ــ ذات السلاسل : 12 هـ / 637 م
جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد / الفرس بقيادة هرمز الذي قتل في المعركة.
ــ المذال : 12 هـ / 637
جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد / خسر الفرس 30 ألف قتيل في المعركة.
ــ الولجة : 12 هـ / 637 م
جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد / الفرس بقيادة الأندزغر (مات عطشاً).
ــ اليس : 12 هـ / 637 م
جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد / الفرس بقيادة بهمن جاذويه ، خسروا 70 ألف قتيل.
ــ القادسية : 15 هـ / 636
جيش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص / الفرس بقيادة رستم (قتل في المعركة). كانت معركة حاسمة أدت نهاية النفوذ الساساني في العراق.
ــ بهشير : 14 هـ / 639 م
جيش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص، وبأمرته القائد زهرة بن حوبة.
ــ المدائن : 16 هـ / 637 م (على نهر دجلة)
جيش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص، جيش الفرس يقيادة شهبان وهثان.
ــ نهاوند (فتح الفتوح) : 21هـ / 642 م
جيش المسلمين بقيادة النعمان بن مقرن (أستشهد خلال المعركة) / جيش الفرس بقيادة الفيروزان (قتل). وبانتصار المسلمين، انتهى حكم الدولة الساسانية في إيران، بعد أن دام حكمها 416 عاما.
والفرس لم يدخلوا بغداد وهذه ملاحظة تستحق الانتباه ...! إلا كحاشية للمغول في 1258م، وكمتواطئين، بمساعدة الوزير العلقمي الذي كان يراسل المغول الذين كانوا على الوثنية، ليدخلهم إلى دار الخلافة، والمغول لم يحترموا فعلته هذه، فصرفوه بقليل من الاحترام بعد أن أرضوه بدراهم معدودة. ولكنه عاش بقية عمره منبوذاً. وهذه عبرة تستحق التأمل.
والعراق بسبب مزاياه السياسية والاقتصادية والثقافية، أصبح بعد 1258 ملعباً لإرادات قوى أجنبية وساحة منازلات بينها. فالشعوب التركية تمكنت من تطوير أداتها السياسية من قبائل تركية، نجحت بتأسيس كيانات سياسية كالسلاجقة، إلى دولة مركزية بقيادة آل عثمان، الذين تمكنوا بالدهاء والحنكة السياسية، واستخدام ناجح للقوة العسكرية، وتأسيس سلطنة كمواصلة للخلافة الإسلامية بعد سقوط الدولة والخلافة العباسية.
تأسست الدولة الفارسية الحديثة عام 1501 على يد الصفويين المنحدرين من أرومات مختلفة : آذرية / تركية، وكردية وتركمانية، وأختلطوا بالشركس والجورجيين، واليونانيين. وحين أزاحوا السلالة التيمورية بسهولة نسبياً، لضعف ملوكهم، ولكثرة الانشقاقات بينهم. وكان الأتراك العثمانيون في اقصى درجات قوتهم، يتقدمون غرباً في اوربا ويكسبون مواقع جديدة. والبلاد التي كانت تحت سيطرة الفرس كانت ترقب الانظمام إلى دولة الخلافة، فأدرك الصفويون الطموحين ضرورة توحيد البلاد تحت عصبية تتمكن من الوقوف بوجه العثمانيين، ولكي لا يدينوا بالولاء للخلافة الإسلامية، فأعتبروا أن المذهب الشيعي هو القائد للدولة، وأخذوا يفرضون التشيع بالقوة والإرهاب، على مواطنيهم، ومواطني الدول التي يدخلونها، لذلك باشروا بحملات تطهير طائفية وعرقية، وفعلوا كل ما يقضي على احتمال أن تكون بلاد فارس جزءاً من الامبراطورية الإسلامية.
وكان الاتراك العثمانيون يرون في أوربا ساحتهم الرئيسية وميداناً لتوسعن السياسي والديني، ولم تكن البلاد العربية والإسلامية في حساباتهم التكتيكية والاستراتيجية، إلا أن الفرس أعتبروا أن خصوم العثمانيون حلفاء لهم، وهكذا مثلوا الاحتياطي الجاهز في خطط الأوربيين وحتى روسيا القيصيرية، لذلك ابتدأت المناكفات، تتحول إلى صراعات مسلحة، فتحول العراق خاصة إلى ساحة صراع مسلح، لذلك دار العديد من المعارك العسكرية الصغيرة والكبيرة، كانت الغلبة فيها للعثمانيين على الأرجح، إلا أن الإجمالي العام للمعارك كان أن أخرج العثمانيون إيران من العراق..
عام 1535، بلغ مسامع السلطان سليمان القانوني ما يفعله الفرس في العراق، فقرر على التدخل وإخراج الفرس من العراق، فدخل الجيش العثماني العراق من جهات تبريز، ودخل بغداد بدون مقاومة، ومن ثم أحتلوا الموصل ثم سائر المدن العراقية، ، وزالت دولة الصفويين في العراق بعد أن هيمنوا عليه تقريباً لمدة 25 سنة.
ودارت بين الأتراك العثمانيون والفرس معارك صغيرة وكبيرة، وفي إجمالها انتهت سيطرة أو نفوذ الفرس على العراق، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وطالما كان العراق تحت النفوذ البريطاني، تجنبت (إيران) أي محاولة لتعكير الأمن والسلم، ولكن ما أن فقدت بريطانيا نفوذها السياسي على العراق مع ثورة 14 / تموز / 1058، ابتدأت إيران دون توقف بإثارة المشاكل من كل نوع وصنف، وهذه ملاحظة تستحق الأنتباه والتسجيل ....!
يسجل بعض مسجلي التاريخ الكرونولوجي، أن الصراع العثماني الفارسي هي حرب واحدة بأسم: الحرب الفارسية العثمانية (1623 ــ 1639)، وهي صراع حاولت فارس أن تهيمن على العراق، ولكن ما كان يحول دون سيطرتها التامة، أنه كانت غير مقبولة من الشعب العراق، لأسباب عديدة، في مقدمتها الأساليب الفارسية الهمجية الوحشية، وفي إرغام الناس على اتباع التشيع، ولولا أن العثمانيون كانوا يعتبرون أوربا هي ساحتهم الأساسية، لكانوا احتلوا بلاد فارس بأكملها.
وفي البداية كانت مطامع الفرس في أرمينيا، والتنافس الفارسي / العثماني ابتدأ منذ عام 1514 بصورة اشتباكات متواصلة في القوقاز، وتقع جبال القوقاز السفلية في منطقة الشرق الأوسط الكبير. حيث تعتبر هذه المناطق الحد الفاصل بين أوروبا وآسيا.
ويعد القوقاز من أكثر المناطق تنوعاً ،م الذي يضم أمم وقوميات صغيرة ومن الناحيتين اللغوية والثقافية على وجه الأرض. يتألف القوقاز من القوميات : الجورجية والأرمن والأبخاز، وأوسيتيا. أما القوقاز الروسي فيتألف من كراسنودار كراي، ستافروبول كراي، أديغيا، قراتشاي، تشيركيسيا، قيردينو، الشيشان، إنغوشيا، أوسيتيا انغوشيا، أوسيتيا الشمالية، وداغستان.
وتتنافس روسيا مع الفرس والعثمانيين الأتراك في الهيمنة على المنطقة منذ ذلك الحين وإلى الآن، والأتراك العثمانيين كانت القومية التركو مغول (Turco mongol) والديانة الإسلامية، عاملاً يشد الشعوب التركية منذ ذلك الوقت وحتى العصر الحالي (رابطة الشعوب التركية): تركيا، أذربيجان، أوزبكستان، تركمانستان، كازاخستان قيرغيرستان، قبرص.
كما تمكنت روسيا منذ العهود القيصرية من فرض وجودها السياسي والثقافي (اللغوي والديني المسيحي) على بعض مناطق القوقاز، ولاحقا في عهد الاتحاد السوفيتي أضافت عاملاً إلى عناصر السيطرة على المنطقة بفعل هيمنتها السياسية (النظام الاشتراكي). فيما لم تنجح إيران في مد إشعاع سياسي أو ثقافي أو ديني في المنطقة، لذلك كان سبيلها لفرض وجودها هو إثارة الصراعات المسلحة، وإقامة التحالفات مع جهات من خارج المنطقة.
كانت معركة جالديران 1514 في أقضى شرق الأناضول، قد وضعت نهاية للمعارك الفارسية / العثمانية في هذه الأرجاء، ولكن المعارم نشبت من جديد عام 1578، وأنتهت بتوقيع معاهدة اسطنبول عام 1590 لتكرس الانتصار العثماني وأحتل العثمانيون جورجيا ويرفان، وحتى العاصمة الصفوية السابقة تبريز. ولكن الفرس ما زالوا يضعون أنظارهم على العراق، وقام العثمانيون بأحتلال بغداد عام 1534، وتكرست أنتصاراتهم بمعاهدة أماسيا عام 1555.
ولكن الفرس لا يحافظون على اتفاقاتهم وتعاهدهم حين يجدون من العثمانيين تهاوناً، أو انشغالاً في مواقع أخرى، أو وجود تمرد وأرتباك ضمن الدولة، ولهذا قام الشاه الصفوي عباس بأحتلال بغداد عام 1624 بعد أن تذبذبت العلاقة بين الحاكم العثماني لبغداد مع العاصمة أستانة، وأقام فيها المجازر لسكان المدينة عازماً على إحداث تغيرات ديموغرافية (لاحظ تشابه الأساليب).
لكن العثمانيون لم يكونوا ليسمحوا للفرس انتهاز الفرص، فتواصل القتال، والمعارك كانت تنتهي على الأرجح لصالح العثمانيين، حتى عقدت اتفاقية قصر شيرين ، المبرمة في 17 مايو ــ أيار / 1639، والتي قضت بالتسوية النهائية للحدود العثمانية الفارسية، إلا أن الحدود التي قضت بها المعاهدة لا تزال حتى يومنا هذا تشكل الحدود الغربية لإيران مع العراق وتركيا . وفي العراق أستقر الموقف على ذلك حتى دخول الإنكليز في الحرب العالمية الأولى.
وقد أستغلت إيران بأختلاف حكامها وأنظمتها، التوسع، والسيطرة على شيعة العراق والعرب بصفة عامة، وحين حاولت إيران مد نفوذها الديني نجحت جزئياً حين تمكنت من الهيمنة على قيادة المذهب الأثني عشر (المرجعيات)، وجعلته المذهب الأكثر رواجاً (بوسائل سياسية)، مقابل المذهب الشيعي الاسماعيلي، والمذهب الشيعي الزيدي، بيد أن هذه المحاولات لم تنجح كلياً، إذ أصطدمت أيضاً بالقضية القومية، ففشل فشلت كبيرا في أذربيجان الشيعية / التركية، ولم يحقق النجاح التام في البلاد العربية، أما وبعد تجربة العراق وسورية ولبنان فهذه السياسة في طريقها إلى الفشل التام.
3086 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع