القطار وحديث الذكريات

                                                         

                الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
                   أستاذ متمرس/ جامعة الموصل

    

القطار وحديث الذكريات

للقطار مكانة خاصة ومُمَيزة لكل من عاصره واستخدمه في رحلاته، ولرحلة القطار سماتها الخاصة وذكرياتها، حتى أن مسيرة الحياة تُسمى (قطار العُمر)، قال الشاعر:

تمَهَّلْ - قِطارَ العُمْرِ - وَاجْبُرْ فؤادِيا ... فلا زادَ عِندي إنْ أتيتُ حِسابيا
ظننتُ رُكوبَ الدَّهْرِ دونَ مَحطَّةٍ ... فخُضْتُ غِمارَ العَيشِ أعْبَثُ لاهِيا

وترتبط رحلة القطار بالذكريات، وقد وردت ذكرياتها في العديد من الكتابات. ومن طرائف الدكتور علي الوردي (1913-1995) عن القطار: "حدث لي في العام 1939 أن كنتُ مسافراً مع زملاء لي من الطلاب إلى بابل، وفي القطار تشاجر أحد زملائي مع أحد الجنود وصفعه على وجهه. وشاء سوء الحظ أن يكون القطار مملوءاً بالجنود، فانتشر بينهم الخبر، وتجمعوا يريدون الأخذ بثأر زميلهم منا، بلا تفريق، كان كل جندي يحاول البحث عن أي طالب ليعتدي عليه، ولكن القدر ساعدنا في اللحظة الأخيرة فنجونا بجلودنا، واطلقنا سيقاننا للريح لا نلوي على شيء.. كان الجنود من قبائل مختلفة، ولكن (العصبية الجندية) هي التي سادت بينهم في تلك الساعة، فأصبحوا كأنهم قبيلة واحدة تجاه قبيلة أخرى معادية لهم هي قبيلتنا نحن الطلاب المساكين!".

وحدثني صديق (ص) عن أُستاذة كان مشهود لها بالحزم في جامعة الموصل، ولتكن (س)، وكان هو قريب لزوجها. يقول الصديق (ص): "سوف أقص عليكم حكاية عن قوة وحزم وشدة الأستاذة (س) تجاه طلبتها، حيث كانت شديدة ولكنها كانت تعطي الدرس حقه وتؤدي واجبها على أحسن ما يكون.

في سنة ١٩٧٥ كنت ذاهبا بالقطار إلى بغداد لكي أؤدي امتحانات البكالوريا للصف السادس الإعدادي حيث كانت مدرستي في بغداد، وقد لعبت الصدفة أن يوم سفري كان آخر يوم لامتحانات جامعة الموصل، وكان امتحان مادة الأستاذة (س)، والظاهر كان الامتحان صعبا على الطلاب.

جلستُ في القطار الذي مليء بطلبة من بغداد والمحافظات الجنوبية وهم عائدون إلى أهاليهم، وكلنا نعرف أن الطلبة عندما لا يجاوبون على نحوٍ جيد في الامتحان كانوا يتحدثون سلبيا عن الأساتذة، فكيف إذا كانت الأستاذة هي الأستاذة (س) المعروفة بحزمها على الطلبة الذكور الذين كانوا يهابوها؟

أخذ الحديث عنها من قبل الطلبة يصول ويجول من أول عربة القطار إلى آخرها، وأخذ البعض يقلِّد عليها وأنا أسمع ما يقولون ولا أستطيع أن أفعل شيئا. ثم جاء قاطع التذاكر (التيتي)، وكنتُ جالسا قرب الجام في عربة القطار، وكان الجالس بقربي طالب أيضا. فأعطيتُ التذكرة والهوية كون تذاكر الطلاب في ذلك الوقت مُخفضة بنسبة ٥٠ بالمئة، حيث يجب أن يتأكد (التيتي) من أن صاحب التذكرة هو طالب، وبطبيعة الحال فإن اسمي موجود بالكامل مع لقب العائلة والذي هو نفس اللقب الذي تحمله الأستاذة (س).

قرأ الجالس بقربي إسمي في الهوية قبل تسليم التذكرة للتيتي وعرف لقبي العائلي، وعلى الفور أرسل رسالة خاطفة لمن حوله بأني من أقرباء الأستاذة (س)، ففعلتْ تلك الرسالة الشفهية فعلها في عربة القطار، فعمَّ السكوت التام بين الطلاب والطالبات، وقُطعت الأصوات ولم يعد أحد يذكر الأستاذة (س) بأي كلمة وكأنهم أصابهم الصم والبكم وتوقف الحديث عنها تماما.

وعند وصول القطار إلى محطة حمام العليل كان الطلبة يُنبهون الذين يصعدون من محطة حمام العليل من طلبة كلية الزراعة والغابات بوجود قريب للأستاذة (س) في عربة القطار. والذي اذهلني أنني أصبحت مزار لركاب عربة القطار، فكان الكل يمر ويقف قرب الشخص الجالس بجانبي ويتحدث معه وينظر إليَّ حتى أصابني الخوف منهم من أن يعتدون عليَّ ثائرا من زوجة عمي، ولكن الموقف عدا بسلام، علما بأني لم أكن أعرف أحد من هؤلاء الطلبة الذين أصابهم الخوف أكثر مني".

القطار وحمام العليل:
لأهل الموصل ذكريات جميلة مع حمام العليل و (تل السبت) المجاور لها والقريب من ساحل نهر دجلة، ويطلق الموصليون علي حمام العليل اختصارا (حمام علي).

تقع مدينة (حمام العليل) 30 كم جنوب مدينة الموصل، وهي مُطلَّة على الضفاف الغربية لنهر دجلة، وتشتهر حمامها بجودة مياهها المعدنية الساخنة صيفاً وشتاءاً والغنية بالكبريت.

وكان القطار أيام الزمن الجميل يتحرك من الموصل إلى بغداد، وبعد 25 كيلومترا يصل إلى (حمام العليل) التي يقصدها الناس للاستشفاء من الأمراض الجلدية وللاستجمام، وقد ألّف عنها الأستاذ الدكتور محمد صديق الجليلي كراسا بعنوان "الاصطياف في حمام العليل".

وكان الناس يستقلون القطار ويفضلونه عن السيارات لأنه أمين وتوقيتاته مضبوطة وأسعاره مناسبة، وعند وصول القطار إلى (حمام العليل) يصيح بصافرته العالية للتنبيه. فحفظ الفولكلور الموصلي تلك المشاهد والأحداث، وما يرافق تلك الرحلة الجميلة من صورة وأحاسيس بالأغنية الفولكلورية التي يقول مطلعها (باللهجة الموصلية):

صاح القطار قومي انزلي... كن وصلنا حمام علي
دطلع على تل السبت... معاي هرجي وكم بنت
نغني ونفرح كل وقت... يالله يا حلوة هلهلي

وقد غنى هذه الأغنية بعد إجراء تحويرات عليها الرائد ذو الأصول الموصلية محمد عبد المحسن (1930-1983) والذي أستشهد في حادث انفجار إذاعة بغداد عام 1983.
https://www.youtube.com/watch?v=2Wkr2pRRTAg

العراق والقطار بين الأمس واليوم:

لقد كان العراق من أوائل دول المنطقة التي سار على أرضها القطار، فسار منه خط الاكسبريس الأوربي عبر تركيا ( قطار طوروز) وكان يربط العراق بألمانيا (خط برلين). وقد بنى الألمان سكك الحديد في العراق سنة 1914، ثم طورها البريطانيون سنة 1916 أثناء استعمارهم للعراق.

وكانت أول رحلة من بغداد إلى (سميكة الدجيل) إلى الجنوب من مدينة سامراء عام 1914، بينما تم تسيير أول قطار بين بغداد والبصرة عام 1920، وأول قطار بين بغداد وكركوك عام 1925، وأول قطار بين بغداد والموصل عام 1940، وأول قطار من العراق إلى محطة (حيدر باشا) في اسطنبول في العام 1940.

ونتيجة لظروف عدم الاستقرار التي مرّت بالعراق، فقد توقفت العديد من خطوط سكك الحديد وقاطرات الركاب والبضائع منذ سنة 2010 وأصابها الشلل التام.

وعند سفري في الصيف الماضي إلى تركيا لاحظت الاستخدام الواسع النطاق للقطارات الكهربائية الحديثة التي تتسم بالعديد من المزايا الفريدة من أمان ورخص وراحة تامة ونظافة بيئة وسرعة تصل إلى 250 كم/ساعة أو أكثر. وتخترق قلب المدن ومراكزها وأسواقها شبكة ترام (قطار) كهربائي ذو أربع عربات وبحيث لا توجد أي ازدحام للمركبات، إذ يصل قطار ترام بواقع كل ثلاث الى خمس دقائق. ويكون الدخول إلى موقف الترام عن طريق كارت الكتروني خاص يتم تفعيله في مكان قريب جدا.

كلنا أمل أن يقوم العراق بإعادة الحياة إلى خطوط السكك الحديد، كما نأمل أن يقوم العراق بتوسيع شبكة السكك الحديد وربطها ببعض دول الجوار، بالإضافة إلى مشروع مترو في المدن الكبيرة للتخفيف من شدة الازدحام.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1044 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع