عوني القلمجي
حكومة عراقية ام فرقعة صوتية؟
"أطلقت القوات العراقية المشتركة السبت عملية عسكرية واسعة في محافظة البصرة الجنوبية، لنزع سلاح العشائر المنفلت وملاحقة واعتقال عصابات الخطف والمخدرات".هذه الكلمات هي مقدمة البيان العسكري الذي اذاعه علينا رجالات مصطفى الكاظمي. وقد اطلق على هذه العملية العسكرية اسم الوعد الصادق، على امل اقناع العراقيين بصدق وعوده عموما، وثوار تشرين خصوصا. حيث كان نزع سلاح المليشيات والعشائر احد المطالب الرئيسية لثوار تشرين، لما ارتكبته هذه المليشيات من فساد وجرائم وقتل في وضح النهار.
قرار الكاظمي باختزال نزع السلاح المنفلت بالعشائر، وفي محافظة واحدة هي البصره وتحديدا في جنوبها، وتجاهل سلاح المليشيات المسلحة الموالية للولي الفقيه الايراني علي خامنئي الذي يفوق سلاح مليشيا واحدة منها اضعاف مضاعفة سلاح العشائر مجتمعة له سبب واضح. فهذ المليشيات هي من منحته الثقة في البرلمان، في حين اسقطت قبله مرشحين لرئاسة الحكومة محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي. بل اكاد اجزم ان الكاظمي لم يفكر اصلا بنزع سلاح هذه المليشيات، ولا التحرش بها حتى من باب ذر الرماد في العيون. ومع ذلك فالنتائج التي خرجت بها هذه الحملات العسكرية في جنوب مدينة البصرة تدعو للسخرية والاستهجان. اذ لم تتعد حسب البيان العسكري: "إلقاء القبض على 10 مطلوبين وفق مواد قانونية مختلفة والعثور على 3 أكياس من مواد سي فور وتي ان تي المتفجرة، وزورق و12 غرام من المواد المخدرة ورشاشين و7 بنادق نوع كلاشنكوف و3 أخرى وبندقية قنص مع ناظور وقاذفة 40 ملم ومسدس فضلاً عن مجموعة من 7 حاويات عتاد أحادية 12ملم، كما تم العثور على بندقيتين وصاعق". في حين شاهد العراقيون بام العين نوع الاسلحة التي تستخدمها العشائر في نزاعاتها، والتي تشمل اسلحة متوسطة وثقيلة ومدفعية. وقد اكد هذه الحقيقة قائد شرطة مدينة البصرة رشيد فليح، الذي قال في مطلع العام الماضي ان السلاح الذي بيد بعض العشائر يفوق اسلحة فرقتين عسكريتين. اما التقديرات الحكومية فقد قالت ان ما تمتلكه العشائر من قطع السلاح زاد عن سبعة ملايين قطعة.
هذه النتائج البائسة لم تكن مفاجئة، فالكاظمي يعلم علم اليقين بان هذا السلاح اكتسب شرعيته من الدولة فهي من سهلت الحصول عليه وحرصت على حمايته. وليس كما يروج البعض بان العشائر قد بذلت جهودا من اجل الحصول عليه للدفاع عن النفس، جراء عدم قدرة الدولة على حمايتهم. حيث يعلم القاصي
والداني بان الدولة التي اقامها المحتل الامريكي حينها كانت قوية ومدعومة من مئة وستين الف جندي، اضافة الى مئتي الف مرتزق من الشركات الامنية المعروفة ببلاك ووتر، وهذه القوة المحتلة تمتلك احدث الاسلحة والتكنولوجيا واكبر الاجهزة الاستخباراتية في العالم وقادرة على هزيمة اكبر الجيوش الاقليمية في المنطقة. بل ان دولة الاحتلال لا تزال مدعومة من هذا المحتل الامريكي ووصيفه الايراني وقادرة ان شاء اسيادها نزع كل هذه الاسلحة في ساعات معدودة. بمعنى اخر ان الحكومات التي نصبها المحتل لم تكن ضعيفة، وانما كانت هي من سمحت بل وشجعت هذه العشائر والمليشيات المسلحة على التغول المسلح لتكون قوة اضافية لمساعدتها على البقاء في الحكم من جهة ومن اجل قمع اية انتفاضة او ثورة ضدها من جهة اخرى. وخير دليل على ذلك تصدي هذه المليشيات بقوة سلاحها المنفلت لثوار تشرين وقتل اكثر من تسعمائة شهيد وجرح اكثر من ثلاثين الفا. والا ما معنى عدم تطبيق هذه الحكومات مشروع "حصر السلاح بيد الدولة"، رغم تضمين هذا الملف في برنامجها؟. ثم الا يكفي الحكومة ما تتكبده العشائر من ضحايا جراء النزاعات التي تحصل بينهم لاسباب تافهة احيانا بدل اللجوء الى القضاء لحسمها؟
هذه المسرحية السوداء التي يعرض مصطفى الكاظمي فصلها العسكري البائس، قد تم عرضها من قبل اسلافه، لتنتهي دون نزع طلقة واحدة من يد هذه المليشيات المجرمة او مجاميع العشائر والقبائل الخارجة على القانون. مثلما تم تجاهل حجم الفساد المالي والاداري الذي ينخر جميع مؤسسات الدولة ومفاصلها، او غض النظر عن معاقبة الفاسدين. وكان رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي سلف الكاظمي قد اكد هذه الحقيقة بصوت عال. فهو قد اعلن في برنامجه الحكومي وبصوت عالي ونبرة حادة واصرار شديد على عزمه تنفيذ مشروع حصر السلاح بيد الدولة وانهاء ظاهرة السلاح المنفلت، ثم اعلن في جلسة علنية للبرلمان العراقي عن وجود اربعين ملف فساد وسرقة 300 مليار دولار من خزينة الدولة طيلة السنين الماضية. لكنه لم يحرك ساكنا لا باتجاه نزع سلاح المليشيات، ولا باتجاه معالجة ملف فساد واحد او استرجاع دولار واحد، على الرغم من تشكيله عدة لجان مختصة. بل على العكس من ذلك تغولت المليشيات المسلحة اكثر فاكثر، وظلت ملفات الفساد فوق الرفوف العالية يعلوها التراب. وقد اعترف الكاظمي نفسه في اكثر من مناسبة بان التركة التي استلمها من سلفه كانت ثقيلة جدا. وبالتالي يمكن التاكيد على ان الدولة العراقية شريكة في كل هذه الجرائم ومشرفة على كل عمليات الفساد بل وحامية لهؤلاء الاشرار، وتتستر على سلاحهم المنفلت.
ان ما يحدث في العراق من جرائم وسرقات ليس وليد الصدفة، وليس بسبب عدم كفاءة او نقص في الذمة او خلل في الضمير، كي يامل الناس استبدال هؤلاء الاشرار او اقصائهم او محاكمتهم، كما لم يكن سببه الجشع والطمع كي تجري
المراهنة على اكتفاء هؤلاء بما جنوه من اموال طائلة، وانما كان نتيجة لمخطط مدروس بعناية فائقة من قبل المحتل، كحلقة هامة من مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا، وان هؤلاء الاشرار قد جرى انتقاؤهم بدقة لتنفيذ هذا المخطط الغادر، ومنع اية محاولة شعبية لاسقاطه. هؤلاء الاشرار، ولكي ينجح هؤلاء الاشرار في تنفيذ هذا المخطط الغادر اتبعوا كل الوسائل، منها اشغال العراقيين من خلال افتعال حروب طائفية واهلية، او تقسيم فئات المجتمع بين مسلم ومسيحي وصابئي، او شيعي وسني، او تقسيم المجتمع الى مكونات، مثل كرد وشيعة وسنة. ليس هذا فحسب، فقد لجأ هؤلاء الى انتهاج سياسة تجهيل المجتمع وحرمانه من المعرفة والتعليم، الامر الذي يحد من قدرته على المطالبة بحقوقه المشروعة، او مراقبة السلطة ومحاسبتها.
ليس هذا فحسب، فهؤلاء الاشرار عملوا بكل جدية على بناء دولة ميليشاوية مسلحة مهمتها زعزعة الامن والاستقرار، والاخلال بمبدأ تكافؤ الفرص بين مواطنيها، وتفضيل فئة على غيرها من المواطنين، والغاء مبدأ المساواة بين الناس، واكثروا من الشروخ والصدوع في نظامها القيمي والأخلاقي، وعطلوا المسارات القانونية، وهدموا البنى التحتية، بالمقابل وأدوا الأفكار النافعة في مهدها، واعتمدوا اجراءات ممنهجة لتغييب العقول لصالح شرذمة قليلة، وفرضوا قرارات صارمة تجاه من يعارضها، ولجأوا لمصادرة الحريات بالسجن والترهيب والتعذيب والقتل لكل من يفضح سلوكهم، ويشكل تهديدا لهم. مثلما منعوا اية محاولة لانهاء المحاصصة الطائفية والعرقية. هذه هي الحقيقة ومن يعتقد بغيرها، فهو اما ساذج سياسيا، او له مصالح حزبية او فئوية ضيقة.
وفق هذا السياق يمكننا التاكيد بكل ثقة، بان هذه الوعود الوردية ستتبخر مع الهواء، كما تبخرت من قبلها وعود اسلافه. فالكاظمي هو نتاج ذات العملية السياسية التي صممها المحتل بعناية فائقة من اجل تدمير العراق دولة ومجتمعا. وبما ان مخطط تدمير العراق لم يكتمل بعد، فان عهد الكاظمي سيسجل صفحة سوداء اخرى لياتي بعده من يكمل جريمة مشروع تدمير العراق. خاصة وان قانون الدمار والخراب هو الذي يقرر اليوم، كما اثبتت الوقائع العنيدة، وفق قانون اسميه الجريمة والثواب وليس كما هو معروف الجريمة والعقاب، لان الحاكم في العراق، وبكل بساطة، لا ينال العقاب جراء جريمة ارتكبها، وانما ينال الثواب عنها، بل كلما زادت جرائمه تضاعف ثوابه، فاذا كان متوسط الحال يصبح مليونيرا، والمليونير يغدو مليارديرا، والمدير يرتقي الى مدير عام، والوزير قد يكون رئيس وزراء وهكذا. اما نوع الجريمة فلا تسال عنها فالجرائم كلها مسموح بها لحكام العراق.
لقد ادرك عموم العراقيين هذه الحقيقة، وتخلوا عن اية مراهنة على الاصلاح في ظل هؤلاء، ولجاوا بدلا عن ذلك الى طريق التظاهرات والانتفاضات الشعبية التي كللوها بشعارات تدين الفساد وتسمي رموزه وتتوعدهم بالعقاب، بل وصلوا الى قناعة بان الحل هو التغيير الشامل وباية طريقة متاحة. ولا يغير من هذه الحقيقة تراجع التظاهرات او الانتفاضات، بسبب انتشار وباء كورونا القاتل، فهذه استراحة مقاتل حيث اوعد الثوار بمواصلة الثورة حتى تحقيق اهدافها كاملة غير منقوصة. بمعنى اخر اكثر وضوحا، فان هذه الحكومة لن تستطيع، من الان فصاعدا، ايهام عراقي واحد لا بوطنيتها ولا بقدرتها على محاربة الفساد ولا في تحقيق اي اصلاح مهما كان بسيطا.
عوني القلمجي
8/9/2020
680 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع