إبراهيم الزبيدي
حين يفقد السوريون الصبورون المعروفون بأنهم كاظمون للغيض آخرَ ما لديهم من صبر ومن قدرة على احتمال المزيد من الفقر والظلم والفساد، ويخرجون إلى الشوارع هاتفين بإسقاط النظام فإن هذا يعني أن سوريا بلغت حدا لم يعد يطاق من الظلم والفساد.
وحين يثور الشعب السوري المدرك لحجم الفرق الهائل بين قوته وقوة النظام ودمويته، ويصمد لأكثر من سنتين على حرب يشنها عليه جيش النظام والشبيحة بالبراميل المتفجرة وقنابل الطائرات وصواريخ سكود، فهذا يعني أيضا أنه قرر أن يخوض المعركة إلى نهايتها، بكل ما كلفه ذلك من دم ودموع، لأنه أعرف من غيره بأن كلفة التراجع أو التهاون أو الاسترخاء أكبر كثيرا جدا من كلفة الصمود. بمعنى آخر. إنه قرر أن يرضى بواحد من اثنين، النصر أو النصر، ولا شيء غير ذلك.
من هنا يصعب القول بأن حسن نصر الله حين أمر بدخول الحرب إلى جانب النظام، في القصير وغيرها، كان يجهل هذه الحقيقة ولا يعرف أن كسرَ إرادة شعبٍ عنيد وجبار من هذا النوع والانتصارَ عليه ليس بالأمر الهين البسيط.
كان موقنا بأن وجود إيران، برجالها وسلاحها وأموالها، وروسيا بصواريخها وثقلها الدولي، إلى جانب النظام كفيل بحمايته ومنع سقوطه، دون الحاجة إلى توريط حزبه في القتال.
ومن أول التظاهرات السلمية المطالبة بإسقاط النظام، وما تلاها بعد ذلك من انشقاقات عسكرية، وظهور الجيش الحر، وبدء المواجهات الدامية، ظل حسن نصر الله يصر على الظهور على الفضائيات ساخرا وضاحكا لينفي تدخل حزبه في القتال، ويبشر بالحوار وبإصلاحات منتظرة على يد السيد الرئيس. وحتى حين قتلت المقاومة بعض مقاتليه في الداخل السوري وكشفت كذبه ونفاقه، وهو السيد المعمم، كذب مرة أخرى وزعم أنهم متطوعون لحماية المواقع المقدسة، تارة، وللدفاع عن العوائل اللبنانية في قرى القصير، تارة أخرى. ولكن حين يقدم حسن نصر الله على اللعب بالمكشوف، ويضطر إلى الزج بأفضل قوات حزبه في المعركة يصبح واضحا أن شيئا جللا قد حدث يستوجب النفير دون تأجيل أو مداراة أو تقية، مهما كلف ذلك من (شهداء الواجب الجهادي)، ومهما أساء لسمعة الحزب الذي بنى أمجاده على مقاومة إسرائيل وتحرير فلسطين. وهذا يعني أيضا أن حسن نصر الله بات موقنا بأن جميع أنواع الدعم الإيراني للنظام لم تعد كافية، وبأن سقوط الحليف بات أمرا واردا وغير مستحيل، كما كان يقول من قبلُ على الفضائيات بكثير من الثقة والسخرية والتشفي. حتى وهو يدرك جيدا أن دخوله الحرب ضد أشقائه السوريين، سواء هزمه الجيش الحر أو هزم هو الجيش الحر، لابد أن يشعل حروبا طائفية في مواقعه الخلفية في لبنانتكلف طائفته ذاتها كثيرا من أبنائها ومصالحها وأمنها إلى سنوات عديدة مقبلة. إضافة إلى ما يعنيه ذلك أيضا، في الجانب الآخر، من إقحام الطائفة الشيعية اللبنانية الصغيرة في عداوة مستقبلية غير متكافئة مع جارها الأكبر والأقوى والأقدر على الانتقام.
إن ما تقاتل إيران في سبيله بكل ما لديها من قوة وسلاح ورجال هو بقاء سوريا منطقة نفوذ وعبور في المنطقة للحفاظ على ترابط حلقات طوقها الاستراتيجي الذي يصل طهران، عبر العراق وسوريا، بشواطيء البحر المتوسط والذي بدونه تصاب أهدافها السياسية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة بالخلل العظيم وربما تشعل النار في عقر دارها. وسقوط النظام السوري يعني حصار الحزب وقطع خطوط إمداده وبالتالي سقوط هيبته في لبنان وكسر شوكته الجارحة التي أقام بها وعليها وجوده كله.
ولعل أسوا ما فعلته إيران هو إضفاء طابع الطائفية المذهبية على معاركها السياسية مع جيرانها، من أجل توظيف الطائفة الشيعية في الدول العربية لخدمة طموحاتها ومصالحها الخاصة القريبة والبعيدة معا. وعلى هذا الأساس حملت أعداءها العرب على التمترس المذهبي بالمقابل، وجعلتهم يستميتون في حرب إسقاط النظام السوري، وبأي ثمن.
إن هذا الحجم من البغض الطائفي وغرور القوة والجهل أعمت النظام الإيراني، وتابعه حزب الله، عن رؤية الثورة السورية على حقيقتها غير الطائفية والاعتراف بكونها ثورة شعب أعزل ومسالم لم يعد يحتمل الظلم والفساد، كان من واجب العمامة التي يضعها على رأسه أن تنصح الظالم وتنصر المظلومن دون الحاجة إلى إشعال هذه الحروف الطائفية المتخلفة المعيبة في القرن الحادي والعشرين.
خلاصة القول، إن الذي مات في القصير هو العقل والضمير وهيبة رجل الدين. أما الذي ولد فيها فهو لهيب الحقد المذهبي المدمر الذي لن تهدأ ناره المتأججة قبل أن تأتي على آخر أواصرالأخوة والجيرة، وعلى العدل والأمن والسلام، ليس لهذا الجيل وحده، بل لأجيال قادمة عديدة من الطائفتين.
1209 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع