د. زكي الجابر
ألصورةُ: أَلشحمُ والوَرَمُ
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
في مزيجٍ فريدٍ بين ’’الأنثروپولوجيا‘‘ والإعلامِ والسيمياءِ تولّدتْ لدينا أدبيّاتٌ تَعمَلُ بينَ الطَرَافةِ والجِدِّيَّةِ والإثارة، ولعلَّ أبرزَ ما تعامَلتْ معه تلكَ الأدبيّاتُ كانَ عن ’’الصورةِ‘‘ وما تقولُ وما لها من تأثيرٍ. ومِمّا وَردَ فيها من المُلاحظاتِ هو أنّ الناسَ كانوا أميلَ إلى تَرجمةِ الصُورةِ إلى واقعٍ وما زالَ عديدٌ من الناسِ هُنا وهُناكَ يَحمِلونَ المَيْلَ ذاتَه، فهو إن سافَر إلَى فَرَنسا وقفَ أمام الكاميرا وبرجُ ’’إيفل‘‘ يتطاوَلُ وراءَه كأنّه يُحاوِلُ نقلَ صُورةٍ رآها إلى حقيقَةٍ ملموسة. إنّه يقتربُ من ذاكَ الذي حَمَلهُ الركابُ إلى مصرَ وانتصَبَ كأبي الهَولِ جَنبَ أبي الهَولِ ليُثبِتَ لأصدقائِه ومَعارفِه وأُسرتِه أنّه كان هناك. لقد تَرجَمَ صورَةَ أبي الهَولِ إلى حقيقة. أبو الهَولِ هُناكَ هو أبو الهَولِ الذي رَأيناُه في المُلصَقاتِ وأفلامِ السينما والكتبِ المدرسيّة، وربَّما كانتْ صناعةُ الإعلانِ خَيرُ مُستثمِرٍ لهذا المَيلِ، فاعتُمِدَتِ الصورةُ ليسَ من أجلِ الصُوَرِ بَلْ من أجلِ أن يُكمِلَها المُشاهِدُ بِشراءِ البِضاعَةِ المُرافِقَةِ لها.
وفي أيّامِنا هذه بدأنا نتعايَشُ مع ظاهرةِ الاكتفاءِ بالصُورِ أو بمعنىً آخَرَ الاكتفاءُ بالخَيالِ. ألم تسمَعْ حكايةَ تلكَ الأمِّ التي كانت تشُدُّ ابنَها بحنانٍ إلى صدرِها وهي تستمعُ إلى جارتِها تقول لها: ما أجمَلَ ابنَكِ، فتعلّقُ الأم: آه لو رأيتِ صورَتَه!
وضِمنَ إطارِ هذا المنحَى نفسِه، منحَى الاكتفاءِ بالصورةِ، طالَما تسرَّبتْ إلينا أنباءٌ هي من بابِ جَسِّ النَبضِ ومعرفةِ رَدِّ الفِعلِ دونَ أن يكونَ هناكَ ما يَسنِدُها من أحداثٍ وقعتْ فِعلاً. وسُوقُ الانتخاباتِ في أكثرِ من بلدٍ صارتْ تعتمدُ صِناعةَ الصورة، يَذهبُ الكثيرونَ إلَى صناديقِ الاقتراعِ ليُصوِّتوا معَ أو ضِدَّ مَن لَمْ يَسبِقْ أن صافَحوه أو اقتربوا من أنفاسِه أو تحدَّثُوا إليه وشاهَدُوه رأيَ العَين. إنّهم يُصوِّتون معَ أو ضِدَّ ذلك الشخصِ الذي نَقَلَتْ إليهم صورتَه شاشاتُ التَلفزةِ والمُلصَقاتُ والصحفُ وواجهاتُ القُمصانِ والشارات.
ولقد قَرأْنا فيما قَرأْنا أنَّ الإنسانَ يستطيعُ أن يقرأَ في وجهِ الإنسانِ، صورةً وواقعاً، تعابيرَ الفرحِ والاندهاشِ والغضبِ والخوفِ والسُخرِيةِ والحُزنِ والاهتمامِ، وربّما تحملُ الصورةُ مزيجاً من العَلاقاتِ، فقد يُطالعُكَ الحاجبانِ المرفوعانِ بالاندهاشِ والشَفَةُ المَضغوطَةُ إلى أسفل بالغضبِ أو الحِقدِ.
وإذا كانَ لا بُدَّ لنا من حديثِ السياسةِ، لأننا في عالَمِنا المُعاصِرِ نشربُ مع السياسةِ ونأكلُ وننامُ، فإنَّ مِن أبلغِ ما نطقتْ به الصورةُ المنقولةُ عَبرَ شاشاتِ التلفزةِ تلكَ المصافحةُ التاريخيةُ بين ياسِر عرفات واسحاق رابين في البيتِ الأبيض. لقد مدَّ عَرَفات يدَهُ ووجهُه ناطقٌ بالانفتاحِ والتردُّدِ، بِنِصفِ الأملِ ونصفِ الابتسامِ، وتأخَّرَ رابين في مَدِّ يدِه، ثم بَسَطَ كفَّه ووجهُه خالٍ من الأملِ والانشراحِ والاقتناعِ، ومع مصافَحَةِ اليَدَينِ تعالَى التصفيقُ، تصفيقٌ تحملُ أصداؤُه القلقَ على سلامٍ هشٍّ حتى كأنَّهُ إرهاصٌ بما سَيحمِلُ الغدُ، والغَدُ هو واقِعُ ما نَعيشُه هذه الأيّام من ضياعٍ وخيبةٍ واستِلاب.
وقَبلَ ذلكَ ثَمَّةَ صُورٌ أُخرَى اكتَفَى المُطالِعونَ بما تَحملُ ملامِحُها من رُعبٍ عندَ مُشاهدتِها واقعاً مُرعِباً. إنها صورةُ مُديرِ شُرطةِ ’’سايغون‘‘ يضعُ فُوهةَ مُسدّسِه على مَقرُبةٍ من صِدغِ إنسانٍ، وَلْنُسَمِّهِ إنساناً مهما كانَ جِنُسه أو هُوِيَّتُه. أهكذا يتحجَّرُ القلبُ فلا ترتجفُ اليدُ؟ أهكذا يتحوَّلُ الآدميُّ إلى وحشٍ كاسرٍ؟
ويُشابِهُ هذا الحديثُ أكثرَ من حديثٍ عن الاكتفاءِ بالصُورِ رأيناهُ في بيوتِنا وتعكّرتْ عواطفُنا قليلاً أو كثيراً، ثمّ هدأْنا وعُدنا إلى سِيرتنا الأولى، نأكلُ الطعامَ ونمشي في الأسواقِ، ونتوالَدُ وتَظَلُّ الرَحَى تدور. هل أذكِّركَ ببعضِها لعلّ في الذكرَى بعضَ النفع. محاولةُ اغتيالِ عبدِ الناصر، تشييعُ عبدِ الناصر، رحيلُ أُمِّ كُلثوم، مصرعُ كَنَدي، مسارُ جَنازةِ كَنَدي، أطفالُ الحِجارةِ، مجاعةُ الصومالِ، ابتسامات الوداعِ الأخيرِ لـ ’’ديانا‘‘!
إن الاكتفاءَ بالصورةِ قد يَنجُمُ عَمّا تُثيرُه الصورةُ من أحاسيسٍ وليسَ بِما تُمثِّلُه من موضوعِ تلك الأحاسيسِ التي تُفجِّرُها الألوانُ وانعكاساتُ الضَوءِ والمحفِّزاتُ البصريّةُ وما تحملُ من تَداعياتٍ. إنَّ العلاماتِ التي تحملُها الصورةُ قد لا تكونُ من مضامينِ الموضوعِ
المُمَثَّلِ، بل إنَّها حصيلةُ إدراكٍ شاملٍ على حدِّ مَقُولَةِ عالِمِ السيمياءِ ’’أُمبيرتو أيكو‘‘ Umberto Eco(1).
ولعلَّكَ تُسائِلُني الآنَ ما ساءلتُ به نفسي: إلى أينَ ينتهي مَسارُنا مع الصورةِ ونحنُ نُشاهِدُ ونتوقَّعُ المزيدَ من تَسارُع ِ’’تكنولوجيا‘‘ التواصُلِ، ’’التكنولوجيا‘‘ التي جَعَلَتْنا نرَى البشَر يَسيرونَ على سَطحِ القمرِ ويَمشُون على الأرضِ في فضاءٍ زمنّيٍ واحدٍ، ’’التكنولوجيا‘‘ التي اختصرتْ المسافاتِ حتى أصبَحْنا نَتعايَشُ في الأوانِ نفسِه مع أحداثٍ على بُعدِ آلافٍ من الأميالِ؟ يتحدث إلينا ’’ريجيس ديبريه‘‘ Régis Debray(2) عن سُلطَةِ الصورة، بل عن سُلطَةِ السُلَطِ بامتياز. لقد دفعَ خوفُ الإنسانِ القديمِ من الطبيعةِ ومفاجآتهاِ وهَلَعُه من المَوتِ وما بعدَ الموتِ إلى إبداعِ الصُورةِ معتمداً على تِقْنِيَةٍ بدائيةٍ قوامُها اليدُ والحَجرُ. لقد أرادَ مقاومةَ الموتِ عن طَريقِ خُلودِ الرَسمِ، ومع تَطوُّرِ الإنسانيّةِ ارتبطتْ الصورةُ بالعِلمِ، وبتَحَوُّلِها مع تَحوُّلات التِقنِيَةِ، وبالأخصِّ ظُهورِ المَطبَعةِ وبدايةِ انتشار المطبوعاتِ وتَوسُّعِ آفاقِ القراءةِ والكتابةِ، وشرعتْ تعبّرُ عمّا في الصدورِ من احتجاجٍ صامتٍ ضِدَّ المَنعِ والقيود. وأخذت تُظهِرُ ما لم يكنْ في الإمكانِ إظهارهُ، فساعدتِ الإنسانَ على أن يكتشفَ مكانَهُ في الكَونِ الفَسيحِ من خِلالِ ’’الكاميرا‘‘ وحركةِ الفِيلمِ السينمائي، ثم يُطِلُّ علينا عصرُ التَلفَزَةِ، حيثُ جلسَ الإنسانُ في بيتِه أمامَ الشاشةِ لِيُشاهدَ الصورةَ بدلاً من الذَهابِ لرُؤيَتِها في المَعارِضِ، وأخذتِ البشريّةُ تواجِهُ خداعَ الصورةِ وتُعاني تَمَلُّكَ الشركاتِ الإعلاميَّةِ الكُبرَى للصورةِ ورُموزِها وتأثيراتِها على المتلقِّين. البشريةُ أمامَ مِحَكِّ قُدرَتِها على التَأويلِ، السياسيّونَ والدبلوماسيّونَ والصحفيّونَ في المُقدِّمةِ يحاولونَ تأويلَ الصورةِ، يتطلَّعونَ إلى ما فيها من دلالاتٍ. لِنَنْظُرْ إلى الصورةِ تقولُ لنا شيئاً عن نجاحِ لقاءِ عرفات – رابين أم إخفاقِه؟ ماذا تعني ابتساماتُ الملايينِ وهم يَرَوْنَ ’’خروشچيڤ‘‘ Khrushchev(3)، قائدَ دولةِ السوڤيات وهو يَطرقُ بحذائِه المنضدةَ في اجتماعٍ للأممِ المتّحدةِ ذي أهميّة. بل ماذا كان يُريدُ ’’خروشچيڤ‘‘ أن يقولَ وحذاؤُه يَهبطُ ويصعَدُ، وكأنّه لا يُريدُ أن ينقَطع عن الطَرْقْ؟
نعم، إلى أينَ تَحمِلُنا الصورة؟ إننا مُطالَبونَ أمامَ أنفُسِنا وأمامَ أجيالِنا بأنْ نتعرَّفَ أكثرَ على دلالاتِ الصورةِ، أن نُدرِكَ كيفَ تُقرَأُ الصورةُ بما تَحمِلُ من ظِلالٍ وإيماءاتٍ ومَلامحٍ. إنّنا إزاءَ امتحانٍ عسيرٍ لِمَدَى إدراكِنا لِتأثيرِ الخَلفِيّةِ على الشكلِ وتَفاعُلِ الشَكلِ مع الخلفيّةِ في هيئةٍ واحدة.
أظنُّك تتّفِقُ معي في أنّنا، مَدرَسِيّاً على الأقلِّ، لم نتعلَّمْ قراءةَ الصُورةِ، وقد يَصِحُ القولُ بأنْ ليسَ في مَناهِجِ تعليمِنا القائمةِ الآنَ من عِبارةٍ تعلّمُ قراءةَ أبعادِ الصورة. ولقد آنَ الأوانُ أنْ نتعرَّفَ أكثرَ على هذه السُلطةِ الكاسِحةِ التي قد تَفرِضُ علَينا قيوداً لا نُريدُها، وتبتعِدُ بنا عن مجالاتٍ نريدُها. والمتنبّي، مالكُ الدنيا وشاغِلُ الناس، يقولُ مُعتَذِراً من اختلاطِ الرُؤيَةِ والتباسِ النَظَرِ:
أُعيذُها نَظَراتٍ منكَ صادقةً
أن تَحسَبَ اللَحمَ فِيمَنْ شَحمُه وَرَمُ!
****************
1- أُمبيرتو أيكو Umberto Eco (1932-2016). فيلسوف إيطالي وروائي وباحث في القرون الوسطَى. معروف بروايته المترجمة إلى العربية ’’اسم الوردة‘‘.
2- ريجيس ديبريه Régis Debray (1940- ). فيلسوف فرنسي وصحفي وأكاديمي ومسؤول حكومي سابق.
3- نيكيتا خروشچيڤ Nikita Khrushchev (1894-1971). زعيم شيوعي حكم الاتحاد السوڤياتي من 1953 إلى 1964. تميزت سياسته بإرساء الدعائم الأولى لسياسة الانفراج الدولي والتعايش السلمي.
نشرت في صحيفة ’’البيان‘‘ (الإمارات) في 22-11-1997.
1022 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع