صراع الباشا والقنصل في بغداد / صفحة من صفحات تاريخ العراق

                                                    

                             قاسم محمد داود

صراع الباشا والقنصل في بغداد / صفحة من صفحات تاريخ العراق

بسبب موقعه الجغرافي والحضاري وتراثه التاريخي الضارب في الأعماق، فهو موطن الحرف الأول ومسقط رأس الشرائع والقوانين، وعاصمته مدينة السلام موطن ألف ليلة وليلة وعاصمة الإمبراطورية العباسية بكل اتساعها، ظل العراق وبكل العصور محط اهتمام دول العالم ومثار أطماع الطامعين. لذلك كانت ارضه مكان صراع وتنازع منذ بداية التاريخ المعروف وحتى يومنا الحاضر، ونورد هنا صراع صغير في أحداثه ولكنه كبير فيما نتج عنه وفيما أسس لما تلاه. وهو الخلاف بين المقيم البريطاني في العراق كلاوديوس جيمس ريج (1787ــ1821م) ووالي العراق في العهد العثماني داود باشا (1767 ــ 1851 م) الذي حكم العراق بشكل شبه مستقل عن إسطنبول قرابة 14 عام وكان آخر الولاة المماليك في العراق حيث استمر حكمهم قرابة 81 عام وكان من أصول جورجية.
كلاوديوس ريج او (الباليوز) كما كان يلقبه اهل بغداد في ذلك العصر وهي لفضة إيطالية الأصل وتعني القنصل أو الحاكم وكانت تطلق على رؤساء المستعمرات التابعة للبندقية ثم تطورت لتشير إلى السفير تحديداً.
كان الباليوز ريج عند مجيئه الى بغداد عام 1808 متعدد المهام والعناوين، فهو المستشرق، وعالم الآثار والمقيم البريطاني (القنصل) في العراق وكان مندوباً لشركة الهند الشرقية في بغداد وشركة الهند هذه كانت أداة الاستعمار البريطاني التي حكم بها نصف العالم، تأسست بمرسوم أصدرته اليزابث الأولى ملكة إنجلترا عام 1600 مانحة لها سلطة احتكار تجارة الهند وجميع مستعمراتها في جنوب شرق آسيا، وبهذا تحولت هذه الشركة من مشروع تجاري إلى مؤسسة تحكم جميع الولايات الهندية وجميع مستعمرات التاج البريطاني في المنطقة وذلك بدعم سياسي وعسكري من بريطانيا التي كانت تسمى "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" بسبب اتساع حجمها وامتدادها حول العالم عندما كانت في أوج قوتها. لذلك حين شعر البريطانيون بعزم نابليون مهاجمة الهند وإمكانية اتخاذه الأنهار العراقية طريقاً لتنفيذ هذا الغزو عينوا في بغداد مقيماً سياسياً دائماً وتم الاتفاق بين الحكومة البريطانية وشركة الهند الشرقية على اختيار (هارفرد جونز) ليكون أول مقيم بريطاني في العراق. وصل جونز إلى بغداد عام 1798 هو وحراسه الهنود وكانت اولى مهامه تعزيز النفوذ البريطاني من جهة ومراقبة ومنع النفوذ الفرنسي من الامتداد شرقاً وتهديد المصالح البريطانية، وجمع المعلومات من اية جهة كانت يعتقد انها تخدم مصالح بريطانيا وشركة الهند الشرقية، وأعداد تقرير مفصل عن أحوال العراق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وان يكون على اتصال منتظم مع حكومة بومباي البريطانية لنقل الأخبار بين الهند وبريطانيا عبر العراق كما عليه ان يوثق علاقته مع والي بغداد سليمان باشا الكبير وكان من المماليك حكم في بغداد من 1780 لغاية 1802 . وتنبيهه لمخاطر غزو فرنسي محتمل وتشجيعه على الوقوف بوجه النفوذ الفرنسي من اجل المحافظة على المصالح البريطانية في العراق. كان المقيم جونز معززاً بفرمان من السلطان سليم الثالث يقضي بقبوله قنصلاً لبريطانيا في العراق مع تمتعه بالحصانة والامتيازات، حصل عليه السفير البريطاني في إسطنبول (اللورد توماس بروس الجين). تعاظم النفوذ البريطاني في العراق في المدة التي خدم فيها كلاوديوس جيمس ريج بوصفه مقيماً في بغداد خلفاً للمقيم جونز الأمر الذي أقلق الوالي سليمان باشا الصغير(لقب بالصغير تميزاً عن سلفه سليمان باشا الكبير) الذي كانت ولايته من 1807 لغاية 1810 وكانت لديه ميول نحو فرنسا مما أثار الموالين لبريطانيا في العاصمة العثمانية إسطنبول فدبروا أمر خلعه من الولاية وانتهى به المطاف هارباً بعد هزيمته في قتال القوات التي جاءت لخلعه عن الولاية والتي يقودها (حالت أفندي) مبعوث السلطان العثماني محمود الثاني، وعندما عبر نهر ديالى جنوب بغداد نزل في ضيافة شيخ عشيرة كانت تسكن هناك. قطع الشيخ رأسه وأرسله إلى حالت أفندي ببغداد وبدوره سلخه وأرسله إلى إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية. صار القنصل البريطاني ريج خلال مدة وجوده من1808 حتى 1821 أكثر خطورة من أي ممثل أجنبي آخر في بغداد. اقام ريج في بغداد حيث مقر الوالي وحيث يمكنه موقعه المتوسط من أدارة شؤونه السياسية والحصول على أنباء ما كان يدور في أوروبا، وخلال الثلاثة عشر سنة مدة أقامته في بغداد استطاع أن يضيف الشيء الكثير إلى مكانة مقيميته التي أصبحت ملتقى كبار الموظفين والتجار والأشراف وداراً للبحث والتنقيب عن الآثار، ساعده في ذلك مميزاته الشخصية وأهمها إتقانه اللغة العربية والفارسية والتركية، ومعرفته الواسعة بعلم الآثار، فضلاً عن لباقته ونجاحه في إقامة علاقات طيبة مع مختلف الطوائف في العراق، وأستغل ذلك كله في الحصول على القطع الأثرية والمعلومات المختلفة التي تتعلق بالعراق وتهم بلاده، مارس ريج هوايته المفضلة في دراسة تاريخ مدن العراق القديمة وآثارها لذلك يعتبر أول من بدأ بحملة البحث والتحري عن آثار العراق. وبالإضافة الى تنقيباته في بابل ذهب برحلة مع زوجته ماري الى شمال العراق ونقب عن الآثار الآشورية فأجرى حفائر متناثرة في (تل قوينجق) تحت سور نينوى بهدف جمع ما يمكن جمعه من قطع أثرية ونقلها إلى إنجلترا، ومن أبرز أعماله في مدينة بابل الأثرية خارطته الطوبوغرافية للمدينة التاريخية والتي صارت مرجعاً لمن أعقبه في التعرف على البقايا الشاخصة لمدينة بابل، ورسمه خارطة دقيقة لمدينة نينوى، وكتب مؤلفات عن آثار العراق صارت حافزاً للدول الأوربية لأرسال بعثات التنقيب عن الآثار في العراق. ومن الجدير بالذكر ان حفريات ريج وبحثه عن الآثار واستقباله الرحالة الوافدين الى البلد مثل (جيمس سلك بكنغهام) سنة 1818، شجع وبشكل فعلي على نهب الأثار العراقية فقد كان لأعماله صدى واسع في الصحف البريطانية والفرنسية، مما شجع القناصل الأوربيين فيما بعد على القيام بالبحث والتخريب في المدن العراقية القديمة كالقنصل الفرنسي (بول إيميلي بوتا) الذي باشر حفائره غير العلمية سنة 1842 و1843 في الموصل (تل قوينجق وخرساباد) وحصل من خلالها على أعظم وأجمل الآثار وخاصة الثيران المجنحة ونقلها إلى فرنسا. استطاع ريج ان يحصل على عدة امتيازات بعد أن وثق علاقته مع الوالي عبد الله آغا التوتنجي الذي تولى الحكم بعد مقتل الوالي السابق وهو من الولاة المماليك لم يدم حكمه سوى سنتين ونصف 1810 لغاية 1813 قضاها في خوف دائم من سعيد بك أبن سليمان باشا الكبير أقوى الولاة المماليك الذي دخل معه في حرب أستعان فيها سعيد بـ (حمود بن ثامر السعدون) شيخ قبائل المنتفق وبعض زعماء المماليك انتهت بأسر الوالي التوتنجي وقتله في بلدة سوق الشيوخ جنوب العراق. من بين هذه الامتيازات التي حصل عليها استبدال لقب المقيم البريطاني في العراق بلقب الممثل الدبلوماسي في تركيا العربية، وأمر يمنع بموجبه هروب المشتغلين في الملاحة عند البريطانيين في مياه البصرة، وتوصل إلى أتفاق مع الوالي يتضمن عدم إصدار امر من الوالي اليه وأن لا يعترض على الزيارات المتبادلة مع كبار موظفي حكومة بغداد وأن لا يتدخل في شؤون القنصل البريطاني حتى أصبحت القنصلية ملجأ لمن تطاردهم الحكومة وكان ريج يطلع على كل ما يحصل في السراي الحكومي بواسطة علاقاته الواسعة مع كبار الموظفين، وقد ظل الوالي عبد الله باشا حريصاً على الالتزام بهذه الامتيازات طوال الفترة القصيرة التي قضاها في الحكم. دعم ريج نفوذه في المجتمع العراقي بناءً على دراسته لثقافة العراقيين والعوامل المؤثرة فيهم فزاد من مظاهر الأبهة والفخامة باستخدامه الموسيقى العسكرية عند خروجه من القنصلية وعند عودته بملابسه الرسمية في هالة من الأنفة والعظمة على صهوة جواد أصيل ومن أمامه ومن خلفه الخدم والأتباع والحرس كما أنه أبتعد عما يحط من هيبته، وفرض على حرس القنصلية زياً خاصاً فجعل أهالي بغداد يقفون على الطريق وهم مدهوشون لمنظر موكبه المهيب مما جعلهم يعتقدون بأنه صاحب الكلمة المؤثرة في رسم السياسة العراقية، وكانت تدور في بغداد احاديث المفاضلة بين القنصل البريطاني ووالي بغداد. وكان للقنصلية شبكة واسعة من الأعوان للتدخل في أمور السراي مستغلة حقها في حماية أي شخص يلجأ أليها، وقد اختارت مبنى كبير فخم من أحسن المباني في بغداد يطل على نهر دجلة الذي ترسو فيه سفينة القنصلية (برنسس أوغستا) لقيام القنصل برحلات وقت يشاء، وفي كل صباح يظهر ريج في ديوان القنصلية ليلتقي بمجلس يحضره الكثير من الشخصيات البغدادية والتجار وأصحاب القضايا التي تعرض علية وسط حركة العديد من الموظفين والعمال والحراس داخل مبنى القنصلية وخارجها حيث تضرب الطبول والأبواق صباح كل يوم. وكانت كلمة القنصل هي الكلمة المسموعة مهما كان رأي سراي الوالي ووصل الأمر ان نساء بغداديات " يلقين بأنفسهن على أقدام القنصل متضرعات لإنقاذ أبنائهن وأزواجهن من صارم العقاب وسيف الانتقام". وتحت تأثير هذه المكانة ازداد نشاط الحركات التبشيرية الأوربية ومشاريعها الاقتصادية في العراق. في تشرين الثاني 1816 وبعد حروب دامت أشهر بين الوالي سعيد باشا أبن سليمان الكبير الوالي المملوكي الأسبق وزوج أخته داود باشا وانتهت بمقتل سعيد باشا صار داود باشا والياً على العراق، بالرغم من وقوف القنصل على الحياد في هذا الصراع إلا ان علاقته مع الوالي الجديد لم تكن على ما يرام، فبالإضافة الى دور القنصل وتدخلاته في شؤون البلاد الداخلية وكان داود باشا يشعر وكأن ريج يشاركه في الحكم بسبب هذه التدخلات، ومن أسباب التوتر الأخرى كانت علاقة ريج ومراسلاته مع الشاهزادة (أبن الشاه) محمد علي مرزة حاكم كرمانشاه الذي استغل نزاعاً وقع بين أمراء آل بابان في منطقة كردستان وقام في 1818 بتوجيه ثلاثة جيوش يستهدف احتلال مدينة بغداد أحدها من جهة السليمانية والثاني من جهة بدرة وجصان والثالث من جهة مندلي إلا أن المحاولة توقفت بعد مرض الشاهزادة عند وصوله منطقة دلي عباس (المنصورية حالياً) فبدأ بمفاوضات مع داود باشا انتهت بعقد أتفاق لوقف الحرب والصلح بين الطرفين. كان للسياسة التي أنتهجها الوالي في العراق والتي تشبه سياسة محمد علي في مصر وسعى مثله إلى الاستقلال الأمر الذي أثار مخاوف بريطانيا بعد ورود تقارير القنصل ريج الى حكومته عن محاولات داود باشا لاستغلال كل السبل للاستفادة من تجارة الهند لصالح خزينة العراق فقد أحتكر شراء المنتوجات العراقية وتصديرها كما أمتلك السفن النهرية وحاول تصفية نظام الامتيازات الذي كان يشكل عبئاً ثقيلاً على كاهل التجار المحليين، ووصلت إجراءات داود باشا ذروتها عندما أعلن كبار باشوات بغداد انه ليس للبريطانيين حقوق معترف بها وان الضريبة المفروضة على البضائع البريطانية ستكون ضعف مما هي عليه. في نهاية شهر نيسان 1820 قام القنصل ريج بجولة شملت مناطق في كردستان والموصل وديار بكر اثارت شكوك الوالي داود باشا حول أهدافها، وحدث عند وجود القنصل في الموصل أن وصلته الأخبار من بغداد بأن الوالي بدأ بإعادة النظر بالاتفاقيات السابقة المعقودة مع القنصلية البريطانية والتي تمنح امتيازات تجارية وإعفاءات ضريبية وغيرها للتجار البريطانيين وغيرهم من الذين يتمتعون برعاية القنصلية، ومصادرة أموال تاجر أجنبي يتمتع بحماية القنصل لمخالفته الإجراءات الجديدة. لذلك أوعز ريج إلى معاونه في البصرة الكابتن (روبرت تايلور) بمنع الحركة التجارية من وإلى العراق عن طريق البصرة، وفعلاً نفذ الأمر فأثار بذلك غضب داود باشا الذي أمر بمنع عودة ريج إلى بغداد من جولته الشمالية لكنه سمح له بعد ذلك بالعودة بعد أن شكا ريج الامر الى حكومته فوصل بغداد في 12 آذار1821 وتلقاه داود باشا بخشونة ورفض طلب حضوره الى سراي الحكومة لمقابلته، وبعد أن تأكد القنصل البريطاني ريج أن علاقته بالوالي لا يمكن إصلاحها وأن وجوده في بغداد لم يعد مرغوباً به طلب الأذن من الباشا لمغادرة بغداد والعودة إلى بلاده. رفض الباشا ذلك، ولم يكتفي بالرفض بل أرسل قوة عسكرية أحاطت ببناية القنصلية وحوصر القنصل وكل من معه داخلها ما يزيد على خمسين يوماً. وعندما وصل خبر حجز القنصل الى حاكم بومباي البريطاني (ماونت ستيوارت إلفينستون) أرسل كتاب احتجاج الى داود باشا وطلب أطلاق سراح ريج ومن معه، كما أرسل الى السفير البريطاني في استنبول يطلب فيه الاعتذار علناً من قبل الحكومة العثمانية، وبعد رفض داود باشا هذه المطالب قامت السفن البريطانية بقطع المواصلات بين البصرة وبغداد كما هددت بريطانيا بقطع العلاقات التجارية بين الموانئ الهندية وميناء البصرة واستخدام القوة البحرية لذلك أن لزم الأمر، بعد هذا التهديد ولعدم وجود الدعم والمساندة من إستانبول التي كانت تنظر بريبة للإصلاحات التي قام الوالي في بغداد. تراجع داود باشا واستعادت بريطانيا كافة الامتيازات التي كانت تتمتع بها بموجب وثيقة التراضي التي قدمتها حكومة الهند بواسطة الكابتن روبرت تايلور ممثلها في البصرة والتي تحوي أثنى عشر بنداً وافق عليها الوالي وكان من بينها ما يخص ملاحة السفن البريطانية في الأنهار العراقية وأن لا تجبى أي ضريبة على هذه السفن كعوائد مرور بين البصرة وبغداد وحددت الضريبة على البضائع البريطانية بـ 3% ومنعت الوثيقة الوالي من الاستيلاء على السفن البريطانية في الأنهار العراقية. سمح للقنصل بمغادرة بغداد فغادرها يوم 11 مايس 1821 على متن الباخرة التي كانت ترسو امام القنصلية على نهر دجلة متجهاً الى البصرة فوصلها بعد ثمانية أيام وبعد بقائه في البصرة ما يقارب الشهر توجه من هناك عن طريق البحر إلى إيران حيث أصيب هناك بمرض الكوليرا وتوفي في مدينة شيراز يوم 5 تشرين الأول 1821.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1032 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع