السفير ابراهيم الولي
تحليل محتوى كتاب كونداليزا رايس
بسم الله الرحمن الرحیم
بعد ان فرغت من كتابة الفصل 19 من كتابي ) إسقاطات السیاسات الدولیة على الشرق الاوسط خلال مائة سنة 1916 - 2014 و كان حول الفوضى الخلاقة : التعریف بھا و نشأتھا و فعلھا على العراق خاصة ، و جدت لزاماً عليّ متابعة آثار ھذه العملیة التجریبیة ،التي نادت بھا الآنسة كوندالزارایس كبیرة مستشاري الامن القومي الامریكي 2001 - 2005، ووزیرةالخارجیة 2005 - 2009 ، على المسرح السیاسي و الاقتصادي و الإجتماعي على بلدي العراق.
و لكي اكون اكثر فھماً للعناصر التي دفعت صاحبة التجربة للتبشیر بھا ،جُلتُ في عقل رایس من خلال مراجعتي كتابھا ) اسمى آیات الشرف، ذكریات من سنّيحیاتي في واشنطن .
No Higher Honour , A Memoir of My Years in Washington ( ، ترجمھ الى العربیة ولید شحادة و نشرتھ دار الكتاب العربي ،بیروت .
ترینا ھذه المذكرات ان صاحبتھا شخصیة ملأت الدنیا ضجیحاً و شغلت الناس على طول الكرة الارضیة و عرضھا . فھي تكاد ان كانت عقل الرئیس جورج دبلیو بوش ، سواٌء في موقعھا في مجلس الامن القومي الامریكي ، او كوزیرة الخارجیة طیلة حكم الرئیس بوش .
وجدت في ھذه المرأة نموذجاً للذكاء الطاغي ، و الإستماتة في خدمة ،ُمثُلُ و مصالح بلدھا العلیا ، فھي متفرغة لعملھا دون زواج ،لادارة علاقات الولایات المتحدة بالعالم من مفاوضات و عقد تفاھمات و اتفقیات في ظروف صعبة املتھا حادثة 11 ایلول 2001 ،كما انھا تعتبر المتخصصة في العلاقات مع روسیا الاتحادیة ، و لھذا كانت تولي ھذا الامر جلّ اھتمامھا ، فضلا عن اھتمامھا الثانوي في شؤن العراق و افغانستان و الشرق الاوسط عموما . و الانسة رایس شدیدة الملاحظة في التعبیر عن بعض انطباعاتھا بصورة مرحة و لاذعة احیاناً ، فھي تقول عن الرئیس الاسبق جلال الطالباني انه كان یأكل الطعام بنھم و بكلتا یدیه بشكل مشمئز ، و عن احد رؤساء اوكرانیا ان ساقیه طویلین حتى یكادان یتصلان بذقنه ، و عن سياسي سوري بدين تشبهه بشارون ، و تسمي حسني مبارك بالرجل العجوز ، اما عن الرئيس بوتین فتقول انها تكبره قليلا عندما تلبس الكعب العالي ، و هكذا .و قد ادهشني ان اراها تعزف على البيانو قطعاً كلاسیكیة لبرامز و غیره في خماسي Quintet یضم عمید كلیة قانون كعازف على الكمان.
2
و اساتذة جامعيين و محامين و فنانين على الوتريات ، فهي تكاد تكون اكثر من هاوية في ذلك .وجدت ذلك عن حياتها الشخصية ، فاذا دخلنا على و جدانها الفكري و الثقافي ، و هي الاستاذة الجامعية، نجدها المعجبة، و ربما المقلدة لثلاثة فلاسفة امريكان ،هم ؛ برنارد لويس ، و فؤاد عجمي و صموئيل هنتنجتون . فاما الاول فقد عرف بعدائه السافر للعرب و المسلمين ، و هو صاحب خرائط تقسيم العالم العربي الى و حدات متناثرة ..اما فؤاد عجمي ، اللبناني الامريكي ، من اصول فارسية ، فهو مستشار لدى الخارجية الامريكية و استاذ جامعي و كاتب سياسي مؤيد بشدة لتيار المحافظين الجدد و كان من المتحمسين لغزو العراق . و اما الثالث فهو صاحب ) صراع الحضارات ( الذي يقول فيه انه لا يوجد شئ اسمه قيم عالمية ، فالعالم الاسلامي ، و غيره ، إنما هي كيانات قائمة بذاتها ،و ان هذه الحقيقة من شأنه ان تفرز صداماً يرجح ان يكون عنيفاً تصطدم فيه مبادئ التسامح الديني عند الغرب مع الاسلام السياسي ، و هنا تقول رايس انها رأت في هنتنجتون ، إثر احداث 11/9/2001 ، كانه نبي . و المهم في الامر انها تقول في هذا الصدد ،بان الاصول الفكرية للرابط بين ثغرة الحرية و الارهاب بالغة التعقيد ، و تقول ان اعمال هؤلاء المفكرين الثلاثة تركت اثرها الواضح على منهج تفكيرها الاستراتيجي . و تضيف ، رايس ، في صفحة 378 ) الربط بين مصالحنا ، توازن القوة ( و قيمنا ) الديمقراطية ، تفكيرنا الاستراتيجي ( .و تقول ؛ ا ّن المفهوم الجديد للامن يربط الدفاع و الدمقراطية و التنمية معا، ذلك لان كل عنصر منها لازم للستراتيجية . جديربالذكر ان رايس اقترحت على الرئيس بوش ، صفحة 223 انتهاج الدبلوماسية القسرية عند التعامل مع العراق Coercive , or, Deterrent Diplomacy.(القسرية تعني الوصول الى اهداف سياسية تحقق المصالح الوطنية الامريكية في العلاقات الدولية دون اللجوء الى الحرب ).
3.
تقول في صفحة 285 ، و في بغداد وجهت المالكي ، رئيس الوزراء وقتئٍذ ، بالقول باننا لا يمكن ان نحل الصراع الاهلي العراقي بالنيابة عنهم ، و قلت ، انا لا اعني بالمصالحة ان تحبوا بعضكم ،لا يمكن لهذا الوضع ان يستمر ،كلماتك لا تتطابق مع افعالك . و كررت له إنذاري انه اذا لم يتحسن هذا الوضع في غضون ستة اشهر فسوف تعلقون على اعمدة إنارة الشوارع . و في صفحة 582 تقول رايس ، انها غادرت القدس الى بغداد حيث تعمق الشعور الكئيب الذي اصبت به في واشنطن فكانت هذه الجولة، دون ريب ، اسوء جولة قمت بها كوزيرة للخارجية ، إذ كانت الاوضاع في العراق في حالة مسمومة بالمطلق في جميع الاتجاهات حيث تصاعد العنف الطائفي بين الشيعة و السنّة ، و كنت ابلغت الصحافة قبل وصولي بانه ليس من شأن الولايات المتحدة ان تداري الانقسامات و تشفيها ، و قلت ا ّن عليهم ان يحلوا هذه الامور بانفسهم . و عندما ادركت رايس ، بعد زيارات عديدة للعراق ، صفحة 614 ، ان تجربتها الخلاقة ، بدأت بالانهيار ..تساءلت ، مع زملائها في الامن القومي عما اذا كان الرئيس بوش قادراً على الاعتراف بمدى عمق الحفرة التي وقعنا فيها في العراق ، وكنا نعتقد بانه يدرك ذلك و لكنه عنيد . تقول في صفحة 848 ان تقلب اسعار النفط تحكمه عوامل جيوسياسية ، فهي ترى ان اسعار النفط المرتفعة كانت تستخدم لاغراض سياسية مما يتسبب في مشكلات النمو و ارتفاع اسعار الاغذية فضلا عن اثارة احداث شغب في العالم . لاحظت ان الدكتورة رايس تغافلت عن ذكر نقاط مهمة في مسيرتها هذه ، فهي لم تتطرق ، مثلاً ، الى الموقف المهين الذي تعرض له رئيسها في بغداد ، كما انها تجاهلت موقف وزير الخارجية كولن باول ، عندا كان يضلل مجلس الامن حول ادعاء امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل باشهاره قنينة صغيرة يمكن ان تهلك العالم ، و على الرغم من ندم السيد باول على هذه الفعلة فيما بعد ، الا ارى رايس تدافع عنه مستكثرة عليه التاسف او الاعتذار و ان الامر لا يستدعي ، في نظرها ، الندم الذي صرح به كولن باول . و فوق هذا ، لاحظت ان الانسة رايس لم تركز او حتى تلمح الى نظريتها البائسة الفوضى الخلاقة ، التي نادت مزهوة بها في سنة 2005 في تصريحها لصحيفة واشنطن بوست ، و ان كان هذا التغافل لا يطمس حقيقة ما عانى العراق و دول عربية اخرى ، جراء تجربة فلسفتها و التي قامت بمنهجية التجربة و الخطأ .
4
و بعد ان استعرضت ما تعلق بالعراق من اسقاطات سلبية في مذكرات كونزاليزا رايس ، وجدتني ارى في شخص نظرية الفوضى الخلاقة التي اجترحتها الكاتبة و اعلنت عنها صراحة 2005 في صحيفة الواشنطن بوست ، عن نية امريكا نشر الديمقراطية في العالم العربي و البدء بتشكيل الشرق الاوسط الجديد عبر نشر الفوضى الخلاقة هناك . لكنها ، بعد ان استشعرت ، فشل هذه التجربة ، حاولت التنصل عنها قائلة(ان بلادي ، الولايات المتحدة ، عندما ذهبت في 2003 الى العراق و افغانستان ، اي الى الشرق الاوسط و آسيا ، لم يكن في مخططها إعمال الديموقراطية في تلك البلدان ، بل كانت لمواجهة امور امنية في المنطقة ). فهي بهذا تريد ان تقول باننا بعنا لكم افكارنا للاصلاح كما نتصورها و تمليه مصالحنا ، اما عندما تفشلون في الافادة منها في التطبيق فعبء ذلك يقع على عاتقكم اي على المشتري ،العراق أو غيره،.( Caveat Emptor )
حس ٌن كل ذلك ، فلنفككن تجربة الفوضى الخلاقة القائمة على التجربة و الخطأ التي نتلمس ركائزها الفلسفية في ارشادات ماكيافللي مرورا بمشرعي اليمين الاوربي المتطرف حتى بلغت رايس فهي كاشف لا المنشأ{ لها ، طبقت على اقطار عربية لكن ضرارها اصاب العراق على يد رايس حيث تدهور وضعه ، بل حتى تدحرج حسب تعبيرها. في نظري ان الضرر البالغ الذي وقع على العراق دون غير شدة ، بدأ في 2003 حين احتل الامريكان العراق فجعلوا منه دولة فاشلة طبقت عليه سترتيجيات تقوم على الإلهاء وافتعال الازمات ثم المبادرة لحلها ، و استثارة العواطف بدل الافكار ، و اشغال الراي العام بمسائل ثانوية تحرفه عن اهدافه ، مع تشجيع الناس على القبول بالرداءة والجهل، و على جلد الذات بحيث.
5
يتهم الناس انفسهم بالذنب و التخلف . تلك بعض الستراتيجيات التي اشارك الاستاذ شومسكي بها .
و باختصار شديد ،فان الانسة رايس توصلت الى استنتاج مفاده انها و رئيسها بوش قد وقعا في لجة عميقة في العراق لا يدرون كيف الخروج منها باقل الخسائر .في هذا مصداق لما بينت في كتاببي ) إسقاطات السياسات الدولية ...( ان الفوضى الخلاقة مبنية على التجربة و الخطأ التى جربوها على العراق لعلها ، في تصورهم ، تفرز واقعا افضل نافع للجميع ، لكن النتائج جاءت بعكس ذلك فكان الفشل المدوي رغم تغليفه بتعبرات دبلوماسية ، فاذا بالفوضى الخلاقة تورق واقعا مدمرا لبلادي ؛ مزقت النسيج الاجتماعي العراقي ،وافلست خزاءنه رغم ثراءه وو سيدت الطائفية و العنصرية و الفئويية على الشعور و التمسك بالمواطنة القائمة على العدل والتسامح و الدمقراطية الحقة لا الزائفة ، و نشرت على تولي اشخاص للحكم من غير المأهلين له . و ظل الوضع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي يتدحرج ، لأسفي ،من قمة الى حضيض حتى انبرى شباب طيبون ،هم امل مستقبل العراق ، الى إظهار الاحتجاج السلمي على الوضع المؤسف الذي اطلقت عنانه الفوضى الخلاقة ،،فثاروا لعل صرختهم تصل اسماع العالم المتحضر ، و قوبل هؤلاء الشباب بردة فعل من حكام فاسدين حتى صعدت ارواح اكثر من سبعمائة منهم الى السماء لعلها منصفتهم من جور اهلهم على الارض ، و هكذا تجمد الموقف في تميز كتلتين متناقضتين ؛ اولاها جيل جديد صاعد ينشد الوطن ليجد ذاته فيه ، و الأخرى متنفذة تمسك بتلابيب السلطة التي تضمن مصالحها دون الالتفات الى جوهر و روح المواطنة النبيلة ، و هذا ، لعمري ، هو ما اوصل العراق الى درجة متقدمة بين الدول الفاشلة فاستشرى الفساد في الحكم و اختفت الشفافية والحوكمة الرشيدة و النزاهة و الفساد الظرفي و الهيكلي سواء بسواء + Substantive Structural و راينا بعض المواطنين يستسيغون جرح الضمير الجمعي الوطني باشهارهم الإصطفاف الى جانب الاجنبي بحجة او اخرى ، Banality of Evil فليس للانسة رايس ان تتباهى بما فعلت لبلادي من فوضى لا خلاقة . يقول المثل العربي ؛ ان للانسان المجرب في امر ما حسنتين إن اصاب ، و حسنة واحدة إن اخطأ و هو يجرب ، فهل تري ايها القارئ الكريم ان رايس تستحق حسنة للتجربة ! اما انا فاقول ، مع اجترامي لها ، بكل اسف ( لا ) .
1073 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع