علي محمد فخرو
إصلاح علل العقل الجمعى
بالرغم من الخلافات الكثيرة والمدارس المتعددة فى حقل علم النفس إلا أن هناك شبه اتفاق بشأن المكوّنين الرئيسيين لعقل الإنسان:
المكوًن الواعى، والمكوّن اللاواعى.
المكون الأول هو الذى يعى ما حوله من الأشياء بقصد وبتمعن، ويتفاعل معها تحليلا ونقدا، ورفضا وقبولا، باستعمال أدوات ومنهجيات علمية ومنطقية. من هنا فإنه وسيلة من وسائل اكتشاف وخلق الأفكار والتى تعين على حل مشاكل الحياة وإغناء سيرورتها، إضافة إلى مواجهة الاضطرابات والعلل النفسية الفردية الناتجة عن اضطرابات المكون اللاواعى.
أما المكون اللاواعى الثانى فهو مخزن للذكريات والعواطف والانفعالات التى يراد حفظها أو نسيانها بسبب ما تأتى به من آلام وعدم اتزان نفسى. وهناك أيضا تحفظ عشرات الأدوات النفسية الخاطئة التى يستعملها الإنسان للتهرب من مواجهة مشاكل الحياة بصدق وشفافية، وهنا توجد الغرائز والمشاعر غير المرغوبة من مثل التعصب للعرق أو الجنس أو المخاوف غير المبررة، أو الانصياع الأعمى لإملاءات المجتمع أو السلطة أو الإيديولوجيا. فى هذه الغرفة العقلية المظلمة يحاول الإنسان أن يبقى كل ما فيها سرا وكذبا على النفس وعلى الآخرين.
هذا التحليل النفسى الذى أوصله إلى قمتة عالم النفس الشهير فرويد وذلك من خلال تطبيقه على الفرد المريض نفسيا. ثم نقله تلميذه وناقده عالم النفس السويسرى الشهير كارل يونج، من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة عندما طرح تعبيرى «الوعى الجمعى» و«اللاوعى الجمعى».
وهذا هو ما يهمنا بالنسبة لما يسّميه البعض بأزمة العقلانية العربية.
فمنذ القرن التاسع عشر والأدبيات العربية تمتلئ بمحاولات تشخيص العلل والنواقص فى العقل الجمعى العربى، التى يعتقد هؤلاء أنها أحد أسباب تخلف أمة ومجتمعات العرب. وفى اعتقادى أن جل أولئك المفكرين والمصلحين والمثقفين الملتزمين حصروا دائما جهودهم فى إصلاح أحد المكونين للعقل العربى. البعض ركز على أهمية الأخذ بالوسائل العقلية العلمية والاجتماعية، من قدرة على التحليل العميق والنقد الموضوعى وإعادة تركيب المفاهيم وتجاوزها، والتخلص من العقل الخرافى السابق، والتى استعملها العقل الواعى الجمعى الغربى عبر عدة قرون، والتى قادت إلى نهضته الحضارية التى نشاهدها أمامنا يوميا. بينما ركز البعض الآخر على البدء أولا بإصلاح العقل الجمعى اللاواعى العربى، المتمثل بترسبات قديمة خاطئة من مثل هيمنة التاريخ على الحاضر، أو انتكاسة الدين إلى صراعات مذهبية طائفية، أو التعايش مع عادات وسلوكيات قبلية متناقضة مع حاجات العصر العربى الحديث، أو الانغماس فى تبنى مواقف تعصبية فى مسائل العرق والجنس والإيديولوجيات، وغيرها الكثير من المشاعر والوسائل الجمعية العربية اللاواعية الخاطئة التى ترسخت عبر التاريخ فى اللاوعى العربى الجمعى.
المحاولات تلك، إذن كانت جزئية لأنها تركز على إصلاح جزء من نواقص العقل الجمعى العربى، بالتركيز إما على إصلاح العقل الواعى أحيانا وإما على إصلاح العقل اللاواعى فى أحيان أخرى. وهذا أسلوب ثبت فشله فى التعامل مع الفرد، فكيف إذا استعمل فى التعامل مع المجتمعات والجماعات الأكثر تعقيدا والأصعب علاجا.
فى اعتقادى أن المطلوب الآن، فى مواجهة الدمار الحضارى الهائل الذى يعم الحياة العربية كلها، هو أن ينتقل المفكرون والإصلاحيون والمثقفون والقادة السياسيون الملتزمون العرب، من الذين يعتقدون بوجود علل أو نقاط ضعف فى العقل الجمعى العربى، أن ينتقلوا إلى مواجهة المكونين الواعى واللاواعى فى آن واحد. ذلك أن المكونين مرتبطان ومتفاعلان إلى أبعد الحدود. كل واحد منهما يؤثر سلبا على الآخر بسبب وجود نواقص موضوعية فيه. ونحن هنا نتكلم عن نواقص أو نقاط ضعف ذاتية اكتشفها مفكرون وكتاب عرب، عبر عشرات السنين الأخيرة على الأخص، وليس نواقص تخيل وجودها استشراقيون استعماريون غربيون أو صهاينة، تعمدوا الحط من قدر الإنسان العربى ومنجزاته التاريخية الهائلة.
ونحن هنا نريد أيضا أن نؤكد بأن هناك كمية هائلة من الكتابات الغربية التى تسعى إلى معالجة علل ونواقص مكونى العقل الغربى الجمعى الذى أدخل الغرب فى أزمته الحضارية المعقدة التى تعيشها مجتمعاتهم فى اللحظة الراهنة. وبالتالى فالموضع يكاد يكون أمميا شاملا.
المطلوب إذن هو مراجعة المخزون الفكرى والشعورى التاريخى الكبير فى العقل العربى اللاواعى الجمعى من جهة ومراجعة النواقص المنهجية فى استعمالات مدارك العقل العربى الواعى المنهجى من جهة أخرى. المراجعة، لكى تكون ناجحة ومؤدية إلى تغيرات جذرية فى طريقة مواجهة المجتمعات العربية لوضعها الحالى، تحتاج أن تركز على إصلاح الحقل العقلى والشعورى برمته، أى على مكونى العقل الجمعى.
884 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع