قاسم محمد داود
الرؤيا من خلال "نظرية المؤامرة"
مع انتشار وباء فيروس كورونا عادت "نظرية المؤامرة" من جديد إلى الواجهة ليستخدمها عدد غير قليل من الناس ومن المهتمين بالشأن العام من كتاب وصحفيين وحتى المتخصصين بمجال الطب والأوبئة والأمراض أضافة إلى السياسيين، فكثرت الأحاديث والمزاعم كل حسب قناعته وهواه حول المؤامرة التي كانت خلف نشر هذا الفيروس الغامض وصارت حديث الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي. وهذا ليس غريب ولا جديد فنظريات المؤامرة كانت حاضرة باستمرار في مسار التاريخ بالتزامن مع حدوث الأوبئة والكوارث، وتذكر دراسة حديثة "أن نظريات المؤامرة كانت على الدوام عامل مهم في مساعدة الناس على استيعاب الأحداث الكبيرة التي تقع حولهم وخاصة عند بلوغهم مرحلة العجز والحاجة الماسة إلى الحماية والشعور بالقلق وفقدان السيطرة على مسار حياتهم. وترتكز هذه النظريات على أن لا شيء يحدث بالصدفة، لا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه، هذه القناعات الثلاثة التي تشكل أساس التفكير بعقلية المؤامرة وهي قناعات راسخة للمؤمن بها ولكن بلا دليل مقنع للبرهنة على ذلك. والشعب والحكومة هما طرفا المؤامرة في أغلب الأحيان. ويتفق الباحثين في هذا المجال بأن الإيمان بنظريات المؤامرة أو تصديقها هو نتاج الشعور بالعجز في مواجهة الواقع. العجز عن فهم الواقع والعجز عن التكيف معه والعجز عن تغيره. وينظر علماء النفس إلى الأنسان الذي يؤمن بنظرية المؤامرة على أنه في العادة "إنسان عالق أو محصور بين عالمين، عالم الواقع وعالم الوهم. إنه موجود نفسياً على حافة هذين العالمين يتأرجح بينهما جيئة وذهاباً. فكلما كان العالم الحقيقي ضاغطاً وعنيفاً ومعقداً كلما انزلق الإنسان إلى عالم الوهم، مستجيراً به ومستعيراً أدواته وأبرزها اللوم والإكثار من الأعذار في مواجهة العالم الحقيقي وعلى العكس من ذلك، فكلما كان هذا العالم الأخير ودوداً وخفيف الوطأة ومحتضناً للجميع كلما ابتعد الإنسان عن حافة عالم الوهم وبات أكثر قابلية للتعامل مع مشكلات الواقع الحقيقي. وهذا الأمر لا يقتصر على الأفراد فقط وانما ينطبق على التجمعات البشرية والشعوب. ولا تعد نظريات المؤامرة ظاهرة جديدة فهي تخطر في أذهاننا بشكل مستمر منذ مائة عام على الأقل حسب رأي الكثير من الذين كتبوا وألفوا الكتب والبحوث حول ذلك وهي شائعة أكثر مما نظن كما يقول مؤلف كتاب "نظريات المؤامرة الأمريكية" جوزيف اوسينسكي.. "كل شخص منا يؤمن بنظرية واحدة على الأقل أو ربما ببضع نظريات والسبب بسيط، هناك عدد غير محدود من نظريات المؤامرة وإذا كنا سنطلع عليها جميعاً فكل واحد منا سيرى نفسه مؤمناً بإحداها". اما عن تاريخ ظهور مصطلح نظرية المؤامرة فيقال ان اول استخدام له كان في القرن السابع عشر في بريطانيا لغايات سياسية ثم تحول الى أمريكا بين المستوطنين هناك فقد كانوا على قناعة بأن البريطانيين يريدون تقويض سلطتهم. وتطورت نظريات المؤامرة في القرن التاسع عشر حيث اعتبرت مصادر التآمر على العالم تكمن في مجموعات تخطط بصورة سرية للسيطرة على العالم وعلى رأسها الماسونية وهي حركة سرية عالمية عرفت بغموض النشأة والأهداف وسعة الانتشار، أضافة إلى اليهود واليسوعيين، كما حدث عندما أنتشر وباء الطاعون في أوروبا في القرن السابع عشر لم يتردد كثيرون من توجيه أصابع الاتهام لليهود فاتهموهم بالتعامل مع الشيطان لنشر الوباء. وبدأ استخدام المصطلح بشكل أكثر خلال خمسينات القرن العشرين إلا ان أغلب الآراء تشير دائماً الى أن المخابرات الأمريكية هي من كان وراء هذا المصطلح بشكل ما عام 1967 بهدف أقصاء أولئك الذين شككوا في الرواية الرسمية لاغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كندي الذي اغتيل في عام 1963 وشككوا في ان قاتله "لي هارفي أوزوالد" تصرف بمفرده. والطريف في هذا أن تكون هناك مؤامرة حول مصطلح "نظرية المؤامرة" ذاته. أما في الوطن العربي فنظرية المؤامرة حاضرة لتفسير كل ما مر بالعرب من محن أو ما تعصف بهم اليوم من مشاكل وحروب أهلية وتغيرات سياسية، لذلك تنتشر كلمة "مؤامرة" أو "مخطط" ولا يقتصر ذلك على الأفراد بل ان الحكومات العربية غالباً ما تحاول عن طريق وسائل الأعلام وخطب السياسيين ان توهم شعوبها بأن بلادهم مستهدفة من جهات أجنبية ودول كبرى تخطط وتحيك المؤامرات ضدهم وأن هناك خطر يهدد كيان الدولة والغرض من ذلك هو التشبث بالسلطة والقضاء على الخصوم بتهمة الولاء للجهات المتآمرة، يقابل ذلك على المستوى الشعبي فأن هذه المؤامرات تستهدف ثروات البلاد وأن الحكام والنخب السياسية عملاء للخارج وأن المؤامرة حق والتشكيك بها باطل. وصارت سمة العقل العربي الإيمان بنظرية المؤامرة التي تريح العقل من عناء البحث عن الأسباب والتحليل المنطقي للأخبار وتغني المراقب عن نقد الذات وتغذي الشعور بأننا ضحايا لأعداء متآمرين لولاهم لكان وضعنا أفضل بكثير. ويصل الأيمان بنظرية المؤامرة الى الحد الذي يجعل من ارتفاع درجات الحرارة صيفاً في العراق مؤامرة أعدها مركز بحثي تابع لدولة كبرى، حسب رأي أحد رجال الدين وان هذا المركز.. "له القدرة على أرسال إشعاعات بحيث يؤثر على الظروف المناخية للبلد ويستطيع رفع درجات حرارة الجو ويستطيع أن يحدث زلازل وفيضانات" دون أن يذكر رجل الدين هذا من أين وكيف حصل على هذه المعلومات. ولكي تكتمل اركان المؤامرة في العقل العربي يبدأ معتنقيها بربط الأحداث بالسماء، ويكون وباء فيروس كورونا هو عقاب سماوي أنزلته السماء لكثرة أخطائنا وخطايانا اليومية، وهناك من جعل الوباء عقاب وشماته، فخرج بعض رجال الدين الإسلامي يربطون انتشار الفيروس في الصين قبل أن ينتشر في أرجاء المعمورة، باضطهاد جماعة الإيغور المسلمة في الصين. وهناك من قال إن الفيروس من صنع اليهود بالتعاون مع الولايات المتحدة، ونشروه في العالم من أجل غلق الحرمين الشريفين، المسجد الحرام والمسجد النبوي. وإلى جانب هذا راجت نظرية تعتمد على الأرقام والتواريخ ودافع عنها كتاب واعلاميين وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي مفسرين انتشار وباء كورونا بالرقم 20 الذي عرف في القرون الماضية أوبئة مماثلة وتحدث بعظهم عن سر هذا الرقم ففي عام 1720 انتشر الطاعون، وجاءت الكوليرا في عام 1820، ثم الإنفلونزا عام 1920. ورغم أن تطور انتشار الوباء قد برهن على كذب ما كان قد روج في الأيام الأولى لانتشاره من إن هذا الفيروس هو صناعة أمريكية الهدف منه تدمير الاقتصاد الصيني الذي ينافس الاقتصاد الأمريكي ويعيق نموه، لايزال هناك من يعتقد بذلك ولكن هذه المرة فأن انتشاره في أمريكا هو الرد الصيني وأنها حرب بيولوجية بين الدولتين الكبيرتين. وهناك من ذهب إلى أبعد من كل ذلك وشكك في وجود الوباء أصلاً وأنه خدعة إعلامية لغايات وأهداف مجهولة. وحيث أننا في الوطن العربي نتلقى الهزائم منذ سقوط الدولة العباسية آخر امبراطورية عربية، فمن غير المستغرب أن يتجذر في وعينا السياسي بأن كل العالم يتآمر علينا. ومهما اختلفت مرجعيات رواد تلك النظريات – علمانية يسارية أو إسلامية – فإنهم يتفقون على امر واحد جامع وهو تغييب العقل والإرادة والتعامل على أن هناك حكومة خفية تدير العالم وتخطط لكل شيء لا أحد يستطيع أن يقف في وجهها. ولكي نكون منصفين فأن "حكومة العالم" السرية مصطلح يشير إلى ما يعتقد كثيرون من غير العرب بوجود هذه الحكومة التي تتحكم في أحداث العالم تخطيطاً وتنفيذاً بما يحقق مصالح قوى عالمية نافذة سياسياً واقتصاديا وعسكرياً واعلامياً وتستخدم في ذلك وسائل وهياكل سرية المضمون دائماً وأن كانت أحياناً علنية التنظيم. أي أن التاريخ وحركة الشعوب وكل ما تكتنفه من متناقضات دينية واقتصادية واجتماعية وسياسية يمكن اختصارها في مجموعة من الخبثاء الذين جلسوا في أحد الأقبية يوماً ما ليضعوا هذا المخطط الجهنمي للسيطرة على شعوب الأرض. لقد ساعد الانتشار الواسع في أدوات التواصل الاجتماعي على انتشار نظريات المؤامرة في تفسير ما يحدث، فالمجال مفتوح أمام أي شخص للحديث في ركن من أركان الأرض وقد يتحول الى مصدر موثوق للمعلومات يتسابق الناس على تصديقها وترويجها، فالانحياز إلى مثل هذه النظريات يريح العقل من عناء البحث في الأسباب والدواعي ويغذي الإحساس بالمظلومية والاضطهاد، ولكن إنكار نظريات المؤامرة ليس صحيح تماماً مثلما هو المبالغة في اعتمادها سبب لكل معضلة أو أزمة محلية أو عالمية
1057 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع