د. علي محمد فخرو
دور المال الخاص في مواجهة الأزمات
دعنا نطرح سؤالا افتراضيا لنرى الى اين يقودنا. ترى لو ان الحكومات فرضت على كل المنشآت الاقتصادية والمالية الكبيرة عدم توزيع كل الأرباح السنوية على مالكي تلك المنشآت، وأصدرت قانونا يلزمها الابقاء على نسبة معقولة من الأرباح لتتجمع سنة بعد سنة لتكون مصدرا ماليا احترازيا لمواجهة نتائج الأزمات الاقتصادية والمالية الحادة المؤقتة، ترى لو تم ذلك فهل سنتجنُب الجانب الكارثي من كل ازمة؟
أحد اشكاليات النظام الرأسمالي هي افرازه كل عقد اوعقدين من الزمن لمثل تلك الأزمات الكبرى، احيانا على المستوى الاقليمي وأحيانا على المستوى العالمي. انها اشكالية ذاتية، لم يوجد لها حل بعد، في الأسس التي قام عليها ذلك النظام في الماضي، والتي اصبحت اكثر تعقيدا في النظام الرأسمالي النيوليبرالي العولمي المتوحش الذي يحكم العالم الآن.
لكن توجد دلائل كثيرة على ان الأزمات الاقتصادية والمالية في المستقبل لن تولدها اشكاليات النظام الرأسمالي فقط، وانما ستسببها عوامل اخرى من مثل الأوبئة العالمية، كوباء الكورونا الذي يعصف حاليا بالعالم على المستوى الصحي والاقتصادي، او من مثل الكوارث الطبيعية التي ستنتج من جراء تلاعب الانسان الأحمق المتهور بالتوازنات التي قامت عليها البيئة الطبيعية عبر الملايين من السنين، وفي مقدمتها الارتفاع التدريجي لحرارة فضاء الأرض الناتج عن الصعود المتنامي لانبعاث الغازات الكربونية من جراء مختلف نشاطات ماكنة حضارة العصر الذي نعيش.
ويزداد الأمر سوءا اذا ابتلى العالم بقادة شعبويين نرجسيين جهلة يعرقلون الجهود الدولية المشتركة لمواجهة تلك الأزمات بصورة مبكرة وصحيحة.
لنعد الى سؤالنا من جديد. لو ان الحكومات فعلت ما افترضناه ألن تستطيع اموال صناديق الاحتياط التي ستتكون اعطاء المؤسسات الاقتصادية والمالية المتعثرة ابان الأزمات، كالأزمة التي نعيشها في هذه اللحظة، قدرة على مواجهة تلك الأزمات، سواء بالنسبة لمالكيها او بالنسبة للعمال والموظفين العاملين فيها، حتى لا تكون هناك حاجة لقيام الحكومات باستعمال المال العام من اجل انقاذ تلك المؤسسات؟ وفي تلك الحالة فان الحكومات ستركز على مساعدة صغار التجار والمؤسسات الصغيرة للمجاهدة في وجه الأزمة، كما ستركز في الدرجة الأولى على انقاذ الملايين من العاطلين والفقراء ومن المعتمدين على دخلهم اليومي البسيط، انقاذهم وانقاذ عوائلهم من الجوع والمرض والفقر واضطراب كل اسس حياتهم اليومية.
وبذلك تبقى مليارات وتريليونات المال العام كذخر وطني عام لمساعدة الغالبية الساحقة من متضرري الأزمات، بدلا من ذهاب الجزء الأكبر منها لانقاذ اقلية فائقة الغنى والرفاهية.
المبدأ الأساسي الأول الذي يطرحه السؤال هو ضرورة اعتماد المؤسسات الاقتصادية والمالية الفاحشة الغنى ومالكيها على جزء من مدخراتهم لمواجهة الأزمات، التي غالبا ماتكون مؤقتة في الزمن والشدة، بدلا من اعتمادهم على مدخرات ذوي الدخل المحدود وعلى الأخص الفقراء منهم.
المبدأ الأساسي الثاني المطروح هو في شكل سؤال: لماذا يصُر الأغنياء من مالكي المؤسسات الاقتصادية والمالية على عدم الاكتفاء بجزء من ارباح مؤسساتهم السنوية البالغة الارتفاع في كثير من الأحيان؟ لماذا لا يتنازلون عن جزء من تلك الأرباح الفاحشة لمواجهة كوارث الأزمات المتولدة من النظام الرأسمالي الذي يمارسون او من كوارث الأمراض والطبيعة والحروب والاضطرابات الأمنية وغيرها؟ اليس من حقُ المجتمعات عليهم ان يشاركوا في تحمُل اعباء الأزمات؟
نحن نعلم بأن الرأسماليين وزبانيتهم من رجالات السياسة والحكم لن يقبلوا مثل تلك التصورات بسهولة. لقد تعودوا على عيشة الترف وكنز المال والاستئثار بحصة الأسد من ثروات المجتمعات، ولذلك فان الأمل في اتخاذ خطوات اصلاحية ذاتية من مثل هكذا انظمة حكم سياسية هو ضعيف، مالم يأت عن طريق ضغوط هائلة من قبل مؤسسات المجتمع المدني النضالية بكل اشكالها. وهذا يستدعي انضمام الملايين من المواطنين الى تلك المؤسسات المدنية لتكون قادرة على حمل مسؤولية تاريخية آن الأوان لحملها: مسؤولية احداث تغييرات جذرية كبرى في النظام الرأسمالي المتوحش الموبوء الحالي وفي ضبطه لجعله اكثر انسانية وعدلا، وأقل انانية وطمعا.
لا يمكن للعالم ان ينتقل من ازمة الى ازمة وهو لا يفعل اكثر من الصُراخ من الألم واليأس، بينما ملياراته من البشر تنظر الى احوالها بقلة حيلة وباستسلام لقدر هي صنعته لنفسها عندما وقفت ببلاهة امام جبروته.
942 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع