صيحة من أجل العراق .. تعليقا على مقال الأميرالحسن بن طلال

                                                
 
                        إبراهيم الزبيدي

إن من أسهل الأمور أن يجلس الواحد منا على كرسي الوعظ والإرشاد ويبدأ بالنصح والتحذير لاستنهاض الهمم واستثارة النخوة والدعوة إلى تحكيم العقل والحكمة. ولكن لن يتساوى من يده في الماء ومن يده في النار، إذ إن من الصعب، بل المستحيل أن ينفع دواء من الخارج لعلاج باطن مريض عصي على الشفاء دون جراح ماهر وأدوات جراحة صالحة.

إن في حديث الأمير الحسن من الأخوة والشهامة والعروبة الشيء الكثير، ولكن العراقيين اليوم بحاجة إلى عون فاعلين قادرين أقوياء يضعونهم على أقصر الطرق وأنفعها وأسرعها للخلاص من واقع معقد ومتشابك وخطير لا تنفع معه سياسة التبسيط والتأميل والتأجيل، خصوصا إذا ما ظل جيرانهم وأشقاؤهم، ومعهم أمريكا وبريطانيا والقاعدة والبعث، ينفخون في النار الموقدة من سنين.

إذ لا مفر من الصدام بين طوائف العراقيين وأحزابهم وزعمائهم إذا استمر هذا التصاعد العلني المتسارع في التحدي وأصرار كل طرف على قطع يد الطرف الآخر، وعنقه أيضا إذا أمكن ذلك.

وقف إمام مسجد إحدى القرى الصغيرة النائية على المنبر وراح يطيل في تحذير القرويين الفقراء من الخمرة، ويسرد عليهم أسباب تحريمها، وعواقب شاربها وناقلها، حتى مل أحد المصلين فنهض وسأل بعفوية:

(مولانا هي أين الخمرة التي تحذرنا منها؟ هل شاهد أحد منا قطرة منها؟، حدثنا عن قتل مهاوي، أو عن ذبح هايشة أم سوادي، يرحم أبوك).

وحين يلح الأمير الحسن على جعل وحدة العراق خطا أحمر، بلغة الأمر القهري القسري الفوقي المتمثل بكلمة (ينبغي) فهو يغفل الحقيقة القائمة منذ بناء الدولة العراقية الأولى على أسس رملية متحركة غير ثابتة وغير راسخة وغير متينة، بل غير منطقية وغير طبيعية، حين جرى لمُّ مكونات قومية وطائفية ودينية وعشائرية ومناطقية متباعدة وغير مؤهلة للوحدة وغير قابلة للصهر في بودقة واحدة. لذلك لم تفعل محاولات الخيرين، وغير الخيرين، من حكامه، وأولهُم الملك فيصل الأول، سوى التغطية على التنافر الدفين بوحدة ظاهرية مفروضة بقوة الشرطة والجيش، إلى أن جاء اليوم الذي رُفعت فيه قبضة (الوحديين العراقيين) القسرية عن إرادة المكونات المحتجزة في القمقم لتخرج كل واحدة منها إلى حيث الشمس والهواء الطلق، لتبحث عن مصير جديد وغد أفضل وأكثر أمنا وسلامة.

وحين نلقي باللوم على إيران وتركيا وأمريكا والسعودية وسوريا فيما يدور اليوم من تناحر، مخفي أو علني، بين الطوائف والقوميات والقبائل فإنما نقفز إلى النتيجة ونهمل المقدمات. فمن المعروف أن أية يد خارجية، مهما كانت قوتها وجبروتها، لن تعثر، في أي وطن، على فرد واحد تؤجره لتفجير مفخخة أو اختلاس أو اغتيال أو احتيال إلا إذا كان مؤقنا بأن هذا الوطن ليس وطنه، وأن أمنه ليس أمنه. بمعنى آخر. إن المخزون المتراكم من التوجس والخيفة وعدم الثقة والكراهية بين المواطنين يسهل العمل على الأيدي الوافدة من وراء الحدود. والعتب ليس على المتربص الخارجي بقدر ما هو على من يباعد، جاهلا أو عامدا، بين أبناء الوطن الواحد، ويقتل فيهم الإلفة والمؤاخاة والانتماء. وحين يشير الأمير الحسن إلى "مؤامرة كبرى خفية تخطط للإيقاع بنا جميعاً كأمة ممتدة في نزاع شامل، لا تخفى على عين كل محب لعروبته"، ينسى أن حب العروبة لا يحمي الناس من القتل والتعذيب والتهميش والتسقيط المنظم. كما أن حب العروبة، بعد ذلك، لا يأمر بأن يدير بعضنا خده الأيمن لمن يصفعه كل يوم على خده الأيسر.

ومرة أخرى يلجأ الأمير إلى الدعوة لرفع صوت العقل والحكمة لمواجهة "ما يمر به العراق الآن من ظروف صعبة وتحديات جمة" بعد أن سقط العقل وغابت الحكمة عن المتقاتلين أجمعين.

وأول ما ينساه الأمير هنا هو واقع العملية السياسية الخطأ في المكان الخطأ والزمان الخطأ أيضا. ولو ألقى نظرة عاجلة على موكب رئيس الوزارء نوري المالكي المكون من 30 سيارة مصفحة ومدججة بالسلاح، لتبين له أن في كل سيارة خمسة ضباط وجنود مدربين على فنون الحماية. أي أن عددهم مئة وخمسون مسلحا يتقاضون ربع مليون دولار عن كل جولة يقوم بها المالكي في أي حي من أحياء العاصمة، ونصف مليون دولار لكل زيارة يقوم بها لمدينة الحلة أو كربلاء.

http://www.youtube.com/watch?v=WlzC9IpqbqM&feature=player_embedded

ولهذه المبالغة في الاحتماء والتخفي دوافع متعددة: أولها شعوره الكاسح بالخطر وعدم الأمان، خصوصا بعد أن عمل جاهدا على تخريب جسوره مع جميع المكونات العراقية السنية والكوردية، وحتى الشيعية ذاتها. ولأن ما ارتكبه كبير جدا بحق مواطنيه من ظلم وتقصير وتخوين وتجريح فهو لا يثق بأي شريك، ويتوقع الغدر والاغتيال، لا من الأبعدين وحدهم بل من أقرب المقربين إليه. وثانيها اقتناعه بأن هذه المظاهر الباذخة والبهرجة الزائفة كفيلة بتخويف الآخرين وتحذيرهم من بطشه وجبروته وقوته التي لا تقهر. وثالثها رغبته في التعويض عن نقص متأصل في روحه وقلبه وعصبه من أيام الجوع والهوان السابقة أيام التسكع الخانقة في السيدة زينب بدمشق. لقد رأينا ونرى قادة مليشيات وزعماء عصابات أو رؤساء دول وحكومات يبالغون في وسائل الحماية ويولون سلامتهم عناية فائقة، كالرئيس الأمريكي والروسي وبشار الأسد وحسن نصر الله، ولكننا لم نر إلا في أفلام الرعب الأمريكية الصاخبة مثل هذا الموكب الأسطوري المثير.

وهذا، من جانب آخر، مثال صارخ على اللوثة السلطوية القاهرة التي تصيب حكام العاصمة على مر العصور، وتجعلهم يصرون على حكم العراقيين بالعصا، وإذلالهم وإجبارهم على الركوع، باسم وحدة الوطن وسيادته. وهو ما يفسر لنا أسباب العنف العراقي الدائم، وكثرة الانقلابات والانتفاضات والمذابح المنكرة.

وأرجو أن يكون الأمير قد سمع ما قاله المالكي لإحدى الفضائيات، تعليقا على مطالب المعتصمين السنة "إنهم لا يريدون تنفيذ مطالبهم، بل هم يردوننا في السجون" !!

بعبارة أخرى إن نوري المالكي، كغيره من الحكام الجانين، يحبس مصيره بين خيارين، فإما أن يكون هو في السلطة ومعارضوه في السجون أو المقابر، أو أن يكون معارضوه في السلطة ويذهب هو وأسرته وأقاربه ومعاونوه إلى ظلمات السجون أو المنافي.

ومن أهم تصريحاته النارية التي أطلقها تعليقا على تهديات سابقة من معارضيه بسحب الثقة، قوله: "بقينا نسمع هذا الكلام ست سنوات، وسنبقى نسمعه ست سنوات أخرى".

وهذا غرور مطابق تماما لغرور الراحل نوري السعيد قبل نصف قرن من الزمان. فحين بلغته تقارير أمنية تقول إن ضباطا مهمين في الجيش يتآمرون لقلب نظام الحكم الملكي، أطلق الباشا، بكبرياء وثقة عالية بالنفس، قوله الشهير "دار السيد مأمونة". ثم أردف يقول "إن الذي يقتل نوري السعيد لم تلده أمه بعد". لكن بعد هذا التصريح بشهور قليلة تبين أن دار السيد لم تكن مأمونة، وأن (أولاده) الضباط الذين خصهم بالرعاية والعناية البالغة ليكونوا حُماته وحُماة النظام الملكي كله هم الذين تآمروا عليه وأمروا بقتله وتعليق جثته على باب وزارة الدفاع.

بعد نوري السعيد بلغ الزعيم عبدالكريم قاسم نفس هذه الدرجة من الوهم، فآمن بأنه صاحب جمهورية "خالدة أصبحت كعقاب الجو". لكن رفاقه السابقين غدروا به، ذات يوم أسود، ومزقت رصاصاتهم رأسه، ثم بصق عليه، وهو قتيل، جندي عراقي غبي متخلف، على شاشات التلفزيون.

ثم لحق بهما عبدالسلام عارف الذي كان أكثر أسلافه ثقة ً بخلود حكمه العتيد. ومن الأمثلة المضحكة على غروره واستخفاه بمعارضيه، حتى لو كانوا من رفاقه وشركائه في العقيدة، رَدُه الشهير، حين علم بتآمر حركة القوميين العرب عليه عام 1965 قائلا: "ما ظل علينا غير العربنجية، والله اللي يمد راسه لأقصه بقندرة". ولكنه حين سقط فجأة بحادث الطائرة المشبوه راح مواطنوه العراقييون المتشفون بزوال عهده يتندرون ويسألون: "منو اللي صعد لحم ونزل فحم؟".

ثم جاء القائد الضرورة فبزَّ كلَ حكام العراق الراحلين في العنف والقسوة والرغبة في تأسيس امبراطوريته الخالدة. فأزاح من طريقه جميع المخاطر التي تهدد حكمه، حتى خلا له الجو، بالكامل، وهربت من بطشه غير المسبوق جميعُ المعارضات إلى الخارج، ومن لم يهرب غاب واختفى في سجونه المظلمة، أو في مقابره الجماعية الشهيرة. حتى صار الجميع، من أعوانه وأعدائه على حد سواء، يؤمنون بأن إسقاطه مستحيل، وراح العراقيون المغلوبون على أمرهم يتندرون ويغنون: "هلا بيك هلا، وبجدتك حلا"، أي أن عهده باق وسوف يتوارثه الأحفاد عن الأبناء. ثم انتهى ذلك القائد المخيف بساعات، وببضع دبابات أميركية، وبشلة من شطار المعارضة العراقية الحفاة العراة الواردين من مقاهي دمشق وطهران والرياض وعمان وواشنطن ولندن وباريس، ليرثوا قصوره ومزارع أبنائه وأحفاده وكبار أعوانه وتابعيه، ولكي يضع الحبل حول رقبته مجاهدو مقتدى وأبطال حزب الدعوة وموفق الربيعي، في أكثر المشاهد انتقامية طائفية مقرفة وهمجية وغوغائية في تاريخ العراق الحديث.

ومؤكد أن الأمير الحسن بن طلال كتب مقاله الجميل بتأثير المعارك الحامية الدائرة اليوم بين نوري المالكي ومحافظات السنة الست. ومن أجل فهم ما يجري لابد أن نعترف بأن هذه التظاهرات التي أهملت حتى العيساوي الذي اندلعت بسبب ما فعله به نوري المالكي، والتحركات العشائرية المقابلة في الجنوب لدعم المالكي باعتباره حامي حمى الطائفة الشيعية، واصطفاف الكورد، مرة مع المالكي ومرة ضده، دليل صارخ على حقيقة الانفصل المبدأي والروحي والسياسي والثقافي والاجتماعي بين مكونات الشعب العراقي. مع ملاحظة ما يجري من تسخين وتأجيج وتعميق لتلك الافتراقات بما لا يدع أملا في عودة إلى وراء. ولا يخفى على الأمير الحسن أمر النافخين الكبار في نارنا اللاهبة، والراقصين على لهيب حروبنا المستمرة من عشرات السنين.

من هنا أستطيع القول، وأنا بكامل قوايا العقلية السليمة، إن فكرة الوحدة الوطنية العراقية أكذوبة كبيرة كانت ميتة منذ ولادتها، وماتت هذه الأيام ميتة لا بعث بعدها ولا أمل، ولن تأمن قرية أو مدينة، ولن ينام مواطن واحد خاليَ البال، ما دام الوطن سلعة يتقاتل عليها حكام طائفيون عنصريون متخلفون، ومعارضون أكثرُ تخلفا وطائفية وعنصرية.

لابد من الافتراق الوطني الموعود. وإلى أن يحين وعده سيبقى المواطنون الأبرياء يدفعون ثمن هذه الوحدة الوطنية القسرية الكاذبة، من دمائهم وأرزاقهم وأمنهم اجمعين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1542 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع