د.ضرغام الدباغ
المراسلات
Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 195
التاريخ : / 2020
إلياس بازنا (شيشرون)
إلياس بازنا (Elyesa Bazna) مواطن ألباني الأصل، ولد في مدينة بريستينا (Pristina) بأقليم كوزوفو بالبانيا، عام 1904 هاجر من بلدته، بعد أن شهد بعينية مقتل عائلته على أيدي المتطرفين، ضمن أحداث دموية اجتاحت مناطق البلقان، واقليم كوزوفو أشتهر لاحقا أيضاً بأحداثه الدموية، ومن المؤكد أن هذه الذكريات قد حفرت في ذاكرته صوراً مرعبة، وذكريات قد تدفعه لفعل أشياء لا يفكر بها، تكمن ذي أعماق فكره .
بعد الاضطرابات التي شهدها في مسقط رأسه، لم يكن صعباً على عائلة إلياس الوصول إلى تركيا، قبل الحرب العالمية الأولى، وهو (إلياس ما يزال صبياً) فالعلاقة الألبانية ــ التركية حميمة، سمحت لإلياس أن يصل إلى تركيا ويقيم فيها كواحد من أبناءها، وهو يجيد التركية، وأمتهن مهناً عديدة ليكسب عيشه، في معسكرات الجيش الفرنسي في فرنسا، وعاملاً لدى شركة شحن في تركيا، ثم خادماً لمدة سبع سنوات لدى السفير اليوغوغسلافي، ثم لدى الملحق العسكري الأمريكي، ثم تعلم الغناء على يد مدرب ألماني، ثم خادماً لدى رجل أعمال ألماني، فخادماً لدى السكرتير الأول في السفارة البريطانية في أنقرة، ومنها توصل لأن يكون الخادم الخاص للسفير البريطاني في أنقرة السير هوغي مونتغمري (تشرين الأول / 1943)، وكان حتى ذلك الوقت متزوجاً وله أربعة من الأطفال، وهنا ابتدأت مرحلة جديدة من حياته.
سيبقى إلياس في خدمة السفير البريطاني حتى آذار / 1944، وكان السفير البريطاني قد دأب على عادة غير حميدة، مخالفة لأصول وقواعد العمل والتعامل مع الوثائق السرية والحفاظ عليها، وهي جلب الملفات السرية والفائقة الأهمية إلى جناح سكنه ليعمل عليها، وهنا أدرك إلياس أن بوسعه أن يضرب ضربته وينتهي من حياة الخدمة وتلبية الطلبات التى كان يجد بعضها سخيفاً كأن يطلب منه تدليك السفير، أن يرفع صوته بالغناء أثناء استمتاع سعادة السفير في البانيو الساخن.
وجد إلياس الملفات في متناول يده، أو يسهل الوصول إليها، فطرأت في باله الفكرة: أن يصور هذه الوثائق بكاميرا عادية ولكنها قوية من نوع لايكا (Leica) الألمانية، ومضى يصور كل يقع تحت يده. وقام بجرأة بالغة بالاتصال برجال السفارة الألمانية، وعرض عليهم ببساطة شديدة وثائق بريطانية مؤشر عليها أنها بالغة السرية (Top secret) وطلب مقابلها مبالغ باهظة تتراوح بين 20 إلى 30 ألف باون استرليني، وبعد أن تأكد رجل الأمن الألماني الملحق بالسفارة الألمانية بأنقرة من صحة الوثائق، وبعد أن أحاط سفيره فرانتز فون بابن (الشخصية الألمانية الرفيعة)، استأذن مراجعه في العاصمة برلين التي وافقت على هذا العرض. ومنح الأسم السري (الكودي) شيشرون. هذا الأسم الروماني التاريخي الشهير لأحد أهم رجال وشخصيات الامبراطورية الرومانية.
والواقع أن إلياس (شيشرون) لم يكن يهمه كثيراً من ينتفع ومن يخسر من جراء عمله، ولم تكن له دوافع سياسية، أو أخلاقية سوى جمع المال التي أقام خططه أن يتمكن أخيرا من أن يهنأ بحياة رغيدة ورفاهية، ويتمكن من خلال المال أن يحل مشاكله العائلية والعاطفية، ويضمن مستقبله، فهو لم يفعل ذلك بدوافع الحب أو الكراهية لا لألمانيا ولا لبريطانيا، كما أنه لم يكن يشعر أن يقوم بخيانة أحد (كمشاعر وطنية) بل وربما فكر في نفسه أن جميع هذه القوى الدولية الكبيرة بطريقة ما أوغاد ومجرمين ولا يبالون بحياة ومصائر البشر، والناس الذين تعامل معهم من الإنكليز أو الألمان، لم يكونوا يستحقون المحبة أو الاحترام، لذلك لم يكن هناك وازع أخلاقي يردعه عن عما يقوم به من عمل. وبلغ مجموع ما تقاضاه إلياس من السفارة الألمانية مبلغاً يناهز المليون ونصف من الباونات، ولكن تبين فيما بعد أن معظمها كان مزوراً.
المعلومات (الوثائق) البريطانية التي أوصلها إلياس إلى الألمان النازيين، كانت في بعضها خطيرة الأهمية ومن تلك محاولات بريطانيا سحب تركيا للدخول في الخرب، وكذلك الخطط البريطانية للإنزال في أوربا (نورماندي)، التي حدثت فعلاً في 4/ حزيران / 1944، ولكن تعامل الألمان لم يكن بالجدية التي تستحقها الوئائق المسربة، فهناك جهات في برلين، الاستخبارات الألمانية، قررت أن الوثائق صحيحة وتستحق الاهتمام، رأى وزير الخارجية يواخيم فون ريبنتروب (Jochim von Ribbentrop) أنها مزورة من الانكليز، المقصود منها تضليل الألمان، وبذلك يمكن القول أن ألمانيا لم تستفيد كما ينبغي من المعلومات الثمينة التي كان إلياس (شيشرون) يقدمها لهم.
وكادت ثغرة صغيرة تكشف عمل الجاسوس الماهر، حين أستخدم السفير الألماني(كانون الأول / 1943) في أنقرة معلومات هامة وسرية من الوثائق التي سلمها لهم إلياس، في محادثاته مع وزير الخارجية التركي الذي أبلغها للبريطانيين عن احتمال وجود ثغرة أمنية، ولكن الشكوك حامت حول أشخاص آخرين، إذ أعتقد الإنكليز بقلة ذكاء إلياس للقيام بمهمة كهذه، ولكن جرى بالمقابل فحص الموقف الأمني وتشديد الإجراءات، بما يرفع من درجة صعوبة العمل التجسسي.
واشتدت الشبهات، حين وردت معلومات موثوق بها إلى مركز الاستخبارات الأمريكية في برن / سويسرا (كانون الأول / 1943)، عن طريق جاسوس موثوق يعمل لصالح الأمريكان من قلب وزارة الخارجية الألمانية، شاهد بنفسه معطيات تشير أن هناك خرقاً أمنياً في السفارة البريطانية بأنقرة وهناك عميل أسمه (شيشرون)، وأن لدى المخابرات الأمريكية نسخاً من بعض تقاريره.
وفي 15 / كانون الثاني / 1944 أبلغ الرئيس الأمريكي روزفلت، رئيس الوزراء البريطاني تشرشل عن المعلومات التي تؤكد وجود خرق ألماني في السفارة البريطانية بأنقرة، وأن الألمان لديهم معلومات دقيقة عن مؤتمر القاهرة (22ــ 26 / تشرين الثاني / 1943) .
في مطلع كانون الثاني / 1944 نجحت المخابرات الأمريكية بالاتصال بسكرتيرة ألمانية تعمل في السفارة الألمانية بأنقرة وكسبها للعمل معهم، حتى هربها والتحاقها بالأمريكيين في 9/ نيسان / 1944، لكنها لم تنجح بمعرفة شخصية : من يكون شيشرون هذا ...؟
وفي 10 / شباط / 1944 تناقلت صحف بريطانية، أن هناك انشقاقاً ضمن محطة المخابرات الألمانية في أستامبول، وأن موظفاً ألمانيا يعمل في المخابرات الألمانية هناك قد التحق بجانب الحلفاء، الذي لم يكن يعمل مباشرة لصالح المخابرات الألمانية، ولكن لصالح الاستخبارات العسكرية، لذلك لم يشكل هذا الحدث أي خطورة على عمل إلياس ... وبقى شيشرون مرة أخرى أسماً غامضاً ..!
وفي آذار / 1944 استقال إلياس من عمله كخادم في السفارة البريطانية، وقد تسرب الخوف لقلبه أن يقبض عليه ذات يوم متلبساً، ومن جهة أخرى كان قد اكتفى بما حصل عليه من ثروة كبيرة (بمقايس تلك الأيام) ولم تشعر المخابرات البريطانية M16) إلا بعد مغادرته، وكان الإبلاغ قد ورد عن طريق المخابرات الأمريكية.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، شرع إلياس بتكوين حياة جديدة، ومن ذلك بناء فندق فخم في بوصة / تركيا، ولكن بعد أن أكد البنك البريطاني أن معظم الباونات التي بحوزته مزورة، تبددت أحلامه، ولمدة سنتين، كان عليه أن يشقى لكي يعيش ومن ذلك أنه صار يدرس الغناء، ومارس الغناء في الملاهي، وعمل في تجارة التحف (الأنتيك)، والقضايا المستعملة.
ولكن قصته بدأت تشتهر عالمياً، بعد الأخبار التي تداولتها الصحافة، والإشاعات، وأيضاً من خلال مذكرات رجل المخابرات الألماني في السفارة الألمانية بأنقرة، الذي كان رجل الاتصال المباشر بإلياس (شيشرون).
ولكن السفير البريطاني هوغي مونتغمري (الذي كان إلياس في خدمته، ويستنسخ وثائقه السرية) والذي تقاعد عام 1947، لم يشر بكلمة واحدة إلى حادثة إلياس (شيشرون)، في مذكراته التي نشرها عام 1949. ولكن انتشار أخبار عملية شيشرون أرغمت وزير الخارجية البريطاني على الاعتراف بالخرق الأمني في سفارة بريطانيا في أنقرة أمام مجلس العموم البريطاني في تشرين الأول / 1950، وحاول مخففاً من وطأة الأمر، أن شيشرون لم يحصل على النسخ الأصلية للوثائق، بل على تسخ مصورة منها.ولكنه أعترف أيضاً أن حادثة التجسس كانت ستكون مستحيلة لو لم يتهاون السفير هوغي في الحفاظ على الوثائق، ولكن السفير لم يتعرض للمساءلة رغم تقصيره وإهماله.
وفي فترة بعد الحرب، في الخمسينات، بدأت خطوط عملية إلياس(شيشرون) تتجمع وتنكشف، وأهم تلك الخطوط ما كشفه كاتب أمريكي، وربما ألماني الأصل، (جوزيف مانكيفيتش) يبحث في قصص الجواسيس والذي كتب كتاباً شهيرا بعنوان (خمسة أصابع) وأنتجت فلماً في هوليود / الولايات المتحدة الامريكية في مطلع الخمسينات، وكذلك الألماني الذي كان يتجسس لصالح الولايات الغربية من داخل وزارة الخارجية الألمانية، وشعور الإنكليز بأن سفارتهم في أنقرة / تركيا، كانت مخترقة، تحوم الشكوك عن أفراد ولكن دون التوصل لنهاية حاسمة، ولكن الخمسينات شهدت كشف تدريجي للخرق الأمني الخطير الذي يعتبر من أقوى عمليات التجسس في السفارات، وأكثرها فاعلية، وانتهت دون أن يكتشف الجاسوس.
والاستخبارات الألمانية كما نوهنا كانت تثق بالمعلومات (الوثائق) التي كان إلياس يقدمها في غاية الدقة، والانتظام، ولكن وزارة الخارجية الألمانية كانت تعتقد أن المعلومات هي فخ أستخباراتي، لذلك فاتتهم فرصة كبيرة بمعرفة مبكرة عن إنزال الحلفاء في نورماندي (4 / حزيران / 1944)، وتفاصيل عن مؤتمر القاهرة (22ــ 26 / تشرين الثاني / 1943)، بين الرئيس الأمريكي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، والزعيم الصيني تشان كاي شيك.
(الصورة مؤتمر القاهرة نوفمبر 1943: تشرشل، روزفلت، تشان كاي تشيك)
وفي عام 1954 طالب إلياس بازنا بجرأة، الحكومة الألمانية في عهد المستشار أديناور تعويضه بمبلغ 150 ألف باون استرليني،عن خسائره من العملات المزورة التي كانت الاستخبارات الألمانية تقدمها له، لكن الحكومة الألمانية رفضت طلبه، وفي محاولة أخرى كتب إلياس أحداث قصته في كتاب حقق نجاحاً جزئياً، رغم أنه صدر بعدة لغات.
عاش إلياس بازنا (شيشرون) بقية عمرة في مدينة ميونيخ الألمانية يعاني من العوز، وتوفي ودفن فيها عام (1970) عن عمر 66 عاماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شيشرون (Cicero):
الأسم الذي انتحله إلياس، بالاحرى الذي أختاره له ضابط المخابرات الألمانية في السفارة الألمانية / أنقرة هو أسم تاريخي شهير.
هو الكاتب والخطيب الروماني البارز، ماركوس تيليوس شيشرون، ولد عام 106 ق.م له إنتاج ضخم من الأعمال خطب وفلسفة وأراء في السياسة والحكم والقوانين، كان له دوره في مجتمع روما السياسي الغارق في التكتلات والتآمر والاغتيالات السياسية، ثم اغتيل هو شخصياً في ديسمبر ــ كانون الأول / 43 ق . م
2166 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع