عوني القلمجي
بين غزل امريكا وموشحات ايران : حروب عشاق
انتهت جعجعة ايران وتهديداتها بتوجيه ضربات صاروخية على قاعدتين للجيش الامريكي، انتقاما لمقتل جنرالها الميليشياوي قاسم سليماني. عين الاسد في مدينة الرمادي، وحرير شمال العراق. ويبدو ان الهدف من هذه الضربات ليس احداث خسائر بشرية في صفوف الجنود الامريكيين، او تدمير طائرات حربية مقاتلة او مخازن عتاد كما تبين لاحقا، وانما امتصاص نقمة الايرانيين الموالين للجنرال وحرسه الثوري من جهة، والحفاظ على هيبة النظام وعدم اهتزاز صورته امام الشعب الايراني وامام دول المنطقة من جهة اخرى. فسليماني هو قائد الحرس الثوري وفيلق القدس، ويتمتع بمكانة كبيره وموقع هام في القيادة الايرانية، وله الفضل في مد نفوذ ايران الى اربع عواصم عربية مهمة هي : العراق وسوريا ولبنان واليمن. وهذا ما يفسر عدم سقوط ضحية واحدة داخل القاعدة او خارجها. بل ان البعض اعتبر ما حدث مسرحية مدبرة، لحفظ ماء وجه القيادة الايرانية.
لقد اكدت، التصريحات المتبادلة بين اقطاب السياسة في البلدين هذه الحقيقة. فوزير خارجية ايران جواد ظريف قال "ان هذا الامر انتهى عند هذا الحد". ليرد وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، التحية بمثلها فقال "إن بلاده لا تسعى إلى الحرب مع إيران، وانها ستظل ملتزمة بوقف التصعيد". اما الرئيس دونالد ترامب فلم يكلف نفسه سوى جملة واحدة " كل شي يسير على مايرام"، ليعقبها في اليوم التالي بخطاب خلاصته، "ان امريكا لا تريد الحرب، وانما تريد حياة افضل، ليس للشعب الايراني وحده، وانما للنظام ايضا". اما الضربة القاضية، فجاءت من رئيس الورزاء العراقي عادل عبد المهدي، حيث قال لقد ابلغنا الجانب الايراني بتوجيه ضربة ضد قاعدة الاسد قبل اكثر من ساعتين وبدورنا ابلغنا ضيوفنا في القاعدة المستهدفة.
هذه ليست المرة الاولى التي يحبس العالم انفاسه خشية من نشوب حرب ضروس بين البلدين، ثم تنتهي الى لا شيء، او الى فعل عسكري محدود، ويعود الاخوة الاعداء الى التفاهم سرا او علنا. حدث مثل ذلك حين قصفت ايران، باسم ميليشيات الحوثيين، شركة ارامكوا وهدمت نصف منشاتها وعطلت نصف انتاج النفط السعودي، وايضا حين هددت ايران باغلاق مضيق هرمز وحجز ناقلات نفط امريكية وبريطانية، واستهداف ناقلات اخرى بطوربيدات متفجرة، سميت حينها بحرب الناقلات، ثم اسقاط طائرة امريكية مسيرة ذات تقنيات عالية قرب الاجواء الايرانية، مثلما حدث على الجانب الاخر، حيث قامت امريكا باعمال عسكرية موجعة، مثل قصف جوي على مليشيات مسلحة موالية لايران، مرة داخل العراق واخرى على الحدود السورية العراقية. وكان اخرها شن هجوم جوي على قواعد لحزب الله العراقي الذي قتل فيه حوالي سبعين مسلحا وجرح اكثر من مئة. وهذا يعني ان كل هذه الجعجعات، لا تقود كما يظن معظم الناس الى حرب ضروس، وانما هي رسائل من اجل العودة الى الاتفاقات، وعدم تجاوز طرف على حصة الطرف الاخر. فليس غريبا ان نسمع الان عن مفاوضات غير مباشرة، بدات بين امريكا وايران، عبر العديد من الدول، منها قطر وعمان وسويسرا. ولا نستبعد نجاح هذه الوساطات على المدى المنظور.
هذه الحالات ذات الطابع الحربي التي تنتهي بسلام، مردها يعود الى ارتباط البلدين بعلاقات تعاون وثيقة يصعب التفريط بها. وقد جرى تاكيده من قبل العديد من الشخصيات ذات الصلة، مثل ادوارد دجيرجيان، مساعد وزير الخارجية الامريكية الاسبق لشؤون الشرق الأدنى وافريقيا، ومن الباحثين السياسيين، جون سبوزتو وستيفن زوترو ومن الكتاب ذوي الصلة الوثيقة بالامريكان، الكاتب السياسي اللبناني الامريكي الفارسي الاصل فؤاد عجمي، ومن العراقيين احمد الجلبي وكنعان مكية وليث كبة ورند الرحيم وغيرهم الكثير. حيث وصفوه بالتعاون المتين الذي وضعت اسسه بشان العراق منذ سنة 1991. وتعزز ذلك التفاهم طيلة فترة الحصار على العراق، وبعد احداث ايلول عام 2001 اصبح شبه مكتوب. وقد نجد نموذجا لهذا التعاون ما صرح به كبار القادة الايرانيين مثل محمد علي ابطحي نائب رئيس الجمهورية الإيراني السابق محمد خاتمي، وعضو في المجلس المركزي لرابطة رجال الدين المقاتلين. وهاشمي رفسنجاني رئيس جمهورية ايران الاسبق، بانه لولا ايران لما تمكنت امريكا من احتلال بغداد وكابول.
دعونا نسترسل اكثر، فايران وامريكا يحتاج كل منهما الاخر. فالاولى تلعب دور العدو القوي الذي تخشاه الدول الضعيفة، وخاصة دول الخليج العربي، التي تضطر لضعفها طلب الحماية من امريكا لقاء اموال طائلة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، دفعت المملكة العربية السعودية وحدها نصف ترليون دولار لهذا الغرض. في حين قدمت امريكا لملالي طهران حصة كبيرة في العراق المحتل. فعلى المستوى السياسي، نالت ايران حصة الشريك، سواء في الحكومة او البرلمان او بقية المؤسسات. واقتصاديا استحوذت على كميات كبيرة من النفط دون مقابل. يضاف الى ذلك جني الاموال الطائلة التي دعمت الاقتصاد الايراني في ظل الحصار، من خلال تصدير مختلف المنتجات الصناعية والغذائية والدوائية باسعار عالية او في صفقات فساد لتهريب الاموال او دعم النظام الايراني، وهو يشهد تراجعا حادا في اقتصاده وقدرته على تمويل ميليشياته خارج الحدود . وعسكريا سمحت امريكا لايران حماية مكاسبها غير المشروعة، بقوة عسكرية، تمثلت بعشرات المليشيات المسلحة التي تمتلك من العدة والعتاد ما يفوق تسليح الجيش العراقي. كما ان الطرفين يعملان سوية لاذلال الشعب العراقي وتجويعه وتمزيق وحدته الوطنية وزجه بحروب طائفية لتامين هيمنة البلدين على العراق. وهذا ما يفسر وقوفهما بقوة ضد الثورة العراقية ومحاولة القضاء عليها باستخدام القوة العسكرية، التي راح ضحيتها استشهاد المئات من ابنائها وجرح الالاف واغتيال عشرات الناشطين والاعلاميين. ولا اجازف اذا قلت بان عملية قصف القاعدتين وسكوت امريكا عنها، هي في جزء منها العودة الى محاولة انهاء الثورة العراقية السلمية، او الالتفاف عليها.
اذا كان الامر كذلك، ترى لماذا كل هذه الحشود العسكرية الامريكية في مياه الخليج العربي، والتي تكفي لدخول حرب اقليمية؟ ولماذا هذا الاستنفار العسكري من قبل ايران؟
لا نجادل في حاجة كل طرف لمثل هذه القوات العسكرية، حيث لا توجد ضمانة اكيدة بعدم اخلال كل طرف بالتزاماته تجاه الطرف الاخر، يصعب حله بالطرق السلمية. لكن هذه الفرضية تسقط امام معادلة اختلال موازين القوى العسكرية بين الطرفين، التي تمنع الدخول في مواجهة عسكرية لا تحمد عقباها. فايران مثلا ليست مؤهلة لمواجهة قوة عسكرية عملاقة كافية لتدمير نصف الكرة الارضية كالتي تمتلكها امريكا، التي تتردد في شن حروب ضد دول من وزن ايران قد تكلفها خسائر مادية وبشرية، او تعرضها لحروب عصابات مسلحة، او اعمال ارهابية هي في غنى عنها. خاصة وان الشعب الامريكي قد عانى من الحروب كثيرا، واصبح كارها لاي ادارة تقوده الى الحرب. بل ان الشعب الامريكي درج على الخروج الى الشوارع في مظاهرات كبيره وصاخبة ضد الحروب.
اصل الحكاية، ان التهديدات المتابدلة والحشود والاعمال العسكرية المحدودة بين فترة واخرى، هي بمثابة رسائل متابدلة لتحسين موقف كل طرف على طاولة المفاوضات. وما حدث من تصعيد في الاونة الاخيرة، هو شعور الرئيس الجديد ترامب بالخذلان جراء سياسة سلفه باراك اوباما، الذي منح ايران فرصة لتجاوز حصتها في العراق على حساب امريكا، وصلت حد اجبار البرلمان العراقي عبر المليشيات الموالية لها، على اصدار قرار بطرد القوات الامريكية من العراق، واستقبال هذا القرار بهتافات مثل، "امريكا بره بره وايران تبقى حرة" او "نعم نعم لقائدنا قاسم سليماني، . الامر الذي دعا ترامب لاعادة الامور الى نصابها، واعادة ايران الى حجمها. وظني بان ايران استلمت الرسالة وفهمتها، ولن تحتاج لتنفيذها سوى المزيد من الوقت، مقابل رفع الحصار الاقتصادي عنها او تخفيفه. خاصة وان ملالي طهران يعلمون علم اليقين، بان امريكا لا تسعى الى اضعاف ايران الى درجة تفقدها القوة الكافية لتهديد دول المنطقة، والتي من دون هذا التهديد يصعب على امريكا جني الاموال الطائلة.
خلاصة القول، فان هذا التصعيد السياسي والعسكري بين الطرفين، هو من اجل الحل وليس من اجل الحرب. وان مثل هذا الحل السلمي بات قريبا. فايران لم يعد بامكانها الاستمرار في اللعب مع الكبار. خاصة في ظل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها منذ سنين طويلة، يقابلها وجود حركات سياسية وقومية معادية للنظام وتسعى الى اسقاطة. اضافة الى نشاط التيار المعتدل داخل القيادة الايرانية، الذي يرفض سياسة التوسع وتصدير الثورة، ويسعى الى بناء علاقات تفاهم مع الغرب وامريكا بالذات، تحفظ مصالح ايران الوطنية. وبالتالي خائب من يراهن على حرب امريكية ايرانية، لا في المستقبل القريب ولا البعيد. هذه هي الحقيقة التي لا ياتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها.
عوني القلمجي
10/1/2020
2799 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع