مشاركة السنّة في العملية السياسية.. قراءة نقدية 2-2

                                    

                     د. محمد عياش الكبيسي

 لم يختلف أهل السنّة في بطلان العملية السياسية من حيث المبدأ، وأنها تولّدت نتيجة لاحتلال غير شرعي وغير مبرر بأي وجه من الوجوه،

ولكن الخلاف كان على أشدّه في تقدير الموقف بحكم الواقع، فالدولة بدأت بالتشكل خاصة المؤسسات العسكرية والأمنية، وانسحاب السنّة يعني تشكيل الدولة من لون واحد، وهذا منذر بذوبان السنّة مستقبلا، أو بانقسام البلد انقساما طائفيا لا يمكن التنبؤ بتداعياته الخطيرة، وعلى هذا يمكن تلخيص الخلاف أنه خلاف بين من يتمسك بحكم الأصل وبين من ينزل إلى حكم الاستثناء على وفق قواعد الضرورة.
تجدر الإشارة هنا أن هذا الخلاف يدور فقط في الأوساط السنّية العربية، أما الكرد والتركمان فخيار المقاطعة على أساس «الثوابت الشرعية والوطنية» غير مطروح أصلا، فهم مجمعون على مشروعية المشاركة بكل علمائهم ودعاتهم ومثقفيهم ومن كل الشرائح والتوجهات، وهذا يضعف مقولة «الثوابت الشرعية والوطنية» ويحوّلها إلى مسألة اجتهادية قابلة للخلاف.
حسم هذا الخلاف بشكل واضح لصالح خيار المشاركة، وكانت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية العامة في المحافظات السنّية تفوق نسبة المشاركة الشيعية، ولذلك اضطر دعاة المقاطعة للنزول إلى مجادلة من نوع آخر، وهي التشكيك بجدوى المشاركة، مستندين إلى المعطيات التي أفرزتها السياسة الأميركية في العراق ومنها نسبة السنّة العرب؛ حيث حددها الأميركان بـ%20 فقط، وقد فصّلوا مجلس الحكم بناء على هذه النسبة، وكان يفترض بالسياسيين السنّة المشاركين في هذا المجلس أن يرفضوا هذه النسبة، خاصة أنها لا تستند على أية معلومة ذات قيمة، لكنهم اكتفوا بالمطالبة المتكررة بضرورة إجراء تعداد سكاني عام يفرز الانتماء القومي والمذهبي، وهذا يعني أنهم كانوا يأملون بإمكانية التصحيح.
أما الرافضون للمشاركة فقد تعاملوا مع هذه النسبة على أنها جزء من الثوابت الأميركية التي لا يمكن تصحيحها إلا بعد طرد الأميركان ومشروعهم بالكامل، وبناء على هذا فكل مشاركة سياسية في ظل الاحتلال إنما هي تكريس وتبرير لهذا الظلم، وفات هؤلاء أن السياسات الأميركية ليست كلها ثوابت، بل الأصل في السياسة المرونة والتغير، وأذكر ضمن تجربة شخصية ومحدودة أني عرضت لأحد المسؤولين الأتراك شاهدا من شواهد الظلم المقنن الذي يتعرض له السنّة في العراق، وهو عدد المقاعد المخصصة لكل محافظة في البرلمان العراقي، حيث إن عدد سكان الأنبار مثلا يقارب في تلك المرحلة المليون والنصف، لكن المقاعد المخصصة لهم تسعة فقط مع أن القانون ينص على منح مقعد برلماني واحد لكل مئة ألف!! ومثل هذا في الموصل المحافظة السنّية الأكبر بعد بغداد وكذلك المحافظات الأخرى، أخذ الرجل الأوراق والوثائق ووعد ببحث الأمر مع كل الجهات ذات الصلة ومنها الطرف الأميركي والسياسيين السنّة والحكومة العراقية، وقد تم بالفعل تلافي هذا الخطأ في الانتخابات التالية على مستوى المحافظات السنّية كلها، فتحولت مثلا المقاعد المخصصة للأنبار من 9 إلى 15، لكن لم يتم تصحيح الوضع في المحافظات الشيعية والتي ما زالت تمتلك عددا من المقاعد يفوق حجمها السكاني.
لقد كان الشيعة على تواصل مستمر مع القوى الدولية وحتى على المستوى الشعبي والدوائر الثقافية وقد تمكنوا من صناعة رأي عام ومعلومات مضللة، بينما كانت الاستراتيجية السنّية تعتمد على حالة من الغضب والأنفة من مناقشة مثل هذه المعلومات حتى على مستوى الإعلام، وكان الكثير منهم يظن أن مناقشة مثل هذه المسائل يعني الهبوط في مستوى الاهتمام أو أن هذا يتعارض مع الجهد المقاوم.
المشكلة لم تقف عند هذا الحد، بل إن المشاركين السنّة لم يتمكنوا من تحقيق التوازن الفعلي حتى وفق هذه النسبة الظالمة، حيث انخفض الوزن الفعلي لهم داخل المؤسسات الفاعلة في الدولة إلى ما دون الـ%5!!، وهذه النتيجة الفاشلة والقاتلة لم تخضع لحد هذه اللحظة لأية مراجعة تقويمية على أسس علمية وموضوعية، بل أصبحت مجرد دليل مجمل للمقاطعين ووسيلة مناسبة لتزهيد السنّة في المشاركة، أو لتسقيط المشاركين بدوافع شخصية أو حزبية.
إن المشاركين في الحقيقة لا ينتسبون إلى فئة أو منطقة معينة، ففيهم الأكاديميون والسياسيون والقبليون، وفيهم كذلك الإسلاميون والعلمانيون والمستقلون، وتشابه النتائج الكلية التي توصلوا إليها لا يمكن أن يعزى إلى وجود خيط ناظم أو نقطة ارتكاز جامعة سياسية أو فكرية، وكذلك لا يمكن اتهام كل هؤلاء بما ينتقص من إخلاصهم الديني أو الوطني.
إننا إذا وضعنا التجربة في إطارها الصحيح بعيدا عن الاتهامات المتبادلة والحسابات الشخصية أو الحزبية الضيقة فإنه يمكن أن نستنبط جملة من الأسباب التي تضيف لنا خبرة نافعة يمكن البناء عليها مستقبلا، ومن ذلك:
1 - إن الدولة التي تشكلت في ظل الاحتلال هي دولة بوليسية ومليشياوية وإن لبست ثوب الديمقراطية، وقد حدثني أحد الوزراء السنّة أنه لا يستطيع أن يصدر أي أمر أو قرار يخالف الجو الأمني السائد في الوزارة! وهذا يعني أن الموظف الشيعي في الوزارة قد تكون له الكلمة العليا بقوة العسكر والميليشيات الداعمة له، وعليه فإن أخطاء الوزراء السنّة مهما كانت لا تساوي الخطأ الأكبر الذي ارتكبه السنّة بعزوفهم المبكّر عن الانخراط في المؤسسات العسكرية والأمنية استجابة لبعض الفتاوى والشعارات السياسية الطوباوية التي كانت تستند إلى العواطف أكثر من تقديرها الدقيق للموقف وطبيعة الصراع.
2 - كان من الممكن أن تقوم المقاومة بسدّ النقص، وأن تفرض وجودها لتحقيق قدر ما من توازن القوى، وهذا يتطلب تنسيقا عالي المستوى مع الجهد السياسي، لكن الذي حصل هو مسارعة بعض السياسيين السنّة للتبرؤ من المقاومة وهم يظنون أن هذا يقوي موقعهم التفاوضي مع الأطراف المنافسة، وهذه زلّة سياسية ساذجة وخطيئة أخلاقية ودينية كبيرة، وقد قابل هذا تبرؤ مقابل من أغلب الفصائل ناهيك عن القاعدة التي تحكم وفق قراءتها الدينية الخاصة بالردة على كل من يشترك في «النظام الكفري» سياسيا أو عسكريا أو أمنيا! وهذا التوجه فتح بابا من الصراع الداخلي ذهب ضحيته المئات من السياسيين السنّة وحتى العلماء والمثقفين المساندين بوجه أو بآخر للتوجه السياسي.
3 - لم يبق لدى السنّة من أوراق ضاغطة إلا الجهد المدني الشعبي، ولكن الخبرة في توظيف هذا الجهد لم تكن كافية لدى الشارع السنّي، حيث كان التصور السائد أن مسؤولية الناخب تنتهي عند صندوق الاقتراع، ثم بعد ذلك يجلس لينتظر ما الذي يمكن أن يقدمه له الفائزون! وهو لا يسأل ما الذي يملكه هؤلاء من أدوات، لقد كان من المفترض أن يمارس الشارع دوره في مراقبة الأداء السياسي لنوابه ومساندة المبادرات والمطالب المشروعة التي يقدمونها، وعلى الأقل إفهام الحكومة وأجهزتها أن التجاوز على أي نائب سني هو تجاوز على المكون السني كله، فقوة النائب هي من قوة ناخبيه وليس العكس.
4 - أما السند الخارجي فقد كان مختلا بصورة أكبر مما عليه الوضع في الداخل، فالسياسي الشيعي مدعوم من إيران بشكل مفتوح ومباشر وربما من لبنان وسوريا والمناطق الشرقية في الخليج والجزيرة العربية، بينما السياسي السنّي محاصر وربما مخذول من أقرب الناس إليه.
أمام هذه التجربة المرتبكة بدا المشروع الإيراني وكأنه يعمل في فراغ بلا رادع أو منافس، حتى تجرأ على الاستعجال باستفزاز السنّة وجرح كرامتهم في كل مفصل من مفاصل حياتهم، فانطلق الحراك السنّي والذي بدأ شيئا فشيئا يأخذ طابع الثورة المتصاعدة ويلتقط بكفاءة ومهارة زمام المبادرة على أرض الواقع، ولا شك أن أهل السنّة قد استفادوا كثيرا من تجارب الماضي خاصة بعد تمكنهم من طرد القوات الأميركية الغازية وتفرغهم لمواجهة المشروع الإيراني بكل صوره وأدواته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

918 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع