بحث يقدمه
الدكتور ضرغام الدباغ
تعديلات جوهرية في النظام الدولي وإشكالية تحقيق العدالة الدولية
العدد : 161
التاريخ : / 2019
برلين / ألمانيا الاتحادية
ــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
نلتقي اليوم في هذا المؤتمر لغرض التوثيق العلمي لمسألة في غاية الأهمية والخطورة، وهي البحث في جرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر، والبعض من تلك الجرائم ما زالت تبعاتها تدور وتتفاعل حتى يومنا هذا، وتلحق الأضرار القاتلة بدرجات عالية ليس بالعشرات والمئات، بل بالألوف من أبناء الشعب الجزائري من الرجال والشيوخ، بل وتتوارث بعضها حتى الأجيال الجديدة.
إن جرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر هي متنوعة بحسب التخصص القانوني والسياسي لها، ويمكن أن تصنف على أساس :ـ
* جرائم الحروب :
والمقصود بها، وهي الجرائم التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقيات جنيف لسنة 1949، وهي انتهاكات خطيرة لقواعد الحرب ولا سيما إذا ارتكبت على نطاق واسع، إثناء نزاع مسلح داخل الدولة أو في حربها مع دولة أخرى. ومن الجدير بالذكر إن إدراج النزاعات المسلحة داخل الدولة له أهمية كبرى، فأغلب النزاعات هي داخلية، وأقلها هي جرائم الحرب بين الدول. والتأريخ يبين لنا أن أغلب جرائم الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية قد ارتكبت وما زالت ترتكب من قبل حكومات و جماعات معينة في نزاعات داخلية .
* الإبادة الجماعية :
هي الأفعال التي ترتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، ذلك بإهلاكها كلياً أو جزئياً بصفتها هذه. وهذه الأفعال تشمل القتل أو التسبب بأذى شديد.
* جرائم ضد الإنسانية :
هي الأفعال المحظورة التي ترتكب أثناء هجوم واسع النطاق، أو هجوم منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، كالقتل العمد، والإبادة والاغتصاب الجنسي، والإبعاد والتهجير والقتل القسري الجماعي للسكان، وجرائم التفرقة العنصرية، سواء ارتكبت هذه الجرائم في زمن الحرب أو السلم.
وببساطة نلاحظ أن معظم هذه الجرائم قد ارتكبت أبان الحقبة الاستعمارية للجزائر، وأن هذه الجرائم هي موثقة بأرشيف دقيق محكم، بملفات تصلح من الناحية القانونية للإحالة إلى المحاكم، ولا يعيق ذلك سوى عقبات واضحة معروفة تحول دون تحقيق العدالة، نختصر ذلك بجملة واحدة : أن النظام الدولي يقف عائقاً في تنفيذ قوانين دولية ومعاهدات واتفاقيات متعددة الأطراف، وتقف الملفات أمام حقيقة نهائية بارزة : عجز النظام الدولي عن تحقيق العدالة.
لقد ارتكبت جرائم حرب وضد الإنسانية وإبادة جماعية، بكافة فقراتها المروعة في العالم في القرن التاسع عشر والعشرين، وفي القرن الواحد والعشرين، وفي أرجاء عديدة من العالم: فيثنام، كوريا، وكمبوديا، فلسطين، أفغانستان، وفي العراق، وفي أرجاء عديدة من أفريقيا وأميركا اللاتينية. وهي بمجموعها تشير بما لا يقبل التأويل أن العالم لا ينقصه شيئ سوى التطبيق العادل لحقوق البشر، وسوى نظام دولي يعمل بموجب القانون، وليس بموجب المعطيات السياسية وقوى النفوذ والهيمنة، ويجمع فقهاء القانون، أن القضاء بكل مستوياته يصيبه الوهن، ربما لدرجة التعطيل إن تسللت المصالح السياسية إلى القضاء وحرفته عن مهماته السامية، وهي تحقيق العدالة. وإذا كان ضرورياً في الفقه الدستوري، استقلال السلطات التشريعية والقضائية كمقدمة لإقامة دولة دستورية دون تداخل للسلطات بما يؤدي إلى فساد عمل السلطات ولا سيما القضائية والتشريعية، فإن القضاء والحقوق الدولية ينبغي أن لا تخضع لأي سلطان سوى معطيات العدالة والقضاء الدولي.
وكانت القوى العظمى التي أسست نظام عصبة الأمم التي أقرت صراحة في فئاتها (Category, A, B, C) في إطار تقاسم الممتلكات الاستعمارية للدول المنهزمة في الحرب العالمية الأولى فيما أطلق عليه بنظام الانتداب الذي يشير صراحة إلى (حق) الدول المتحضرة، الأخذ بيد الدول المتخلفة (....)، وما نجم عن هذا النظام من سلب الكثير من البلدان والشعوب من حقها في التطور السياسي / الاقتصادي الطبيعي، من خلال نهب إمبريالي واضح، بل وأكثر من ذلك والأسوء منه فقد سيق أبناء تلك البلدان (المستعمرة وتحت الانتداب) إلى القيام بأعمال شاقة (استصلاح الأراضي، البناء، وشق الأنفاق)في دول المتروبول، وإلى جنود في حروب فتح وضم وإلحاق شعوباً وبلداناً أخرى. وكان الحكم الاستعماري الأوربي الفعلي في المرحلة 188/ 1878 يشتمل على 67% من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية، ما لبث أن أتسع إلى عام 85% عام 1914، حيث كانت قارات بأكملها تخضع للحكم الاستعماري المباشر. ومن بين مواطني تلك البلدان أبناء الجزائر الذين سيقوا في حروب استعمارية طاحنة في قارات أخرى لا مصالح لهم فيها.
(د. ضرغام الدباغ، الأمن العالمي في ظل العولمة، بحث مقدم للمؤتمر العلمي لجامعة لاهاي)
وفي المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فقد أتسمت بكثير من الدعوات لتصفية الاستعمار، الذي لم يعد يصلح كفلسفة، ولا كأداة للتوسع السياسي والاقتصادي والثقافي، فكان لابد من وضع نظام ذو آليات أكثر مرونة لتحقيق أستراتيجيات التوسع وتمثل ذلك في إطار وضع أسس لنظام دولي جديد، هيمنت فيه القوى العظمى الخمسة، وبالتحديد قوة الولايات المتحدة والغرب، مع وجود تأثيرات مهمة للمعسكر الاشتراكي، بما شكل قطبية ثنائية على مسرح العلاقات الدولية، ورغم ذلك حفلت تلك المرحلة بخروقات كبيرة ضد حقوق الشعوب في البلدان النامية، وفي بلدان التحرر الوطني.
أما الواقع السياسي الدولي في أعقاب مرحلة الحرب الباردة والقطبية الثنائية، والذي أتسم بقطبية أحادية انعكست على مجمل القضايا والمنازعات العالمية المعاصرة مما جعل المبادئ القانونية الدولية والمرجعيات الأساسية التي قام عليها موضع تساؤل. فقد استخدمت مصطلحات سامية كحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، بل وحتى إقامة الديمقراطية، بطريقة لا توحي بالثقة وبمعايير مزدوجة. ففي أعقاب مؤتمر مالطا (1991) وتفكك الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، شهد العالم وما يزال، مرحلة جديدة تتميز بالقطبية الأحادية، وبكثير من الغموض والتناقض، بين خطاب نظري يطمئن العالم بإمكانية إيجاد وتدعيم نظام عالمي يمنح ركائز قوية لإنسانية جديدة، وبين الواقع العملي يناقض الخطاب النظري، الممارس الذي يقلقنا ويجعلنا نرى في هذا التغير نوعاً من بسط الهيمنة بأساليب جديدة تهدف إلى السيطرة على العالم تحت غطاء مكافحة الإرهاب ودعم حقوق الإنسان. إذ توجد صعوبة في الموازنة ما بين حقوق الفرد وحقوق الدولة السيادية، وبين الاختصاص العالمي الذي يصطدم بمبادئ القانون الدولي التقليدي المرتبط بالسيادة وبمبدأ عدم التدخل، بالإضافة إلى تضارب مصالح الدول المتباينة.
ومن الواضح الجلي، أن الدول العظمى التي تحتكر (حق) امتلاك أسلحة الدمار الشامل(أو من تسمح لهم)، وحق الفيتو في مجلس الأمن، هو أمتباز يعطل نظرياً وواقعياً إمكانية حتى اتخاذ قرارات، قرارات ملزمة أو غير ملزمة، (حتى بالإدانة)، مما يعطل اتخاذ قرارات لا تتفق مع مصالح هذه الدول المهيمنة على المنظمة الدولية. بل وأن هذه الدول ترفض حتى الاعتراف أو الاعتذار الشكلي / الأخلاقي عن جرائم مارست فيها العبودية، بأشكالها ونتائجها على نطاق واسع، فقد أخذ الأمريكيون وتجار العبيد في البلدان الرأسمالية الملايين من سكان أفريقيا ولا سيما السواحل الغربية منها إلى الولايات المتحدة ليموتوا تحت سياط المزارعين البيض، أو ليجندوا في الحروب الاستعمارية وفي معارك عدوانية لضم وإلحاق وسيطرة وهيمنة على بلدان وشعوب أخرى.
ويمتنع ممثلوا دول الاستعمار القديم والعولمة الحديثة، مجرد الاعتراف بجريمتهم والاعتذار عنها، في أوضح تعبير عن الامتداد التاريخي لكلا النظامين. ففي مؤتمر دربان (الاستعراضي هو الاسم الرسمي للمؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية) الذي نظم تحت رعاية الأمم المتحدة في 2009، والمعروف أيضًا بدربان الثاني. بدأ المؤتمر في( 20 أبريل 2009) ، في مقر الأمم المتحدة في جنيف في سويسرا، فقد قاطع المؤتمر كل من: الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وكندا وإيطاليا وبولندا وهولندا. جمهورية التشيك التي كانت تترأس الاتحاد الأوربي أبان وقت انعقاد المؤتمر، كما قاطعته جزئياً ثلاثة وعشرون دولة عضوة في الاتحاد الأوربي المؤتمر وذلك عبر إرسال وفود منخفضة المستوى. وتمثلت مبررات الدول الأوروبية أن المؤتمر قد يستخدم للدعوة إلى معاداة السامية. وقد وجهت الدول الغربية أيضًا النقد أن المؤتمر لا يتعامل مع قضية التمييز ضد المثليين، بالإضافة إلى ذلك احتجت الدول الأوروبية لأن المؤتمر يركز بشدة على الغرب متجاهلا على حد قولهم مشاكل العنصرية والتمييز الديني في العالم النامي.
وتحسباً من إثارة ملفات جنائية كثيرة، يتميز موقف الولايات المتحدة من أعمال المحكمة الجنائية وصلاحياتها، موقف لا يتميز بالتجاوب والتعاون، وفي إطار تفعيل لدور المحكمة الجنائية الدولية، كانت مساعي الولايات المتحدة الأمريكية تتجه لفرض العديد من المسائل المؤثرة هيكل المحكمة الجديدة وأعمالها، ومن ذلك فقرة أساسية فشلت في فرضه هو أن لا ينعقد اختصاص المحكمة إلا من خلال مجلس الأمن الدولي، لتصبح الولايات المتحدة المتحكمة تمتعها بحق الفيتو مؤثراً أساسياً على سير المحكمة.
(المقهور، عزة كامل: المحكمة الجنائية الدولية، وزارة العدل الليبية، 2015)
وبصفة عامة، قاد التفوق الأمريكي الكاسح إلى اختلال جسيم ذو آثار عميقة في موازين القوى الدولية، تمثل في استخدام الولايات المتحدة مصادر قوتها في أهداف سياسية تمثلت بالتوسع على كافة الأصعدة، وأحد مصادر القوة الأمريكية البارزة هو اقتصادها. وذلك لأن الناتج الوطني العام في الولايات المتحدة الأمريكية هو أكثر من 11 تريليون دولار، وهو يزيد عن 20 % عن الناتج العالمي، أي ما يعادل مجموع المردود السنوي من البضائع والخدمات في جميع بلدان الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين، بالإضافة إلى اليابان والصين. والولايات المتحدة بعدد سكانها الأقل من 5 % من سكان العالم تستورد 18 % مما تصدره معظم بلدان العالم.
(السيد ياسين: مركز الأهرام، 2015)
كما تنفق الولايات المتحدة (في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين) ما يقرب من 500 بليون دولار سنوياً على الدفاع، أي أكثر مما تنفقه الصين وروسيا والهند واليابان وكل أوروبا مجتمعة، فالولايات المتحدة هي القوة الدولية الوحيدة القادرة على التدخل في أي من بقاع الأرض خلال فترة وجيزة، وإن كانت عاجزة عن إنهاء الأزمات الدولية بالسهولة التي أقتحمتها. وإذا أضفنا إلى ذلك القوة السياسية الغالبة للولايات المتحدة الأميركية، وتحكمها (إلى حد كبير) بالقرار الدولي لأدركنا أن قوتها المتعاظمة، بالإضافة إلى نفوذها الثقافي والإعلامي .
شمدت، هيلموت:(Schmidt, Helmut): مقابلة تلفازبة فبراير 2005 القناة الأولى/ ألمانيا.
وبرغم البروبوغادا الإعلامية فإن النفقات للقوات المسلحة تتصاعد في الولايات المتحدة، مما يثير القلق إن بلداً واحداً في العالم يمتلك كل هذه القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية ويستخدمها دون هوادة في كافة أصقاع العالم، يمثل خطورة شديدة على العلاقات والأمن والسلام العالمي، ويضع بصماته النازعة نحو الهيمنة في كافة مفردات العلاقات الدولية، بما في ذلك مؤسسات العدالة الدولية، فكيف لنا أن نتوقع من نظاماً ً دولياً كهذا أن يطبق العدالة دون مراعاة لنفوذه الممتد في كافة التفاصيل، وتصبح الصورة أكثر سوداوية إذا علمنا أن الولايات المتحدة لم تقبل أن تنضم إلى القوانين الجنائية الدولية، حماية لقادتها وجنودها حتى من المساءلة الدولية حتى الشكلية منها.
وتشير الاحصاءات إلى تصاعد في الحروب والنزاعات المسلحة في عصر العولمة فقد كان هناك 23 نزاعاً مستمراً محتدماً في العالم سنة 2001، أدت إلى مصرع 125 ألأف إنسان، بالإضافة إلى 79 نزاعاً متوسطاً حصد كل منها بين 100/ 1000 قتيل، وثمانية وثلاثين نزاعاً سياسياً عنيفاً، أدى كل منها إلى مصرع 25/100 شخص، ووصفت فقط 35 دولة خالية تقريباً من النزاعات السياسية العنيفة.
بريجنسكي، زبيغنيو: الأختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، ص51، بيروت/ 2004
ونظام العولمة (Globalisation) الذي نهض في أعقاب الحرب الباردة، وإن كانت له أبعاده الإيجابية في التأكيد على مبادئ الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان، ووفي شعارات اقتصادية تتمثل في منظمة التجارة العالمية التي قامت لتحرس مبدأ حرية السوق وتلغي القيود على حرية التبادل التجاري كافة، وتطلعات ثقافية تظهر في السعي لصوغ قيم ثقافية عالمية ملزمة لكل المجتمعات وتسري على جميع الثقافات. وأخيراً تجليات اتصالية عبارة عن تحول المجتمع العالمي إلى مجتمع شبكي، تسوده التدفقات المتنوعة في سياق الفضاء المعلوماتي الذي أحدث انقلاباً في التواصل والتفاعل بين البشر من خلال شبكة الإنترنت، وأدوات ثورة الاتصالات الكبرى الأخرى كالبث التلفزيوني الفضائي. إلا أن هذا النظام تأسس وقام على هدف واحد وهو التعامل وجني المكاسب من طرف واحد، على أساس نهب البلدان النامية كم شهد تنافساً شرساً على مصادر الخامات، وبذلك يفقد قيمته الأخلاقية، وإذا كانت العولمة السياسية ترفع شعار الديموقراطية فأهم ملاحظة يمكن أن نسوقها بهذا الصدد أن محاولات فرضها فرضاً بالقوة المسلحة كما حدث من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في العراق فشلت وستفشل في المستقبل.
والخطورة تبدو بدرجتها العظمى، في تطرف بعض الجماعات ودعوتها إما إلى الحكم الذاتي أو الانفصال عن الوطن الأم. وهذه مخاطر عظمى قد تؤدي إلى تفتيت الدول، وإثارة الصراعات الطائفية بين عناصرها الثقافية المتعددة. أما موضوع حقوق الإنسان فقد احتل مكانة كبرى في الممارسة السياسية العالمية، غير أن الذي يشوبه هو ازدواجية المعايير التي تمارسها بعض الدول الأوروبية وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية. فهذه الدول عادة ما تغض الطرف عن خرق حقوق الإنسان بواسطة عدد من الدول المستبدة، نظراً إلى حرصها على الحفاظ على مصالحها معها، في حين أنها لا تطبق معايير واحدة على كل الدول التي تخالف حقوق الإنسان.
وقد سعينا من خلال ما تقدم عرض المرتكزات والشروط الأساسية من أجل فهم دقيق للعولمة ومن خلال:
(الدباغ، د. ضرغام: الأمن العالمي في ظل العولمة، بحث مقدم للمؤتمر العلمي لجامعة لاهاي / 2007)
أولاً: أن العولمة هي مرحلة من المراحل التاريخية لتطور رأس المال المالي، بل هي أكثرها تطوراً، إن اتحاد الدولة مع رأس المال الاحتكاري، هذا الاتحاد الذي فرخ الدول الإمبريالية، فالعولمة اليوم تعبير على أن هذا الحيوان الهائل قد بلغ مرحلة متقدمة في تطوره، بل أنه يصح القول أن العولمة، هي أعلى مراحل الإمبريالية.
ثانياً: أن فعاليات الشركات المتعددة الجنسية قد تشابكت وتداخلت لتصبح من سمات الحياة الاقتصادية اليومية لمعظم شعوب العالم، وكذلك كثافة حركة رأس المال على الصعيد العالمي عبر شبكة هائلة من البنوك.
ثالثاً: إن الموقف الاجتماعي الداخلي( بسبب شدة تمركز رأس المال المالي لارتفاع كلفة المشاريع، وارتفاع معدلات التضخم) أدى إلى وقوع الدولة وأجهزتها في قبضة الاحتكارات وبيوت المال وغدت الدولة الرأسمالية الاحتكارية مسخرة بصفة مطلقة لخدمة هذه الاحتكارات وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة ومثلها الدول الرأسمالية الرئيسية وعلى الرغم من ثرائها الكبير، لا تعمل بمجانية العلاج حتى للفئات المسحوقة، بل أن تكاليف التأمين الطبي باهظة بحيث يعجز عن دفع نفقاتها فهناك،37 مليون أمريكي عاجز عن دفع نفقات التأمين الطبي عام 1990 وأن 20% من أصحاب الثروات يستحوذون على 90% من صافي الدخل القومي.(3)
3. Dietrich, Mario: Lebens Schild In USA, in Stern Nr. 22/1990, Hamburg, BRD
وحتى مطلع الثمانينات كانت شدة درجة تمركز رأس المال في الولايات المتحدة، بلغت درجة سيطرة ثمانية مؤسسات مالية كبرى هي: مورجان، روكفلر، ديبوت، ملبون، بنك أوف أميركا، بنك شيكاغو، بنك كليفلاند، بنك فرست ناشنال سيتي، بلغ رأسمالها المستثمر في السبعينات 218 مليار دولار.(4)
نامق، د. صلاح الدين: النظم الاقتصادية وتطبيقاتها، ص28 ، القاهرة/ 1982
رابعاً: أما على الصعيد الخارجي لأن اشتداد دولنة الاقتصاد(أي المزيد من جعله دولياً) جعل من ذلك العنصر الأساسي، السمة الأساسية للمرحلة وعنصراً مهماً في أقامة التحالفات الخارجية للدولة(الولايات المتحدة) التي تولت قيادة الإمبريالية الجديدة(العولمة) بفضل انفرادها بالهيمنة على العالم.
خامساً: ومع أن لكل مرحلة تاريخية من مراحل تطور الدولة الرأسمالية وسماتها التفصيلية، لكن العنصر الثابت يشير إلى استمرار السعي لجني الأرباح والتوسع السمة الرئيسية للرأسمال المالي ولكن مع أشداد ظاهرة الدولنة في الاقتصاد.
سادساً: إن التنافس بين الأقطاب الرأسمالية(المتروبولات) كان عبر التاريخ وما يزال فقرة أساسية في العلاقات بين الدول الرأسمالية وليس ظاهرة عابرة. وكثيراً ما وصل إلى ذروته(الصراع المسلح) وقد حدث ذلك في مراحل التاريخ دائماً (14,000) حرب ونزاع مسلح، أن التنافس والصراع على مراكز النفوذ واقتسام العالم كان السبب الرئيسي في هذه الصراعات، وسوف يستمر هذا العنصر ملازماً للرأسمالية في كافة مراحلها. وقد تقلص أسلحة الدمار الشامل عدد الحروب وأتساعها ولكنها لن تمنع اندلاعها بأي صورة من الصور.
يو، كاشليف : بعد أربعة عشر ألف حرب،ص 5، موسكو / 1979
سابعاً: أن نظام العولمة أثبت بالتجربة أنه نظام لا يهتم بالشراكة السياسية مع الدول المنظمة للمجتمع الدولي، بقدر ما ينزع إلى السيطرة والهيمنة، وتحفل سياساته بالمعايير المزدوجة، ويستخدم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان لأغراض سياسية، ويمارس استخدام القوة المسلحة بكثافة في كافة أرجاء العالم، وفي غياب لمعايير العدالة.
فالعولمة ببرنامجها الاقتصادي ـ الثقافي ـ السياسي، تواجه شعوب وأمم العالم، معتمدة على القوة في أرغام تلك الشعوب بوسائل الترهيب والترغيب في غياب قطب ينافسها أو يحدث التوازن في القوى، وبسبب القوة بل التفاوت الشديد في ميزان القوة لصالح الإمبريالية الجديدة، فقد أحدث اضطرابا واضحاً ضمن المعسكر التحرري وسادت الفوضى عدم وضوح الرؤية واختلاط المفاهيم، بيد أن ذلك هو أمر مؤقت، وهناك المؤشرات الكثيرة التي تدل: أن معسكراً عريضاً من القوى والحركات في سبيله إلى النهوض مجدداً لمقارعة الإمبريالية الجديدة.
ومع أن القوى العظمى(الصناعية الكبرى) هي التي تحدد مصطلحات المشكلات الدولية، وتحدد الحلول لها، فمشروع العولمة الذي يقدر أن يكون حكومة عالمية، نصبت نفسها دون اختيار، مع أن مبتدعوا العولمة يبشرون بالديمقراطية، هذه الحكومة العالمية، التي بسبب الإدارة النابعة من رؤية أحادية الجانب حيال المشكلات، وحيال الأمم أسفرت عن كوارث على جميع الأصعدة والميادين من تلك: الإرهاب، الهجرة غير المشروعة، التطرف، الأصولية الدينية، حدود الحصول على المستوى العلمي والتكنولوجي، التصرف بالمواد الخام، المساهمة بالأمن العالمي أو الإقليمي، حدود التسلح.
ويسجل العالم الأمريكي جون نيف من جامعة هارفارد، أن وثائق الدولة الانكليزية لعام 1671 شرح يقدمه العميد بحري سير أدوارد سبراك أن البحرية الفرنسية أسرت بحارة سفينة جزائرية مدنية شدوا وثاقهم وألقوا بهم في البحر، باستثناء غلام صغير قطع لسانه قبل إنزاله إلى الشاطئ، ومنذ تلك الحروب الاستعمارية، لم يعد حتى المحاربون يحترمون التقاليد العسكرية، والمنتصر يحاكم المنهزم.
ص 341/ نيف، جون: الحرب والتقدم البشري، ص 431، جامعة هارفارد 1950، طبع في بغداد /
وإذا كانت النتائج الاقتصادية هي ما أسلفنا، من تصاعد مديونية البلدان النامية، وتعاظم ظاهرة الفساد، والحروب الصغيرة والكبيرة، كما يعترف بذلك منظروا العولمة(برجنسكي في المبحث السابق: أن العالم لم يصبح أكثر أمناً، بالإشارة إلى تقرير سنوي حول النزاعات في العالم أن عام 2002 وحده شهد ثلاثة وعشرون نزاعاً مسلحاً راح ضحيته 125000 ألف إنسان، بالإضافة إلى 79 نزاعاً متوسطاً، تسبب في مقتل 100/1000 لكل منها، و38 نزاعاً سياسياً عنيفاً أدى كل منها إلى مصرع 25/100 شخصا، ولم تشخص إلا 35 دولة فقط في العالم تخلو من الصراعات السياسية العنيفة، أي أقل من ربع دول العالم).
وبسبب عنف العوامل الاقتصادية والسياسية والديمغرافية (السكانية) والصراعات والنزاعات المسلحة من حروب وحروب أهلية وأشباهها، تصاعدت أرقام الهجرات غير المشروعة من الدول الفقيرة صوب الدول الغنية، أو الدول الأكثر أمناً بما أصبح يمثل قلقاً حقيقياً لتلك الدول لتداخل العناصر البيئية والثقافية والاقتصادية والعرقية... الخ. ويشير بريجنسكي إلى أن مسائل الديموغرافيا والهجرة يمثلان تهدين جدين للاستقرار العالمي.
بريجنسكي، زبيغنيو: الأختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، ص11، بيروت/ 2004
وتشير الإحصائية التالية إلى أحدث الأرقام:
* مهاجرون من المناطق:
من آسيا: 1،3 مليون شخص سنوياً للفترة من 2000/2005
من أميركا اللاتينية(الجنوبية): 0،8 مليون شخص سنوياً ، 2000/2005
من أفريقيا: 0،5 مليون شخص سنوياً 200/2005
* أما المناطق التي استقبلت هؤلاء المهاجرين:
أميركا الشمالية: 1،4 مليون شخص سنوياً 2000/2005
أوربا: 1،1 مليون شخص سنوياً 2000/2005
اوقيانوسيا: 0،1 مليون شخص سنوياً 2000/2005
أما الدول التي استقبلت الأعداد الأكبر من المهاجرين(1)
المصدر Ausgabe vom; 26/2006, Hamburg, BRD : : Der Spiegel
وبرغم الجهود الحثيثة للدول المستقبلة للاجئين، الأوربية بصفة خاصة، فإن الأعداد تتصاعد، مخلفة المشكل الجسيمة سواء في بلدانهم التي نزحوا عنها، أو في البلدان المستقبلة، مشكلات ذات طابع ديمغرافي / اقتصادي، سياسي / ثقافي لا يمكن الاستهانة به.
(ARD: erste Deutsche TV Kanal. 2014 )
من حصاد العولمة أيضاً، تصاعد أعداد المرضى بالأمراض القاتلة: الإيدز وأنفلونزا الطيور وإيبولا، وقد استطاعت الدول الصناعية، بنجاح جزئي من الحد على التوالي، من انتشار أنفلونزا الطيور، وإيبولا، إلا أن شيوع انتشار العلاقات الجنسية المثلية وتقنينها(السماح بزواج مثليي الجنس) واعتبارها جزء من الحريات الشخصية، وتناول المخدرات بالحقن، عامل على استمرار استيطان هذا المرض المميت تقدم علاج الإيدز في مراحله المبكرة، إلا أنه باهض النفقات، ومن غرائب سياسات العولمة، رفض الدول الصناعية الأساسية المنتجة للعقاقير الطبية، تصنيع العلاج من قبل شركات من بلدان النامية(البرازيل) وبيعه بأسعار زهيدة للمصابين في أفريقيا، للإبقاء على أرباحها أولاً، وتحقيقاً لسياسة سكانية.
القاعدة عندهم: دعنا ندخل بلادك ونستولي على ثرواتك ونقتطع من أرضك قدر ما نشاء حتى دون تفاهم معك، وعليك أن تقبل، وإذا لم تقبل، بل أن ترحب وتظهر الفرح، فأنت ضد النظام الدولي، وإن قاومت .. فأنت أرهابي .. هذه هي النسخة الأحدث من المبادئ الديمقراطية.
هم بصدد صياغة ثقافة جديدة مفادها: يحق لنا أن نقتل من نشاء، وأن نثير الكراهية ضد من نشاء، ونشتري الأنفس والضمائر، وهذه عملية حضارية، نشتمكم صباح مساء في الصحف والمجلات وقنوات التلفاز وأفلام السينما، ونظهركم كوحوش الكرة الأرضية، ونصدر بحق رموزكم الصور وهذا فن وحرية رأي، ولكن إياك أن تشكك برقم مثير للشكوك، فتتهم بأنك معاد للسامية ويحكم عليك بمدة لا تقل عن عشرة سنوات .. نعم هذه صلب الديمقراطية ... وهكذا وإلا فلا...
إن شئنا أن نذكر معطيات بسيطة .. بسيطة جداً سيبدو ظاهراً للعيان حتى لمن كان بعين واحدة، أو بنصف عين من هو الإرهابي:
* قتل المستوطنون البيض 60 مليون من الهنود الحمر من سكان أمريكا الأصليين.
* قتل 100 ـ 200 مليون أفريقي أسود اختطفوا من أوطانهم في أفريقيا وتعرضوا لحملات صيد ونقلوا كعبيد إلى أمريكا لاستصلاح الأراضي تحت سياط المستوطنين في عبودية جماعية.
* قضت الحروب الصليبية على أربعة ملايين إنسان في المشرق العربي.
* قتلت الحروب الاستعمارية بعد الثورة الصناعية 50 مليون إنسان.
* قتلت الحربين العالميتين الأولى والثانية 70 مليون إنسان.
* أوربا قتلت 6 ملايين يهودي (وفق أرقامهم).
* قتل الأمريكان في العراق (بعد انتهاء الحرب) مليون و200 ألف مدني عراقي، وفق أكثر الأرقام تواضعاً.
* في المرحلة ما بين 1945 / 1975 خاضت الدول (المتقدمة) في أربعة قارات: أوربا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية 241 حربا أو نزاعاً مسلحاً منها: 9 في أوربا، 95 في أفريقيا، 137 في أميركا .
ويكتب الأستاذ الأمريكي نيف قائلاً: "التقدم الصناعي قلص احتمالات المواجهة الفردية في ميادين القتال، ومع بقاء قاعدة الاستراتيجيين وخبراء التعبئة إلى أن الهدف من إشعال الحروب هو القضاء على العدو، إلا أن أمماً بأكملها تحولت إلى أهداف حربية"
(جون نيف وهو أستاذ في جامعة هارفارد، في كتابه (الحرب والتقدم البشري)
John V. Nef: War and Human Progress, Harvard University, USA 1950
وفي افتتاحية عصر العولمة، يقوم 100 ألف جندي أمريكي، و160 من القوات الحكومية الأفغانية (82 ألف جندي حكومي، 80 ألف شرطي حكومي) وعشرات الألوف من قوات 42 دولة بعمليات عسكرية تستخدم فيها أحدث التكنولوجيا الحربية وأسلحة دمار، بهدف نشر الديمقراطية.....! . وبكتب بريجنسكي : أن الغالبية العظمى في شعوب أوربا خلصت إلى نتيجة أن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق عام 2003 هي حرب غير قانونية وخطرة.
بريجنسكي، زبيغنيو: الأختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، ص149، بيروت/ 2004
نحن إذن لم نعد أمام عالم متوافق حول نموذج اقتصادي واحد، وهو الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية. بل نحن في عالم بلا أقطاب، تتعدد فيه الأشكال والنماذج الاقتصادية، التي كثيرا ما تكون غير ليبرالية. نحن لسنا بصدد نظام عالمي جديد، بل فوضي عالمية، وعالم منقسم، ساخن، من المنتظر أن تندلع فيه نزاعات متعددة في المستقبل القريب.
حاجة ملحة لصياغة هيكل جديد للنظام العالمي، حتي يمكن استيعاب هذا العدد الكبير من الفاعلين المنتشرين بشكل غير مسبوق في جميع أنحاء العالم. لقد كانت التجارب التاريخية الغربية السابقة في إعادة تشكيل النظام الدولي تتم عادة من خلال إعادة تدوير الصياغات القديمة المتعلقة بتوازن القوي ومصلحة الدولة، بدلا من إنشاء صياغات جديدة، ولكن مثل هذه المقاربة لن تصلح في عالم القرن الحادي والعشرين.
ويري كيسنجر أن تعدد الفاعلين بشكل كبير في النظام الدولي الحالي، واختلاف قيمهم وتوجهاتهم علي الصعيد الاستراتيجي، يجعل من تطبيق المفهوم الكلاسيكي للأمن الجماعي عملية شاقة وصعبة ولذلك، بدأت الدول الأوروبية في البحث عن وسيلة تمكنها من موازنة قوة الاتحاد السوفيتي بدون مساعدة الولايات المتحدة. ولكن المشروع الأوروبي سوف يضعف تدريجيا
كارن أبو الخير: عالم بلا أقطاب الحقائق الاستراتيجية الجديدة في النظام الدولي، السياسية الدولية / الاهرام، 15 مارس 2015
ويشير أحد كبار الاقتصاديين في العالم(الدكتور هورست كوهلر رئيس مصرف النقد الدولي السابق)، في مداخلة، وجه فيها الانتقاد إلى نظام العلاقات التجارية العالمية، وأعتبر أنه يلحق الأضرار بالدول النامية، كما دعا الرئيس إلى منح صندوق النقد الدولي IMF المزيد من المرونة والحرية في اتخاذ قراراته، كأنه بذلك يريد القول أبعاد صندوق النقد الدولي عن حلبة التأثيرات السياسية، كما أنتقد الرئيس العولمة بأنها تزيد من شقاء البلدان الفقيرة. وأشار إلى أن العولمة ستسيئ إلى موقف البلدان غير الصناعية بدرجة العجز عن التنمية، وأن العولمة هو نظام بالغ القسوة."وحتى الآن لا: وهو لماذا يجب أن نغادر العولمة أقل وفقا لنفسك أو سلطة إنفاذ أقوى، نظراً لأنها يجب أن تفيد جميع الناس. وبوسعي أن أقول: أنك يجب أن تستفيد جميع الناس لأنه خلاف ذلك فإنه يمكن أن تمزق هذا العالم".
وجدير بالملاحظة، أن السيد كولر قد شغل منصب رئيس مجلس إدارة صندوق النقد الدولي لعدة سنوات قبل انتخابه كرئيس لجمهورية ألمانيا الاتحادية.
Kohler, Horst: Zu teilen lernen, Berlin, 6. November 2007
وفي استطلاعات الرأي التي أجرتها معاهد متخصصة(أواخر عام 2001)، برزت لدينا النتيجة التالية :
أن الجمهور يعتقد أن العولمة هي ضارة بمصالحهم.
تركيا: 60 ـ 34 %.
الهند: 54 ـ 35 %.
فرنسا: 54 ـ 35 %.
إيطاليا:52، 39.
في الولايات المتحدة:62 ـ 32%.
62 36% في كوريا الجنوبية.
اليابان: 50 ـ 24%.
بريجنسكي، زبيغنيو: الأختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، ص199، بيروت/ 2004
وفي محاضرة مهمة للمبعوث الدولي الألماني الدكتور هانز فون سبونيك، في جامعة أمريكية، قوله: التعلم من ما حدث في العراق، الضرورة الملحة لإصلاحات الأمم المتحدة. نعم نظام الأمم المتحدة بحاجة إلى إصلاح، يقلص من صلاحيات القوى العظمى، على القرارات الحاسمة الصادرة عن مجلس الأمن،
Sponeck, Hans Von: former UN Assistant Secretary-General and UN Humanitarian Coordinator for Iraq, talks about the illegal war against Iraq and the urgent need to reform the United Nations (part 1 of 6)
9 November 2001, University Temple United, Methodist Church
هذه المعطيات وغيرها بمجموعها وبتظافر تأثيراتها المتبادلة، تطرح ضرورة وواقعاً لا مناص من مواجهته : أن النظام العالمي الذي نعيشه، يحتاج إلى تكاتف القوى الدولية في العالم كافة لتغيير توجهاته تغييراً جذرياً، وهو ما أردت التركيز عليه في مداخلتي هذه. وأريد أن أكرر مقولة العالم الأمريكي نيف : أن أزمة الواقع الدولي، بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، قادت إلى ضرورة محاولات لتنظيم العلاقات الدولية، ومن الواضح الذي تقره جهات وهيئات دولية عديدة، تشير إلى أن مفردات الموقف في العلاقات الدولية المعاصرة تؤشر إلى اختلال واضح وعياني على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، بدرجة ترغمنا على الإقرار بضرورة إعادة النظر بالنظام الدولي الذي يحكم علاقات الدول والشعوب فيما بينها. وأن النظام الدولي الذي نعيشه في الألفية الثالثة يشير دون أدى ريب إلى نقاط ضعف وثغرات مهمة، تشير إلى ضرورة إدخال تعديلات جوهرية عليه، وهو ما أريد أن أركز عليه في مداخلتي هذه.
وفي تجذير لهذا التوجه، نشير أن الفيلسوف الألماني إيمانؤيل كنت (Immanuel Kant) كان قد سجل أفكاره في كراسته الشهيرة: نحو السلام الأبدي(1795)، أن ازدهار التجارة سيقود إلى السلام، وفي ذلك دعوة إلى اجتثاث النوازع الشريرة لدى الدول والبشر في السعي لجني الثروات لأن مصلحة المتاجرين تكمن فيه، وكان التطور التاريخي اللاحق أثبت خطأ هذه المقولة الفلسفية، وأن التقدم الاقتصادي لا يعني بالضرورة الكمال الأخلاقي. بل ربما العكس صحيح بمقدار ما، أن التنافس يقود إلى الصراع على المراتب الأولى، ثم أن الاستفراد سيقود إلى طغيان، وليس هناك طغيان حميد وطغيان فاجر.
Kant, Immanuel: Zum ewigen Frieden, S.3 Königsberg, 1795
كما أن الفيلسوف الهولندي سبينوزا (Baruch Spinoza) قد طور رأياً مفاده أن السلام يمثل فضيلة اخلاقية. بيد أن الجشع الذي لا سقف له، يجعل المتنافسين يغضون الطرف عن الأخلاق لصالح المكاسب المالية والسياسية. فقد أثبت الواقع التاريخي أن الثورة الصناعية وليدة عصر النهضة، قادت إلى الاستعمار وإلى حروب استعمارية تنافس فيها (المتقدمون) على المكاسب والمغانم وحصدت الحروب أرواح ملايين. يلخص العالم الأمريكي نيف هذه التراجيديا بقوله. لابد أن هناك خطأ فضيع أرتكب بحق الآمال التي راودت العقل الأوربي من أجل تطوير الحضارة الغربية. إذن فليس صحيحاً من ينتج السيارات الأجمل، ينبغي أن يكون الأكثر تحضراً ويحق له أن يضع نفسه في موقع غير متكافئ مع أمم وشعوب أخرى، وهذه حقيقة مريعة.
نيف، جون: الحرب والتقدم البشري، ص 442
إن المنحى العام في التحولات في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية كانت تقدمية في جوهرها،
2249 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع