ضرغام الدباغ
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 179
التاريخ / 2019
ريمسكي كورساكوف سيمفونية عنترة بن شداد
استعرضنا في إصدار سابق من مركزنا، سيرة وحياة المؤلف والموسيقار الروسي نيكولاي ريمسكي كورساكوف(1844 ـ 1908)، وإنجازه الموسيقي الهام شهرزاد، واليوم يقدم المركز عملاً آخر من عبق بلاد العرب في أوبرا رائعة كتبها بأسم الشاعر والفارس العربي عنتر بن شداد.
وقاد ميل كورساكوف إلى الموسيقى الروسية للأنغماس أكثر فأكثر في الموسيقى الشرقية وميله ذاك قاده أيضاً الى استلهام عالم القصص الشرقي، والعربي منه خاصة. وإذا كنا نعرف، الى حد الألفة، عمله «شهرزاد»، الذي ألفه آخر مراحل نضجه، فعلينا أن نعرف أن كورساكوف قد وضع في أول مراحل نضجه عملاً أوركسترالياً آخر عام 1868، مستوحى من القصص الخيالي العربي. لقد قرأ حكاية عنترة العبسي مترجمة الى الروسية من قبل الكاتب سينكوفيسكي، وبتشجيع من صديقيه الموسيقيين بالاكيريف ومسوركسكي اندفع بحماس لتأليف عمله الأوركسترالي
ورؤية كورساكوف لملحمة عنتر لا تشبه كثيراً ما تعلمناه في مصادر الثقافة العربية، ولا تتناول سيرة الشاعر والفارس العربي. ولكن تحلق في أجوائها، في فنتازيا جميلة. في عمل موسيقي اوركسترالي لا ينتمي إلى فن السيمفونية الخالص، بل هو أقرب الى فن القصيدة السيمفونية، الحرة من ضوابط شكل السوناتا، لأنه في بنائه كأنه يتابع حكاية أدبية، عبر حركات أربع. الألحان لا تعتمد نمواً ذاتياً بسبب ديناميكية علاقاتها ببعضها البعض، كما نلحظ ذلك في العمل السيمفوني الخالص التجريد، بل هي تجسد في نموها وتنقلاتها الأحداث التي تعتمدها.
تأثر كورساكوف بأساطير الشرق المليئة بالمغامرات والبطولة التي كانت تحكيها له أمه في طفولته ومن القصص التي أثرت به قصة عنتر بن شداد الشاعر والفارس العربي وهو وحيدا في الصحراء يرى وحشا بريا يكاد يفتك بغزال شارد فتتحرك في نفسه أحاسيس البطولة فيقتل الوحش وينقذ الغزال وكان الغزال مسحور فانقلب في الحال إلى ملكة حسناء تسمى (جلنار) ملكت عليه لبه وقد تعب عنتر من اثر مقاومة الوحش فينام نوم عميق ويحلم أن حبه من جلنار قد تحقق ويتزوجها ثم يصحو فيجد نفسه وحيدا في الصحراء.
لكن سرعان ما يتحقق حلمة ويذهب إلى الأميرة في قصرها ويعرض عليها حبه فتبادله الحب وينعما بالسعادة حقبة من الزمن لم يقطع حلو نشوتها إلا روح القلق لدى عنتر ففتر حبة وغضبت الملكة فتقبله قبلة محترقة يموت على أثرها وهو بين ذراعيها. وتتكون المتتابعة من أربع حركات هى :
الحركة الأولى (عنتر يفيق من حلمة) : تصور في بطء هدوء الصحراء اللانهائي وتؤدى آلات الفيولين لحن يمثل البطل عنتر ثم يتلوه لحن شرقى يعزف بالفلوت ليعبر عن الملكة جلنار برشاقتها ثم تتدافع الأنغام بقوة لتعبر عن خطورة الوحش الذي يهجم على الغزال الشارد يتلو ذلك تلاعب اللحنين في حوار جميل ليصور الحب بين عنتر والملكة يتلو ذلك فقرة موسيقية تعزفها مجموعة الفلوت لتوحى بجو القصر الذي يقصده عتر ثم تعزف الفيولين والفلوت لحنين شرقيين يصوران غناء الجوارى ورقصاتهن ثم نسمع لحن عنتر ولحن الملكة في تحوير وامتزاج ليعبر عن الحب المتبادل ثم يختفي اللحنان لتظهر المقدمة الموسيقية التي بدأت بها المتتابعة لتعبر عن استفاقة عنتر ليجد نفسه وحيدا في حائل (في شبه الجزيرة العربية) الصحراء.
الحركة الثانية (الانتقام): تبدأ عنيفة وتظهر لحن البطل المنتقم في تحوير فني فتارة يبرز منفردا وتارة يمتزج بنغمات قوية ترمز للانتقام حتى نهاية الحركة.
الحركة الثالثة (القوة) : تصور موكب البطل تتقدمه الموسيقى الحماسية التي تمثل أبهة الشرق وعظمته ثم تتغير إلى لحن شرقي تعزفه الآلات الوترية وينمى بجميع آلات الاوركسترا ويتكرر في طبقات مختلفة ثم يعود اللحن قويا تصاحبه الآلات النحاسية لتختتم الحركة بعظمة مناظر من الأرض التي عاش فيها عنتر.
الحركة الرابعة (نشوة الحب ونهاية عنتر) : ويظهر فيها لحن الحب وهو لحن عربى يمثل الإغراء وتعزفه موسيقى جميلة حتى يظهر لحن عنتر معزوفا بالآلات النفخ الخشبية وتمتزج الألحان لترمز إلى الحب العنيف وهنا تصل الموسيقى لقمتها الدرامية ثم تنحدر هادئة وتصور لنا البطل وقد لقي نهايته المحتومة بين ذراعي محبوبته وهنا يظهر لحن الملكة جلنار وكأنها ترثى حبها الضائع.
في الحركة الأولى نرى أنفسنا في صحراء الشام، بين خرائب مدينة تدمر القديمة. هناك حيث فضّل عنترة عزلة الصحراء على الناس، بعد خيبة أمل منهم. فيبصر غزالةً، يحاول ملاحقتها، ويطرد طائراَ جارحاً يحاول اصطيادها. ثم انه في الحلم يرى نفسه بين يدي ملكة تدمر الجميلة، وهي ترعاه بعواطف حبها، لأنه أنقذها من مخالب الطائر الشرير حينما كانت غزالة، فتعده بأن تمنحه أمنيات الفارس الثلاث: الانتقام، والقوة، والحب. ثم في اللحن الأخير المتباطئ نشعر بعنترة وقد استيقظ من حلمه. هذه الحركة تتابع: بطيئة، سريعة، بطيئة، متسارعة، متباطئة...الخ، لأن أحداث الحكاية كثيرة التحول كما رأينا. ولكن ثمة موضوعة لحنية معتمدة دائمة التواصل تذكرنا بشخص الفارس عنترة، لا تغيب على امتداد العمل الموسيقي
في الحركتين المتسارعتين الثانية والثالثة نسمع تمتع الفارس بالهبات الممنوحة من قبل ملكة تدمر، وهي انتقامه من أعدائه والتباهي بقوته.
الحركة الرابعة تنصرف لألحان الحب، حيث يتعهد عنترة لها بالحب الحار، ويعدها بموته إذا خالف ذلك. وحدث أن بردت عواطف الفارس، فمات بيدها، وبين يديها.
وبرغم عدم تشابه أحداث السيمفونية مع ما نعرفه عن حياة الشاعر عنترة العبسي، إلا أن الرواية التي أعتمدها كورساكوف لا تخلو من المبادئ الأساسية في سيرة عنتر بن شداد، في القوة، والشجاعة، والمسارعة للنجدة، والتضحية في سبيل الحرية والعشيرة والحبيبة. هذه المبادئ الأساسية في سيرة عنتر، وقد وضعها الموسيقار الروسي الكبير كورساكوف في إطار جميل لا يشذ بعيداً عن جوهر والمغزى الحقيقي لملحمة عنتر بن شداد الفارس والشاعر، الذي تسجل الدواوين واحدة من أجمل أشعار الحب باللغة العربية :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر :
1. الموسوعة ألألمانية.
2. موقع اليوتيب.
سمفونية عنتر بن شداد
https://www.youtube.com/watch?v=m_v0reuekg4
3086 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع