محمد سهيل احمد
حين تتجاور الأمكنة .. حين تتحاور الافكار
بالأمس القريب قرأت مادة ادبية على الفيسبوك للكاتب الكبير محمد خضير وكانت بعنوان ( في موقف الباص ) . الغريب ان زمن تواجدي في شارع الرشيد صبيحة السابع عشر من تموز
اقترن بتواجد رفيق الحرف الاستاذ محمد خضير الذي توقف امام مدخل سينما ( غرناطة ) بالسنك في ذلك الصباح الاستثنائي والذي حفزه لكتابه المادة الابداعية ادناه والتي تحمل عنوان ( في موقف الباص ) تضمنت افكارا عن ذلك الحدث الذي اثار ومايزال يثير الجدل ، لتعقبها كتابتي المعنونة (ابي وانا في بغداد صبيحة السابع عشر من تموز 1968 ) كتعشيق لتواجد اثنين في شارع واحد دون ان يعلم احدهما بمكان الثاني وهما يستمعان الى خبر الثورة او الانقلاب :
النص الأسبق : في موقف الباص
للكاتب محمد خضير
من المواقف (حسب ارتباطها بموقف الباص، وتوقيف الحبس، ووقف التركة، وقفو الآثار، وقفا الوجه، وأخيرا وقوف الزمن) التي تطرأ على ذاكرة إنسانٍ طارئ على جو بغداد الصيفي، وقوفي في رواق شارع الرشيد، منطقة السنك، صبيحة السابع عشر من تموز 1968، منتظراً باص مصلحة نقل الركاب رقم 4 (الرقم السحري الذي سيحجز لي مقعداً بجانب سيدة سافرة، لم تبارح منذ ذلك اليوم).
طال انتظاري ساعة، أو نصف نهار، إذ لم يكن في انتظاري أحد من الناس (ضابط انقلابي، تابع متآمر، سيد مخذول، رجل متبغدِد، سيدة صعدت قبلي الباص رقم 4) حسب موعد واتفاق وترصد. كلّ من هؤلاء أراد أن يحتلّ مقعداً في صالة سينما غرناطة، التي ستعرض فيلم زوربا اليوناني، خلال ذلك الصباح (واشتغلَ الفيلم بغياب هؤلاء جميعا). كنت المشاهد الوحيد الذي خذله الزمن وأوقفه مرات ومرات على مفاجآت مصيرية (يا لبغداد المتآمرة على الزوّار المطارَدين في أحلام يقظتها الصيفية!). دعني أقل: زوربا الذي انتظر ذلك الصباح أن يبدأ رقصته في وسط الشارع الاسفلتي، في النصف المشمس منه، سيرسم ظلاً عميقاً في وجدان ستينيّ معبأ بالانتظار (زوربا أو غودو، ترجمتان ساخنتان متاخمتان لصباح انقلابي على القصر الجمهوري).
لم يحدث شيء لدقائق؛ الصمتُ الحارّ، سيّدُ الرواق، هيأ المشهدَ لانقلاب مدبَّر. فجأة ركض شخص منطلقاً من ظلّ الرواق، عبرَ الشارع واختفى في زقاق (زقاق اكتسب شهرته من محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم صبيحة 27 تشرين الأول 1959). كان الشخص (المتآمر) يرتدي معطفا فضفاضاً في ذروة الصيف، سرعان ما عاد الى الجانب الآخر من الشارع واختفى في زقاق مقابل. تمت هذه الحركة بأسرع من انفضاض الحلم الذي ينتظر باصَ المصلحة الأحمر ذا الطابقين (باص المؤامرات).
دعني أقل: كلّ شيء في ذلك الصباح اصطبغ باللون الأحمر، رغم أن الانقلاب تمّ بلا إراقة دماء. حادث مرتّب، لم يغيّر عنصراً واحداً حول موقفي، أو يزحزح موجودات التاريخ قبله (منذ ذلك النهار والأحداث تجري على هذه الشاكلة: عنف أبيض ورتابة مخيفة). أجل، سيطر الخوف على كياني الضعيف، واقتلعني من موقعي، ثم وضعني الى جانب السيدة في الباص رقم 4.ما جرى بعدئذ معروف: إزاحات متوالية، مؤامرات صامتة. بغداد الحالمة أبداً بمنشورات تلصقها أيدٍ خفية على اسطوانات رواق الرشيد، تدخلني في رقصتها بلطف شديد، اعني بمراوغة غير محسوسة (لم احسّ بنزول السيّدة السافرة من الباص، فظننتها تسكن الحلم أصلاً، في مؤامرة مستمرة حتى اليوم). أيها السادة، يا متآمري الزمن الأبيض (الثورة البيضاء) الهرِمين: حدثت حركة خاطفة كالعادة، ولم يحدث شيء فوق العادة. محطة الانتظار هي نفسُها، شخصٌ هو الشخص ذاتُه، يعبر الشارع راكضاً من جانبي، ثم يعود بصفطة منشورات الانقلاب تحت معطفه. الشارع نفسه، لكن الرقصة اليونانية لم تبدأ. غودو ثانية وثالثة ورابعة... الآن وإلى الأبد.
والآن الى نصي التعقيبي :
ابي وأنا في بغداد
صبيحة السابع عشر من تموز1968
" الى الصديق الرائد محمد خضيرتعشيقا مع نصه المعنون في موقف الباص والذي نشره قبل ساعات "
في اواخر حزيران من عام 1968 وجدت نفسي بمعية ابي في احد عربات القطار الصاعد الى بغداد من اجل ان يستكمل معاملة تقاعده الذي كان مبكرا الى حد ما بسبب وضعه الصحي الهش والذي حفزه على طلب التقاعد كمراقب بسيط في بلدية البصرة .
كانت مديرية التقاعد العامة منزوية في احدى الحارات القريبة من سيد سلطان علي ما اتاح لنا مراجعتها بدون ان نستخدم اية وسيلة مواصلات سوى ارجلنا الصامدة ( لم يكن والدي سنتذاك قد تجاوز الخامسة والخمسين من العمر الا ان هيكله المغزلي كان يوحي للناظر بأنه كان اطعن سنا ) وقد آثرنا اختيار فندق بيروت الذي كان اجر المبيت فيه مائة فلسا لكل نزيل . ويبدو ان والدي وجد الاجر زهيدا بل ومناسبا لميزانيته المرهقة .
قضينا شهرا بأكمله في ذلك الفندق الشعبي وكان فطورنا لا يتجاوز صمونتين لكلينا وكأسا من اللبن حتى مكثنا على تلك الحال ثلاثين يوما متلاحقة نفطر على تلك الوجبة ونتعشى او لا نتعشى شطيرة بطاطس او باذنجان . وكنا نقضي جلّ نهاراتنا في دائرة التقاعد فبعد ان قدم والدي اوراقه من اجل ترويجها وتمشيتها لاذ بصمت يشبه صمت ابي الهول اعتاد ممارسته كلما وقف امام موظف الدائرة دون ان يتجشم عناء السؤال عن مصير معاملته ، واحسب ان ابي كان يعاني من عقدة نقص سايكولوجية جعلته يفتقد كينونته كمخلوق بشري وكموظف بعد ان اشبعه مدير القسم الذي يعمل فيه عقوبات وتنقلات وخصومات من راتبه الهزيل في حضرة اسرة كبيرة عددا .
ومضت الاسابيع الاربعة ونحن على حالنا نمارس زيارة الدائرة وننتظر كلمة من فيه الموظف المعني واعتقد ان لقبه كان الخشالي يخبرنا فيه بانجاز المعاملة من دون جدوى . ثم نعود الى بيروت المربعة كي ننال وجبة لبن وصمونة لاتشبع ولاتسمن . وما ان ينصرم النهار حتى نكون اول المرتقين الى سطح الفندق من اجل عد النجوم ، ربما . وحدث ان تعرف ابي على تاجر رخام اردني اسمه ( عثمان ) كان من رواد ذلك الفندق الواقع خلف مقهى المربعة . ويبدو ان أرضة الافلاس قد تسربت لجيب والدي لأنني وجدته وللمرة الأولى في حياتي يسأله عشرين دينار قرضا لحين انجاز المعاملة .وقد اثارعجبي ان عثمان قد وثق بأبي واقرضه ذلك المبلغ !
في صبيحة السابع عشر من تموز وجدتني على الرصيف المقابل لاورزدي باك مبعوثا من لدن ابي لاحضار سندويتشتين من مطعم صغير حين صرح راديو مقهى المربعة القريبة من ساحة حافظ القاضي بوقوع ما سميت فيما بعد بـ ( الثورة البيضاء ) ويبدو وللأمانة ان لون الثورة كان ابيض ولساعات ذلك ان لونها سيصطبغ فيما بعد وبدءا من 1979 بلون الدم ! وللامانة لا بد من القول انني لم اسمع صوت قذيفة الدبابة التي اطلقها الانقلابيون على مقر عبد الرحمن عارف من اجل اسكاته وبالتالي ايقاف اية دمدمة احتجاج من رئيس الجمهورية !
الآن ـ وأنا اقرأ نص ( في موقف الباص ) الذي يقول فيه الاستاذ محمد انه كان يسعى لمشاهدة فيلم زوربا في احدى سينمات ( السنك ) اتذكر وقفتي تلك امام بائع اللفات بالقرب من دار سينما ( الوطني الشتوي البغدادية ) واتذكر انني وبعد سماعي لخبر الانقلاب ارتقيت سلالم الفندق الى حيث ابي الذي طالته اشعة شمس الصباح التي غمرت سطح الفندق . اذكر انني نظرت الى الافق الجنوبي باتجاه السنك وباتجاه صديق الحرف والقلم الذي تقدمني فنا ونصوصا مطلقا على تلك الوضعية تسمية ( التجاور ) . ذلك التجاور بيني وبين الاستاذ محمد لم يكن للمرة الاولى فقد استأجر والدي وعمي بيتا مشتركا ملاصقا لبيت صديقي القاص في حي المناوي باشا والذي التقيته فيه مرة واحدة قبل ان تدفع بنا ريح الأحداث الى الأقاصي . واشتركنا كمحمدين اثنين في مسابقة ملحق جريدة الجمهورية الأدبي مضافا الينا الكاتب محمد عبد المجيد حتى صرنا المحمديين الثلاثة ـ على حد انتباهة الصديق الراحل حسين عبد اللطيف ـ وها انا الساعة افكر انه لو لم يكن ابي معي ولو كنت قريبا من سينما غرناطة لالتقيت الصديق محمد خضير وتفرجنا معا على رقصة زوربا . يالغرائب الاصطفافات والتجاورات والحياة في هذا الكون اللامتناهي !
واعود الى اوراق تقاعد ابي اذ اننا وفي اليوم الذي اعقب استقرار الأمور في الساحة السياسية توجهنا كعادتنا لدائرة التقاعد لنجد معاملة ابي وقد انجزت بالكامل ليسلم في سرور خفي مبلغ الثلاثين دينار ويسدد ماعليه من دين لصاحبه تاجر الرخام عثمان وحساب الفندق . لنسرع الى محطة القطار النازل الى البصرة . غير ان تلك الرحلة عملت على قلب روحية ابي الصامت الحرون 360 درجة فتحول من كائن صامت حدا بنا لأن نسميه بأبي الهول الى كائن آخر متدفق طيلة رحلة القطار فتحدثنا عن همنغواي وسلسلة منير بعلبكي والف ليلة وليلة وكليلة ودمنة اذ كان ـشأنه شأن قراء ايام زمان ـ مولعا بقراءة شتى اصناف الكتب الادبية والتاريخية ، حتى امسى حديثه ذا شجون وتحول الى مخلوق ( ثرثار ) ليس اثناء رحلة العودة وحسب بل الى آخر يوم من ايام حياته حين راح في ظهيرات البيت يبادل امي أحاديث مغلفة بنوستالجيا ابي الخصيب في أمسه الهانئ البعيد.
630 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع