اسماعيل مصطفى
منزلة الإنسان عند الإمام علي عليه السلام*
حظي الإنسان بمنزلة رفيعة في تعاليم الإسلام وشرائعه العظيمة ظهرت بصورة جلية في آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأكرم (ص).
في هذه المقالة نسعى لبيان جانب من هذه المنزلة في أقوال سيد العارفين الإمام علي عليه السلام الذي أولى الإنسان اهتماماً خاصاً يليق به باعتباره خليفة الله في الأرض وقد ورد عن النبي (ص): ما من شيء أكرم على الله من ابن آدم. ولخّص الإمام اهتمامه هذا في كلمته المشهورة "واعلموا أنه ليس لأنفسكم ثمن الّا الجنّة فلا تبيعوها إلّا بها" مشيراً الى هذا المعنى في مكان آخر بقوله: من باع نفسه بغير الجنّة فقد عظمت عليه المحنة. وقال أيضاً: الجنّة غاية السابقين.. وكل نعيم دون الجنّة محقور.
من هذه الأقوال وأمثالها التي ورد الكثير منها في كتاب "نهج البلاغة" وغيره، ندرك أن الجنّة هي الثمن الحقيقي للإنسان وأنه ليس له من خيار سواها مهما أُوتي من نعيم الدنيا لأن هذا النعيم زائل ونعيم الجنّة باق كما ورد في قوله تعالى "ما عندكم ينفد وما عند الله باق".
لكن أنّى للإنسان أن يعيش هذه الحقيقة ويتمسك بها في أعماق نفسه وذاته وقد غلب عليه حبّ الدنيا وغفل أو تغافل عن أن الثمن هو الصبر على فتن هذه الدنيا ومكارهها، وما أجمل كلام علي عليه السلام حين نبّه الإنسان المسلم بقوله: (هيهات هيهات.. لا يُخدع الله عن جنّته). ونصحه في موطن آخر: (لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل ويُرجئ التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين، إن أُعطي منها لم يشبع وإن مُنع عنها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي ويبتغي الزيادة فيما بقى، ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم ويبغض المذنبين وهو أحدهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه ويقيم على ما يكره الموت له، إن سقم ظلّ نادما ً، وإن صحّ أمِن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفي ويقنط إذا ابتلى. إن أصابه بلاءٌ دعا مضطراً وإن ناله رخاءٌ اعترض مغترا. تغلبه نفسه على ما تظن ولا يغلبها على ما يستيقن. يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله. إن استغنى بطر وفتن وأن افتقر قنط ووهن. يقصّر إذا عمل ويبالغ إذا سأل. إن عرضت له شهوة أسلف المعصية وسوّف التوبة. وإن عرته محنة انفرج عن شرائط المِلّة. يصف العبرة ولا يعتبر ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ، فهو بالقول مدلّ ومن العمل مقلّ. ينافس فيما يفنى ويسامح فيما يبقى. يرى الغنم مغرماً والغرم مغنما. يخشى الموت ولا يبادر الفوت. يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقر من طاعة غيره؛ فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن، اللغو مع الأغنياء أحب اليه من الذكر مع الفقراء. يحكم على غيره لنفسه ولا يحكم عليها لغيره، ويرشد ويغوي نفسه فهو يُطاع ويعصي ويستوفي ولا يوفي , ويخشى الخلق في غير ربّه ولا يخشى ربّه في خلقه).
كفى بهذا الكلام موعظة بالغة لمبصر وعبرة لناظر مفكر. فقد أوضح عليه السلام في هذه الخطبة وفي غيرها الطريق الى الجنّة مؤكداً أن المطلوب من الإنسان أن يكون خفيفاً من الذنوب وألّا يغرق في ظلمات الحياة ولا يعتبرها هدفه الأخير إن رغب حقاً في الجنّة ونوالها ونعيمها. وقد جاء في المناجاة: وقيل للمخفّين جوزوا وللمثقلين حطّوا.
وقال علي أيضاً لبيان هذه الحقيقة: (عباد الله، الله الله، في أعزّ الأنفس عليكم، وأحبّها إليكم. فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه. فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، فتزودوا في أيام الغناء لأيام البقاء. فقد دُللتم على الزاد وأُمرتم بالظعن، وحُثثتم على المسيرة. فإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالمسير، ألا فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرة وما يصنع بالمال مَن عمّا قليل يُسلَبه، وتبقى عليه تبعته وحسابه).
وفي آخر خطبة قالها وهو يوصي بها ولديه الحسن والحسين عليهما السلام بعدما ضُرب بسيف ابن ملجم في مسجد الكوفة دعا الإمام علي الى تقوى اللَّه سبحانه وتعالى "أوصيكما بتقوى اللَّه". فالتقوى تعني كلّ شيء للإنسان، وهي الزاد الحقيقي في هذا الطريق الطويل الذي لابدّ للمرء من أن يقطعه.
وأضاف: "لا تبغيا الدنيا وأن بغتكما" وهذه من مستلزمات التقوى فلم يقل اتركوا الدنيا بل أوصى بعدم اتّباعها واللهاث وراءها. وأردف: "ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما.. وقولا الحق" أي لا تكتما شيئاً عندما تعتقدان أنه حق فيجب عليكما إظهاره؛ فالمصائب التي حلّت بالمجتمعات نجمت في معظمها عن كتم علماء السوء للحقّ وعدم سعيهم لإظهاره، ليس هذا فحسب؛ بل سعوا لإظهار الباطل تارةً وجعلوا الباطل حقاً تارةً أخرى، وما كان الحق ليُظلَم لو بادر الذين عرفوه لنشره وإظهاره ولما طمع أهل الباطل في القضاء عليه.
وتابع علي مخاطباً ولديه بالقول "وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً" ، واليوم نرى العالم يغرق في مستنقعات الجريمة والرذيلة نتيجة ترك العمل بهذه الوصية الذهبية.
ندعوا الله أن يهدينا سواء السبيل إنه نعم المولى وبالإجابة جدير.
--------------------------------
*كتبت هذه المقالة بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام علي عليه السلام في ليلة القدر من عام 40 للهجرة النبوية الشريفة.
938 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع