القس لوسيان جميل
نحو سيادة الروح
قارئي العزيز ان هذه الفقرة التي نضيفها لابد ان تقترن بفقرة سيادة وارتقاء المادة نفسها،لأن الفقرتين متماثلتين.فالمادة هي الظاهرة والبنية التي تشير الى الأبعاد والصور والمعاني والروح الكامنة فيها والمصاحبة لها والتي لا تقبل الافتراق والانفصال.كما يعلمنا الأب تيار ده شاردن، وكما تعلمنا ايضا قاعدة اخرى له تقول:حيث زادت كثافة وعتمة المادة نقص الروح وتضاءل،وحيث نقصت المادة، اي مالت نحو الشفافية والى المعاني السامية، يزداد الروح ايضا. اما معنى ذلك فإننا نبدأ الكلام عن سيادة الروح من منطلق ارتقاء الأحياء،اي من المنطلق البيولوجي. ثم يمكن بعد ذلك ان ننتقل الى العلوم الأخرى التي لها علاقة بالروح ايضا، مثل علم الاجتماع وعلم النفس وعلم حياة الانسان المعرفية والحياة الصوفية Mystique الخ...
ماذا نرى واقعيا: والحال ماذا نرى واقعيا؟ اننا نرى ارتقاء المادة واكتمالها، وزيادة معانيها المتشعبة وتسليم ذاتها اكثر فأكثر لعقل الانسان وللمعقولية موضوعيا ووجدانيا، من اجل خدمة الانسان حسن النية وسليم الطوية. ولكن بمقابل ذلك يزداد الروح قوة وسيطرة على مقاومة المادة الطبيعي. وبما ان الروح يظهر خاصة في الانسان وفي ما ينتجه،وفي افكاره وفلسفته وعلمه وفضائله،وفي سائر آدابه الأخرى،لذلك لا تكون السيادة للمادة فقط،ولكن تكون للروح ايضا:اي للعقل وللمشاعر،على الرغم من النكسات الروحية التي نجدها في تاريخ العالم بشكل عام، كما في تاريخ العالم المعاصر بشكل خاص، وحتى في حياة الأفراد من البشر.
قاعدة اخرى: فضلا عما تقدم، نجد عند الأب ده شاردان قاعدة اخرى قريبة من فلسفات معاصرة تقول كلاما مشابها لما يقول به ماركس،على اساس بنيوي وجدلي: فماركس والأب تيار ده شاردان يقولان ما معناه،بأن هناك جدلا بين البنى التحتية والبنى الفوقية Infra structures et supra structures، والماركسية تقول ما معناه: في الجدل التاريخي اذا تغيرت البنى التحتية تغيرت معها البنى الفوقية. اما هذا الكلام فيعني ايضا:اذا تغيرت المادة تتغير الصورة الفوقية ايضا، وتتغير بعض الصور الروحية، ومنها معاني الأشياء. اما الصور القديمة فتتلاشى بشكل تدريجي، مع ملاحظتنا ان بعض الصور القديمة قد تبقى عصية على التغيير لزمن طويل او بشكل دائم. اما الأب ده شاردن، فلا يتكلم عن الصور وإنما يتكلم عن الروح، وهو امر مماثل تماما. انه الجدل الحقيقي الذي يقترب ايضا من جدل هيجل.
جدل انثروبولوجي:فالجدل التاريخي اذن جدل انثروبولوجي،ولا علاقة له بأية عقيدة سماوية.ولهذا يمكن في هذا الجدل التاريخي ان يكون ماركس اوضح في مسألة الجدل من الأب تيار ده شاردان.غير ان الأب المذكور اشمل في جدله من ماركس، لأنه لا يخص المجتمع وإنتاجه حسب، لكنه يخص جدل الحياة وتطورها ايضا، بشكل اعمق حتى من داروين، وذلك لأن الأب ده شاردن كان عالما بتاريخ الحياة الجدلي كله.
اما الكلام اعلاه فيعني ان الروح يسيطر على المادة بشكل متدرج. ولكن ربما يكون على الشكل التالي: ففي خضم الحركة المستمرة التي تتعرض لها المادة يحدث تطور وتغيير ايجابي في هذه المادة التي تسمى فلسفيا البنية التحتية Infra structure . اما نتيجة هذا التغيير الايجابي، مهما كان ضئيلا فهي ان البنية العليا تتحسن احوالها هي الأرخرى،مما يجعل هذه البنى تنشط فعاليتها وتعود هي ايضا بالتأثير على البنى التحتية وهكذا دواليك. المادة تؤثر على الروح والروح بدوره يؤثر على المادة،مما يجعلنا نؤكد على سطرة الروح على المادة، مع وجود امكانية ان يحدث العكس تماما بسبب عدم المطاوعة الكاملة من قبل المادة للروح. غير انه من حسن حظ الروح ان مقاومة المادة للروح لا تدوم الى ما لا نهاية، وانما تضطر احيا كثيرة للاستجابة للمادة، على الرغم من بعض الممانعة، وذلك بسبب قوة الروح في اوقات جدلية يكون زمان انتصارها قد حل. علما ان التغيير الحضاري الانساني لا يتم فقط على شكل مسيرة خيطية مستقيمة ومتدرجة فقط، ولكن ما يحدث بالحقيقة هو ان التغيير الخيطي لا يظهر بسهولة الا عندما يتحول، بسبب التراكم الى ما يشبه قفزة جوهرية حقيقية حيث يستطيع الكثيرون ان يلاحظوها ويقرروا موقفهم منها سلبا ام ايجابا.
غير ان المجتمع في هذه الحالة ينقسم حضاريا وروحيا الى فئتين هما الفئة السلفية والفئة القابلة بالتجدد،مع وجود درجات متفاوتة في القبول كما في الرفض. الأمر الذي يشاهده الرعاة الروحيون المجددون بوضوح. غير اننا، وبتفاؤل عميق نرى ان الفئة المجددة تأمل ان يكون النصر لها في نهاية المطاف، وان كان ذلكك في ووقت غير محدد. ولكن ربما الوسائل الرقمية تستطيع ان تتكهن بالتغيير النهائي. علما ان هذا التفاؤل نشاهده في كل مرة يكون الجدل قد تقوى زخمه، كما حدث في وقت يسوع وفي اوقات كثيرة اخرى.
هذا، وبما اننا نرى انفسنا امام ظاهرة انثروبولوجية ذات بعد روحي انساني ومقدس في بعض الأحيان، لذلك لا يسعنا سوى ان نستنير بنص من رسائل بولس حيث اشار القديس المذكور الى ظاهرة مقاومة المادة ( هنا المادة الجسدية ) للروح بقوله: ان الخير الذي اريده لا افعله والشر الذي لا اريده اياه افعل.الويل لي من ينقذني من جسد الموت هذا؟ !
وهكذا يمكننا بناء روحانية انسانية عميقة على هذه المبادئ الأنثروبولوجية الانسانية التي تتطابق مع العلم ولا تتناقض معه، كما نراها فعلا في خدمة الروح، ومن ذلك الروح المقدس.اما هذه الروحانية فلا تخص المتقدمين بالروح فقط، ولكنها تخص الناس العاديين ايضا.فأين وعاظنا من هذه الحقيقة المنسية في الكنيسة،الذين، لسبب او لآخر لم يعد لهم من خطاب غير الخطاب الشرائعي الأخلاقي. كما نجد ذلك عند من يكتبون على موقع البطريركية.
الحالة الراهنة: بعد ما كتبنا من مبادئ، تبقى لنا كلمة نقولها بشأن مطاوعة او عصيان الجسد على اوامر الروح. ففي هذا الصدد نسأل ونقول:ترى لماذا ومتى تحدث طاعة الانسان لمطالب الروح،ولماذا يتمرد الانسان على حركة الروح ومطالبه؟ علما اني من وقت لآخر استخدم كلمة العصيان والطاعة وغيرها التي لا تصح عن المادة الا بشكل مجازي،لأن المادة لا تعصى ولا تتمرد، بكونها لا عقل ولا ارادة لها،وانما لها طبيعة مطاوعة وطبيعة عصية او صعبة على المطاوعة حسب، كالفرق مثلا بين المرمر الجيد لعمل التماثيل والحجر ذات المسامات والثقوب الذي يستعمل في عمل الجواريش. ( جمع جاروشة ). اما في حالة الانسان فهناك استعدادات ناتجة عن الجينات المستلمة من الآباء والأجداد، وهناك التربية البيتية والتربية الاجتماعية والتربية التي يحصل عليها الانسان من مختلف البيئات مثل البيئة السهلية والبيئة الجبلية والبيئة الصحراوية وغيرها التي تؤثر على طبائع الانسان وسهولة او صعوبة تعامله مع المطالب الروحية في مجال المجتمعات والحضارات وحتى في مجال الحياة الايمانية.
الجواب الجدلي: ان الجواب الجدلي والأنثروبولوجي العلمي يقسم السؤال اعلاه الى قسمين اساسيين،اما القسم الثالث فيتبع احد هذين القسمين من بعيد او من قريب. فالقسم الأول يمثل الحالة التي يكون فيها الروح في اوج نشاطه وسخائه من حيث عمل الانسان باتجاه تحقيق آماله العريضة، كما تقدمها له المشاعر الجدلية الديالكتيكية، كما يحدث في حالات الانقلاب الحضاري الجدلي.( في بداية المسيحية او في بداية اي دين آخر )، كما ان هذا الانقلاب الجدلي هو ما يحدث في حياة الأفراد ايضا، ولاسيما في حالات الاهتداء الداخلي الى حالة انسانية افضل.
شيء من التحليل: في هذه الحالة تكون ما تسمى القضية Thèse في اوج انحدارها وفشلها، في حين يكون نقيضها Anti thèse في اوج نشاطه، ويكون البشر الذين تشملهم القضية وتحتويهم على الرغم منهم،في اسوأ حالاتهم الانسانية،اي في حالات استلاب عظيم وحالات بؤس وشقاء. كما يكون جلادوهم في اوحش حالاتهم وأقساها.هذا ويكون الأمل امام انظارالنقيض في الحالة المذكورة قويا ونشطا وقادرا على تحريك الهمم وتحقيق اعمال خلاصية مبنية على الأمل المذكور، تحت قيادة روح نشط.
تحقيق ظاهرة الروح:فهنا قرائي الأعزاء تتحقق ظاهرة الروح الذي يستولي على الانسان المحتاج اليه، لكي يجدد بهذا الروح وجه الأرض ويحدث الانقلاب المرجو وتحدث الحياة الجديدة،او بالأحرى تحدث البواكير التي تخلق سلسلة من الأعمال المناسبة التي تكمل العمل الخلاصي.فما يحدث في هذه الحالة يعني هناك مسيرة حياتية انسانية تقدمت ببطء شديد نحو النضوج والاكتمال ثم سارت ببطء ايضا نحو الشيخوخة، فشاخ روحها ايضا، ولم يعد قادرا على تلبية المد الحياتي الانساني، كما يقول الفيلسوف بركسون.
هذا، وبناء على ما تقدم، نجد المؤسسة الاجتماعية خاصة، في حالة عجز عن تلبية مطالب الروح.وبما ان المؤسسة هي مؤسسة، فإنها غالبا ما تدافع عن وجودها بكثير من العنف والوحشية لكي تستمر في هيمنتها وامتيازاتها.اما الأنتي او النقيض فيكون في هذه المدة في غاية الطاعة لمطالب الروح الانقلابية، داعيا الحالة التي يجد نفسه فيها بالحالة الساعية الى الخلاص.علما ان مطالب الروح في الحالة التي نحن بصددها مطالب كثيرة ومؤلمة لكنها مطالب مقبولة ومشجعة على مزيد من الطاعة للروح في ما يطلبه من تضحيات حتى الاستشهاد احيانا.
هذا،ويجدر بنا ان نذكر هنا أن هذا هو ما حدث في المسيحية اثناء نضالها من اجل عالم جديد وعهد جديد،بعد ظهور يسوع،وبعد استشهاده على الصليب وما يسمى القيامة، التي تعني انتصار يسوع في معركتة ضد رجال الأمة الدينية السلفية، وعودة ثقة الرسل التي طمأنتهم الى أن يسوع لا زال حيا في قلوبهم،على الرغم من موته، ولا زال تعليمه يستحق ان ينشر في كل بقاع الأرض، جارج المسألة الالهية.
وعليه نحن لا نستغرب ان تكون الكنيسة الأولى هي القائدة والمحرضة الحقيقية على حلول العالم الجديد،وعلى الطاعة والصبر والتحمل الذي كان يطلبه هذا العالم الجديد،حتى اذا اقتضى الأمر ان يقبل الانسان في ذلك الزمن ( زمن انتظار الخلاص ) ان يعطي خده الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن، بالمعنى الحرفي، وليس بالمعنى الرمزي او الروحي، كما يقول البعض من المعنيين بالعملية التوفيقية التي تحاول تفسير الأمور الصعبة على الفهم تفسيرا اوضح واكثر ضحالة، حتى وان لم يكن هذا التفسير مطابقا للحقيقة.
هذا، وبما ان كنيسة اليوم، ومنذ زمن بعيد، لم تعد تملك ايمان الزمن الأول، ولا رجاءه ولا محبته لقضية خلاصية حقيقية انسانية،كما لم يعد المؤمنون بيسوع وبالكنيسة،او بالأحرى المنتمون الى يسوع والى كنيسته،كما كان المسيحيون الأوائل، فاننا لا نتعجب اذا كان رجال الكنيسة ومؤمنوها لا يفهمون ولا يقبلون ان يعطوا خدهم الأيسر لمن يضربهم على خدهم الأيمن، كما لا نعجب ان يرفض مؤمنوا اليوم كثيرا من التضحيات والممارسات الصعبة التي تطلبها منهم كنيسة اليوم،وكأنها في زمن البشارة الأولى.فهل تفهم الكنيسة معنى الزمن الجدلي الحضاري ومعنى المفارقة الزمنية Anachronisme ؟
اما لماذا يحصل ذلك، فاننا نقول بصراحة لأن انسان اليوم لم يعد يملك الايمان الأنثروبولوجي الحقيقي،حتى اذا قبل اجتماعيا البديل الذي وضعته له الكنيسة: ملكوت العالم الأخر والخلاص من نار جهنم.اما العقائد والطاعة لتعليم الكنيسة الرسمي والطقوس والأسرار الفارغة من محتواها الحقيقي فلم تعد تكفي لتكون بديلا عن الممارسات الأصيلة التي وضعت في الزمن الذي فيه كان الايمان حيا.
الحالة الثانية:اما الحالة الثانية التي تحدد طاعة الانسان للروح وعصيانه،فهي الحالة التي نجد نموذجا واضحا لها عند انتصار الملك قسطنطين على عدوه وإعلانه مرسوم ميلانو في العام 313 م الذي قضى بتأسيس امبراطوريته المسيحية التي اخرجت المسيحيين من الخفاء الى العلن،وجعلت الكنيسة مشاركة نشطة في الامبراطورية الجديدة والتي كانت امبراطورية تطير بجناحين:الجناح المدني والجناح الكنسي اللذين كانا متضامنين في كل شيء، الحالة التي معها كان قد بدأ العصر الوسيط الإقطاعي الذي خلف عهد العبودية الرومانية القديمة. هذا، مع العلم أن الكنيسة بنت جل لاهوتها وكاتدرائياتها وحضارتها المادية والروحية في هذا الزمن الذي عدته الكنيسة زمنها السعيد بامتياز، كما عدته زمن الخلاص، وكأنها كانت في زمن يسوع وبشارته، وطبعا كانت محقة في ذلك. ومن هنا لا نستغرب ان يكون هذا الزمن،زمن سيادة الروح على المادة.فهذا الزمن المقدس،والزمن الذي سبقه،والذي سمي ايضا بزمن الدياميس،اي زمن تخفي المسيحيين في المقالع، حيث كانوا يؤدون صلواتهم ويعملون اجتماعاتهم السرية ايضا ويواصلون تبشيرهم، على الرغم مما كانوا يتعرضون له من مضايقات ومن اضطهاد ومن تعذيب واستشهاد، هذا الزمن كله كان يعبر عن نشاط الروح عند المؤمنين وسيادته على المادة الجسدية والحضارية والاجتماعية، وحتى الشخصية.
هذا، مع تأكيدنا على اننا نجد هذا الروح، في تلك الحقبة المباركة عند رجال الكنيسة كما عند المؤمنين.
الاقطاع هو الاقطاع:غير ان الاقطاع هو الاقطاع، وهو حكم بشري يعمل مسيرته من الفها باتجاه يائها، سيرا نحو مصالحه المختلفة الأنواع، وبالتالي فان ما حصل كان سيرا نحو البلوغ والازدهار ثم الشيخوخة.واذن وبطبيعة الحال كانت الحضارة المسيحية تسير نحو شيخوختها وشيخوخة كنيستها وموتها المحتم هي ايضا، هذا الموت الذي لم يكن هناك مفر منه، كما تعلمنا الأنثروبولوجيا والتاريخ الحضاري وعلم الاجتماع بذك. طبعا دون ان ننسى علم النفس وعلوم الانسان الأخرى، والقوانين الكونية وقوانين ارضنا وقوانين تطور الحياة الانسانية وسير وتكوين الحضارات وسقوطها وموتها، اي تغييرها في عملية جدلية معروفة. مثل قوانين البنيوية والجدلية وقوانين الجزيئة التي يتكون منها الكون وتتكون منها حياة الانسان وطبيعته المادية وطبيعته الجسدية الحية ايضا.
فالنظام الاقطاعي الذي خلف العبودية، كان نظاما جيدا بقدر ما يمكن ان يكون اي نظام حضاري - اجتماعي ــ سياسي جيدا،وكان المؤمنون سعداء بهذا النظام،وكذلك كنيستهم ورجالها ايضا.غير ان هذا النظام،وبعد فترة نكاد نعرف مقدار زمنها اليوم، كانت قد ساءت احوال هذا النظان واحوال الشعب الذي كان يرسح تحت نير هذا النظام الثيوقراطي المسيحي،وفقد بريقه بعيون الشعب شيئا فشيئا، ومر المؤمنون ( الشعب ) بمساوئ الاقطاع ومذلته، الذي لم يختلف عن نظام العبودية الا قليلا.
هذا، ومن الجدير بالذكر، ان النظام وكنيسته كان قد بنى الكاتدرائيات والمعابد الفخمة في ذلك النظام، فضلا عن انه كان قد بنى لاهوته كله في ظل ذلك النظام المسيحي. غير ان حقوق الشعب كانت في غاية التردي. فكانت الثورة اللوثرية ثم كانت الثورة الفرنسية والثورات الاوربية الأخرى، التي ازالت الدولة المسيحية الاقطاعية وفرضت العلمانية محلها،هذه العلمانية التي تردت هي الأخرى في عالمنا وأصبحت علمانية خالية من الروح تماما ومن مطالبه الانسانية، اذ يبدو ان كل شيء يتغير حتى العلمانية.
بين الحالتين:ويقينا نحن لا يمكننا ان نجد في اية حالة من الحالات المذكورة حماسا وتضحية وطاعة للروح مطلقة، كما لا نجد ايضا رفضا للروح يمكن ان نقول عنه انه رفض مطلق،مما يعني ان غالبية الناس كانوا ولا زالوا يعيشون اليوم بين الحالتين: الحالة البسيطة الاعتيادية وحالة التردي. طبعا نحن لا يجب ان ننسى نشاط الكنائس في ايامنا، ولاسيما منذ ايام المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ولا ننسى ظاهرة قداسة البابا فرنسيس الاصلاحية التقدمية، وقبله ظاهرة البابا يوحنا الثالث والعشرون.ولكن على العموم، نرى ان الجمود الروحي هو المسيطر في زماننا،لا بل نشاهد ايضا خلو الجماعات المسيحية وغير المسيحية ايضا من الروح، لأن خلو الروح وفراغه صار القاعدة وغير ذلك صار الاستثناء، وذلك لأن مادة العالم، ولاسيما مادته السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها كانت قد تردت بشكل يدعو الى الخوف على الروح حقا. علما ان خوف الكاتب على الروح يختلف قليلا او كثيرا عن خوف كبار وصغار رجال الدين، الذي في اغلبه هو خوف على العقائد اكثر مما هو خوف على الانسان، مع اننا نشاهد في ايامنا خوفا على الانسان، نستطيع ان نسميه خوفا فريسيا مضللا احيانا كثيرة، او هو خوف مستعار من بعض مفكري العالم، ذرا للرماد في العيون، لكي يظهر البعض بمظهر الحريس على الانسان او لكي لا يظهر بمظهر ال لا مبالي بحياة الانسان. يدعم مقولتي هذه اصرار الكنيسة ورؤسائها وكثير من اكليروسها على بقاء العقائد على حالتها الاسكورية بدون تأوين، وعلى بقاء كل طقوسنا متشربة بظاهر العقائد الاسطوري او الشبيه بالتاريخ Para historique الذي لا يجب ابدا ان يتحول الى تاريخ Hisoire، لآن هذا الخلط يحول القصة الدينية ذات البعد او المعنى الروحي الخضاري الانساني الى اسطورة لا يمكن ان تفهمنا شيئا عن الهنا او عن انساننا. لاسيما ونحن نعلم اننا لا نعرف شيئا عن الاله السماوي، ولكننا نعرف كل شيء عن مقدس نفسي انثروبولوجي انساني يسير ويوجه كل حياتنا الانسانية، مرحلة حضارية بعدد مرحلة، وانه هو المشرف على ازاحة الحضارة الخاصة بمرحلة حضارية معينة وتسييد مرحلة حضارية جديدة، بعيدا عن اي تدخل اله سماوي’
الكنيسة ومطالبها الراهنة:وعليه، وبناء على ما تقدم يحق لنا ان نتساءل ونقول: ترى هل يحق للكنيسة ان تحتفظ بمطالبها القديمة على المؤمنين، وكأننا او كأنها في ايام الآمال الجدلية العريضة الأولى،وهل نتعجب اذا ما بدأ الناس في اغلبهم يعيشون على هامش الروح،اي يعيشون بلا آمال عريضة في حياتهم؟وهل نتعجب اذا استشرى روح التذمر والنقد المرير لرجال الدين ولطقوسهم الجوفاء،واذا ما استهان الكثيرون بمطالب المؤسسة الكنسية الخالية من الروح؟ ! ان ما نشاهده وما نسمعه اليوم من خلال وسائل الاعلام الشعبية او الفيس بوك، من تردي ووقاحة واحيانا من جسارة ايجابية مقبولة، خير دليل على ما نقول.
ثم نردف ونقول: ترى هل نتعجب ان يعيش المؤمنون الطيبون على طقوس عاطفية لا تنفع ولا تضر، وعلى عقائد لا يفهمون منها شيئا؟ هذا، مع اننا نشك في ان يكون اغلب رعاة المؤمنين الروحيين يفهمون من عقائدهم شيئا مهما، وكذلك من طقوسهم وتشريعاتهم.وعليه نحن ايضا نتعجب ونتساءل ونقول:ترى متى يفهم رعاتنا،في الغرب وفي الشرق،بأن قراءتهم السلفية الخاطئة لكتبهم المقدسة، وتقليبهم القصص الدينية الى تاريخ،هي العقبة الكبيرة للوصول الى حقيقة الله وحقيقة يسوع الأنثروبولوجية، وكذلك الى حقيقة الروح وحقيقة مطالبه علينا؟
البابا يوحنا بولس الثاني: وهنا لا انسى ان نسيت كيف ان البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني، اوقف حركة الروح منذ ايام يوبيل الألفين لميلاد يسوع المسيح، من خلال فرض تطبيق شعاره: المسيح هو هو بالأمس واليوم والى الأبد، تطبيقا سلفيا دوغمائيا صرفا.كما لن انسى كيف ابطلت الكنيسة الكلدانية،في عهد البطريرك الراحل روفائيل بيداويذ وبمباركته،وربما ايضا بمباركة روما ودفعها،والغت مجهود سنتين كاملتين،دأب القسس والعلمانيون خلالهما على اعطاء ما كان بيدهم في سبيل تقدم الكنيسة وتحديثها.هذا، مع العلم ان ما كانت لجان المؤتمر البطريركي قد اعدته لم يكن بالجذرية المخيفة لها ابدا.
من عطل المؤتمر:هذا، ومن جانب آخر،فاني لن انسى ما وصل الى مسمعي من مصدر موثوق ومحترم،من كلام صدرعن احد الأساقفة المتنفذين في كنيستنا العزيزة،:البطريرك والأساقفة وبعض القسس المتشبثين بالجمود الكنسي،حفاظا على مصالهم قائلا:دعوهم، يعملون ما يشاءون ونحن، اي السلطة، سوف نعمل ما نشاء، يعني سوف نعطل المؤتمر! علما انه كان يوجه كلامه الى المجددين في الكنيسة،مع ان هؤلاء المجددين كانوا متواضعين في مقترحاتهم.
ما كان قد حدث بالفعل: اما الذي كان قد حدث بالفعل، فهو ان البطريرك آنذاك كان قد الغى لجنة صياغة مقررات المؤتمر البطريركي الكلداني بطريقة تدعو الى الأسف،وطريقة يخجل منها الروح القدس نفسه، ولاسيما بعد ان طلعت علينا اكذوبة كنسية تقول: ان ما نقدمه لكم هو مقررات المؤتمر البطريركي الكلداني، في حين لم يكن في تلك المقررات البائسة المخجلة حرفا واحدا من مقررات المؤتمر الحقيقية،لأن جميع المقررات كانت منقولة من مخطوطة ( ربما كتاب ) كان عمرها حوالي عشرين سنة، سميت بــ / الحق القانوني الكنسي الكلداني ) تلك المخطوطة التي كانت من تأليف البطريرك عمانوئيل دلي عندما كان اسقفا عاديا،او قسيسا لا اذكر. وباي باي المؤتمر الكلداني الذي اضاع مجهود سنتين من العمل القسسي والعلماني في سبيل ذلك المؤتمر. فأين هو الروح وما هي قيمته وقوته في حياة تلك القيادة الكنسية، يا ترى؟ ! علما ان غبطة البطريرك لويس ساكو على علم بكل ما كان قد جرى آنذاك.
اما من جانبي فقد كان ما حدث يخصني كثيرا من قريب، ولهذا، ربما كنت متألما اكثر الجميع من المؤامرة التي قام بها رؤساء الكنيسة وإذنابهم ضد الله وضد الحقيقة المخلصة،وأيضا ضد انفسهم،لأن ما قاموا به افقدهم كل مصداقيتهم وادعاءاتهم بالإخلاص للإيمان.اما اذا سأل احدهم وقال ترى لماذا حصل هذا الخطأ الكبير والخطير الذي اصاب كنيستنا المشرقية الكاثوليكية، فأجيبه:ان ما حصل لم يكن شيئا غريبا طارئا على كنيسة يسوع ورعاتها وعلى كنيسة المشرق الكاثوليكية وعلى رؤسائها. فالكنيسة تبقى مؤسسة بشرية مهما تقول عن نفسها انها مقدسة،وهي تتبع القواعد البشرية،على الرغم من اننا نفترض فيها حسن النية.هذا مع العلم ان المؤتمر لم يكن ابدا بالجذرية التي كان يجب على الرئاسة ان تخاف منه. ولكن ماذا نقول:نقول فقط ان حليمة عادت الى عادتها القديمة، اي الى اسمالها القديمة البالية، في المسائل الايمانية والتقدم والمواكبة الحضارية الانسانية الجسدية والروحية، فحصل للكنيسة الملقبة بالكنيسة الكلدانية ما كان قد للغجرية التي كانت بحسب القصة الرمزية قد تزوجت ابن الملك.فبينما كانوا في طريقهم الى مدينتهم حيث عش الزوجية، لمحت الغجرية حصانا نافقا، فقالت على الفور لعريسها: توقف هنا من فضلك، فقدد لمحت حصانا نافقا، سأجري اليه واقطع شعر ذيله لأنه يصلح لعمل المناخل !!!
دعونا نتفاءل:ولكن، ومهما كان، وعلى الرغم من مآسينا دعونا نتفاءل،على ضوء القواعد التي تسير الكون والمجتمع الانساني المادي والروحي، وعلى ضوء مسيرة الحياة نحو التقدم والارتقاء المستمرين،على الرغم من ممانعة البشر ومقاومتهم لسيادة الروح وتقدمه.وعليه، وبما اننا نؤمن ان القبر الذي دفن فيه يسوع، لم يستطع ان يحجب رسالته المجددة لعالمنا، كذلك لن تستطيع الاعيب السلفية الكنسية، في اي مكان من العالم ان تمنع التغيير في الكنيسة، والذي حان وقته منذ زمن طويل، كما لن تستطيع كنيستنا ان تمنع التطور المرجو والمطلوب،مهما كان رفضها للتجديد شديدا.
التغيير السطحي لا يكفي: علما ان التغيير المطلوب ليس تغييرا سطحيا تافها، ولا حتى تغييرا مبنيا على بعض التوفيق بين القديم والجديد،كما كان يريده بعض الأساقفة السلفيون،لأنه، كما يقول الانجيل:ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، لأن الملء يأخذ من الثوب، فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمراً جديدة في زِقاق عتيقة، لئلا تنشق الزِّقاق، فالخمر تنصب والزِّقاق تَتلف. بل يجعلون خمراً جديدة في زِقاق جديدة فتُحفظ جميعاً“ (متى 14:9-17).
فنعم اذن لتعميق المسيحية اللاهوتي والمشاعري والعلمي، ولعيشها بحسب زمننا، غير اننا نرى ان المسيحية لا يجب ان تقبل الترقيع بين ما هو ايمان حقيقي وبين ما هو ايمان مزيف وضع كبديل اصطناعي للإيمان الحقيقي،سواء وضعته السلفية الكنسية او وضعته العلمانية الملحدة والعلمانية القومية، كبدعة جديدة في عالمنا المسكين،هذه العلمانية التي لم يعد لها هدف انساني مقدس في الحياة،او وضعته الفئات التقليدية التي ترفض التغيير والارتقاء الأصليين على الرفوف العالية، كما كان يفعل الفريسيون في عهد يسوع. ففي الحقيقة نحن نبارك لغبطة البطريرك تحركه الأخير في مجال مواكبة مستجدات الحضارة، لكننا نأمل منه اكثر من ذلك ان شاء الله.
في الحياة الفردية: اذا غادرنا حقيقة ظهور الروح في الحقب الاجتماعية الحضارية الكبرى، ومنها ظهور الروح في الحقبة الحضارية المسيحية، يبقى لنا ان نتكلم عن ظهور الروح في الأفراد البشرية وفي مجتمعاتهم،اي في كل واحد منا بصفتنا الأنثروبولوجية الروحية وفي مجتمعنا.وهنا، بدءا نقول، ومن الآن، ان الروح يظهر في كل انسان، منذ زمن سحيق والى الأبد.لكن،هذا الروح لا يظهر في الأفراد بمستوى نمطي واحد،ولا بزخم متساو.لماذا؟ ببساطة لأن الروح يظهر في كل واحد من البشر،على قدر ما تسمح مادة هذا الانسان الجسدية والعقلية بظهوره، وعلى قدر ما تسمح مشاعر اي انسان على اختلاف قوتها، بتجليات الروح، داخل ذات الانسان الفرد والمجتمع. اما المجتمعات فتتبع القاعدة المذكورة نفسها.
العمر الحضاري وعمل الروح: اما الكلام اعلاه، فيعني ان عمر الانسان الحضاري له دخل مهم وجوهري في الظهور الروحي في هذا الانسان.فظهور الروح في الانسان البدائي يختلف حتما عن ظهور الروح عند انسان القرون الوسطى مثلا، او في انسان زمننا المعاصر. كما ان ظهور الروح في الانسان المثقف انسانيا وروحيا يختلف حتما عن ظهور الروح في انسان امي او شبه امي يعيش على التقاليد. كما ان ظهور الروح في حياة طفل عمره خمس سنوات مثلا يختلف عن ظهور الروح في حياة شاب بعمر عشرين سنة. نقول ذلك، وان كنا نعرف أن ظهور الروح في حياة طفل نبيه وذكي ومحبوب له قيمته الجمالية التي لا يمكن اغفالها،على الرغم من صغر سنه. كما ان ظهور الروح في شيخ طاعن في السن، يكون اجمل واحلي احيانا من ظهور الروح عند شاب وسيم حائر.هذا، وقد يكون ظهور الروح على وجه راهب بسيط مؤمن ايمانا عميقا اقوى مما يظهر في رجل دين مثقف،لا يملك من الايمان غير قشوره، حيث يصبح وجه ذلك الراهب وجها مشعا منورا، يصلح للتصوير الفني Photo génique.
مسئول آخر عن الروح: اما المسئول الأخر عن ظهور الروح وعن زخمه، فهو ما يرثه الانسان من جينات وراثية من ابويه، وما يصيبه من تأثير البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية خاصة من تأثير على جسد الانسان وعلى عقله ومشاعره ومجمل توجهاته الانسانية. ولكن، ان نسينا فإننا لا ننسى دور المجهود الشخصي، في كافة مناحي الحياة،ولاسيما في المجالات الروحية. فهذا المجهود من شأنه ان يحسن مادة الانسان الجسدية والعقلية والروحية، مما يسمح لظهور احسن وأقوى في حياة انسان يبذل مجهودا كافيا لإصلاح جسده وقواه الروحية،على قدر المستطاع. اما من يجتهد ويربي في ذاته الحياة الايمانية المقدسة تربية سليمة ومخلصة وانسانية، فان روح القداسة يظهر فيه بشكل افضل، من اي انسان يكون قد اهمل الحياة الايمانية المقدسة في حياته.
العقل السليم في الجسم السليم:وعموما، وبحسب الحالات المذكورة نستطيع ان نقول هناك مطاوعة للروح عند من يملك مادة متعافية وسليمة، كما هناك تمرد ومقاومة للروح عند من يملك مادة جسدية اهمل صاحبها شروط ارتقائها الى مرتبة الروح، بحسب فكرة الأب تيار ده شاردن الذي يقول:حيث تزداد المادة ( كثافة وعتمة ) ينقص الروح وينقص ظهوره )، وحيث تنقص المادة يزداد الروح ويزداد ظهوره في الانسان الفرد وحتى في المجتمع، قوة فوق قوة.علما أن صدف الحياة عامل مضاف يجعل الانسان اكثر تأهيلا لقبول وظهور الروح فيه، من انسان لم تساعده الصدفة في المجال المذكور.
في حالة تمرد الروح: اما في غير ما ذكرنا، وبما اننا نتكلم عن ظهور الروح عند الأفراد، وعصيان ظهور الروح عندهم، يمكننا ان نضيف الى ما اتينا الى ذكره صعوبة تحمل الانسان لمطالب الروح. ولذلك نسمع احدهم يقول للروح: ايها الروح لا تدخل فاني اخاف تيارات الهواء.فنحن امامنا مثل رسل يسوع الذين نزل عليهم روح يسوع عندما كانوا مجتمعين في علية خائفين.فهؤلاء الرسل نزلوا فورا الى الشوارع واخذوا يبشرون بيسوع المخلص الذي اقامه الله من بين الأموات ونصره على صالييه.ولكن ماذا كان مصير هؤلاء التلاميذ؟ لقد كان مصيرهم الاستشهاد على يد السلفية اعداء التقدم وأعداء الروح.ان الروح الذي اخذه الرسل من معلمهم يسوع، ظهر عندهم فجأة وقواهم لكي يبشروا بمعلمهم دون خوف او وجل. علما اننا هنا لا نتكلم عن الروح السماوي المزعوم.
المسيحي العادي:فهل ان المسيحي العادي في ايامنا،له عين المبررات لقبول الموت او العذاب من اجل قضية لا يعرفها ولا يشعر انه منخرط فيها،بعدما تراخى الايمان في حياة المسيحيين وكنائسهم،وحل محله الانتماء العاطفي الفارغ في احسن احواله، هذا اذا وُجد هذا الانتماء حقا؟! وبما اني، كنت قسيسا مسئولا عن كنيسة تلكيف، وكنت بهذه الصفة عينها واعيا لأحوال المؤمنين،او بالأحرى المنتمين الضحلة، فاني اعرف حالة الروح عند كل فئة من ابناء تلكيف وغير ابناء تلكيف في البلدات المسيحية المجاورة لها، وحتى في المدن: الموصل وبغداد. ففي ذلك الوقت تعرفت على حالة الشابات والشباب الروحية والإنسانية،وعلى حالة الرجال الكهول آباء العوائل،وكذلك على حالة النساء الأمهات الكهلات والمسنات الانسانية:الفكرية والروحية، بما فيهم النساء المنخرطات في الأخويات الدينية والروحية.
وعليه، فقد صادف اكثر من مرة وفي اكثر من مكان، بعد ان كنت استمع الى المنشدين الذين كانوا ينشدون للروح قائلين: اننا نشتهيك فانزل علينا، كنت اقول لهم اثناء وعظي:هل حقا كنتم تعرفون ماذا تقولون عندما كنتم تقولون لروح القدس: اننا نشتهيك انزل علينا،وهل حقا تشتهون ان ينزل الروح القدس عليكم؟ طبعا هنا لا اقول انهم كانوا يكذبون،ولكن فقط اقول انهم كانوا على ظلال ولا يعرفون ماذا يطلبون،اذ انهم كانوا يطلبون ان ينزل عليهم الروح كبركة يحمي ويعظم قدراتهم المادية والصحية وآمالهم البشرية لا غير، في حين لم يكونوا يعرفون ان من ينزل الروح عليه، يصير مدعوا الى قبول وتحمل اية خسارة مهما كانت جسيمة في سبيل ارضاء مطالب الروح المقدسة الذي نزل عليه.
فنعم كنت اقول للمصلين ذلك، كما قال يسوع يوما لأبناء زبدى الذين طلبت امهم منه ان يضع اولادها الواحد عن يمينه والآخر عن يساره في مملكته الجديدة. فيسوع كان قد قال لأم ابناء زبدى: اتستطيعون ان تشربوا الكاس التي انا مزمع ان اشربها؟ ويقول الانجيل ان يسوع كان يشير الى موته الاستشهادي على الصليب. ومن هنا اذن نرى خطورة تحميل المؤمنين احمالا ثقيلة باسم الايمان، في ظروف لا تبرر فرض مثل هذه الأحمال، وذلك لأننا لم نعد في زمن حرارة الايمان الانقلابي، الذي كان موجودا في الكنيسة الأولى، ولأن حالة كنائسنا وحالة ايماننا صار كما كان حال ابناء العهد القديم عند مجيء يسوع المسيح واقل من ذلك. اما ما نجده في الاناجيل من كلام يقول عكس هذا الكلام، مثل من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأخر، فيقينا ان مثل هذا الكلام وغيره الكثير، لم يكن موجها الينا نحن ابناء الأجيال المعاصرة، وما قبلها وما قبلها، لكن كان موجها للرسل وللمؤمنين الأوائل وليس الى غيرهم. وعليه نفهم ونقبل ان يكون مثل هذا الكلام مفهوما لدى من كان موجها اليهم.هذا، ومما لا شك فيه، فان كثيرين منا يعجبون بمثل هذا الكلام الصعب المذكور اعلاه والذي يقول: من ضربك على خدك الايمن فحول له خدك الأيسر، وكذلك عند سماعنا كلام التطويبات الطوبائي الرائع،على الرغم من طوبائيته. فنحن نعجب من كثير من القواعد الانسانية الرائعة التي نقرؤها في الانجيل ولسان حالنا يقول:ما اجمل هذا الكلام الصعب علينا، وما اسعد من يستطيع قبوله،لكن للأسف ان هذا الكلام الصعب ليس لنا ولا نستطيع تحمله والتمسك به فنضطر الى اهماله، او التخفيف منهه كثيرا. اما الكنيسة فبإمكانها ان تستفيد من روح الكلام الذي يقول: من ضربك على خدك الايمن فحول له الأخر ومن غيره، ولكن ليس من حرف هذا الكلام،وذلك على قاعدة التأويل والتاوين،لكي يبقى اي كلام صعب وثقيل مقبولا لجميع المسيحيين، وربما لجميع البشر، دون اي تمسك بحرفية النص الانجيلي بل بروحه حسب.ولكي يبقى ايضا كلاما يكون بمثابة هدف ( Oméga ) يدل على اعجاب مستمعه على انه يشتهي ان يكون من يصل الى شيء وان ضئيل من الكلمات الانسانية التي نجدها في تراثنا المسيحي المقدس، وفي كتبنا المقدسة. فنحن نقول بالحقيقة:من يدري اذا ما لم يكن هذا القليل في داخلنا خميرة لقداسة حقيقية،على قلته، ولاسيما اذا ابقى الانسان ابواب قلبه ونفسه مشرعة لقبول مزيد من الروائع الانسانية التي تقدس كل انسان وليس المسيحي فقط.
التأويل والتأوين ليس سهلا: ولكن هنا نعترف ان عملية التأويل والتأوين ليست بالسهولة التي تبدو عليها من الكلمات المعبرة عنها. فمثل هذه العملية قد تقتضي دراسات انسانية وكتابية ولاهوتية كثيرة، كما تقتضي اذهانا قادرة على الانفتاح للتجديد وعدم التزمت فيما وصل الينا من الماضي السحيق.كما ان عملية التأويل والتأوين تتطلب عمل مراجعة كاملة لتعبيرنا اللاهوتي السلفي،بغية الوصول الى تعبير لاهوتي بديل للكلام اللاهوتي التقليدي، يكون مفهوما لدى انسان اليوم، ويكون بعيدا عن الغيبيات التي كانت في اساس تكوين العقائد المسيحية، كما يكون على اللاهوتيين المعنيين بوضع لاهوت انثروبولوجي بديل ان يراجعوا القراءة السلفية لكتبهم المقدسة،لكي لا يخلطوا بين ما هو مجرد اسلوب انشائي قصصي،او اسلوب حضاري،وبين التاريخ ومجرياته الحقيقية،ويميزوا بين افكار الرسل الشخصية وبين الحقيقة بصفتها حاجة ايمانية مقدسة.
القس لوسيان جميل
التنقيح الأخير عيد القيامة 2019
1333 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع