قاسم محمد داود
الهوية الوطنية العراقية والهويات الفرعية
الهوية الوطنية لأي امة من الأمم هي مجموع الخصائص والسمات التي تتميز بها وتعكس روح الانتماء لدى أبنائها ، وفي عالم اليوم تكتسب الهوية الوطنية اهمية كبرى لأن العالم الجديد أُقيم اساساً على تشكيل الدول القومية والهوية هي المميز الرئيس لولاء وانتماء الفرد . ولغرض الحفاظ على النظام والسلم في العالم وتنمية ولاء الفرد لبلده من الهام بالنسبة إلى الدولة أن تُعتبر وأن تكون قادرة على تنمية شعور الانتماء عند مواطنيها. ان بناء دولة عصرية يتطلب كخطوة أولى تجاوز أطر الجماعات الاثنية والانتماءات القبلية والمحلية لصالح بناء مؤسسات وأطر وطنية شاملة. أي إقامة جهاز سياسي واداري على مستوى الوحدة السياسية للدولة ككل ، وهذا لا يعني في كل الأحوال القضاء على خصوصية الجماعات الاثنية الفرعية ضمن اطار الجماعة الوطنية الشاملة التي هي الاطار العام لكل الجماعات الوطنية . لقد عانى العراق منذ تشكيل الدولة فيه عام 1921 ظروفاً سياسية واجتماعية عصيبة ، فهو واحد من أكثر بلدان المشرق العربي أزمات ومشاكل ، وقد كان ولا يزال مثقلاً بتركة من التخلف العشائري والتناقض المذهبي والتي صاغتها ظروف نهاية الحقبة العثمانية والاحتلال البريطاني ، إضافة الى الأنظمة السياسية التي حكمته والتي افتقرت جميعها إلى المشروع الوطني ، مما شكل عدة أزمات مترابطة كالهوية والاندماج والاستقرار السياسي والعلاقات الاجتماعية وحتى علاقاته مع محيطه الإقليمي . لقد مثلت عملية التحول السياسي في العراق بعد 2003 نقلة نوعية القت بظلالها على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولعل من ابرز تلك التحولات ذلك الذي تبلور على صعيد الهوية الوطنية وإعادة تشكيلها والتحديات التي برزت بفعل عوامل عديدة . إن اكبر أزمة تعرضت لها الهوية العراقية هي بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 ، وذلك بعد قيام الولايات المتحدة بانتهاج سياسة تقسيم المجتمع العراقي أو إعادة تنظيمه على أساس طائفي وأثني تحت ذريعة العدل بين العراقيين وحماية الأقليات المضطهدة ، فانتقلت المفاهيم الوطنية والتي تدعو الى الوحدة إلى المفاهيم الطائفية والقومية والتي تدعو للولاء للهويات الفرعية التي كانت مستهجنة من أطياف واسعة من الشعب العراقي . هناك من يضع فرضية مفادها : أن إشكالية الهوية في العراق تعود الى تعدد وتنوع واختلاف المكونات الاجتماعية التي تبدأ بالقومية والدين واللغة وتنتهي بالقبلية والطائفية ، وذلك تمهيداً لتحويل العراق الى دولة مكونات غير منسجمة ومتصارعة وصار مصطلح " المكونات " متداولاً في وسائل الاعلام وعلى السنة السياسيين والهدف من ذلك الحصول على المكاسب تحت ستار الدفاع عن المكون. وقد سبق ذلك مجموعة من القرارات الدولية التي تعاملت مع العراق بعد غزو الكويت على انه دولة اثنيات وطوائف ومذاهب ، بل انه مجموعة أقليات لا يوجد فيها مكون غالب يطبع الهوية العراقية التي جرى اختزالها الى هويات طائفية وأثنية ، وليس هوية شمولية في دولة موحدة ، ذات تنوع ثقافي وديني وقومي بهويات فرعية في أطار الهوية الكبرى . وقد دفع هذا الأسلوب في التعامل مع الهوية العراقية الذي زادت قوته بعد احتلال العراق وسقوط النظام السابق وصعود الهويات الفرعية والعمل على مراجعة بل الغاء العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة العراقية منذ عام 1921 .ان ما نشهده اليوم من الولاء للهويات الفرعية على حساب هوية الوطنية العراقية ، ما هو إلا ناتج لتداعيات الغزو الأمريكي في 2003 والفراغ الأمني والسياسي الذي ولده انهيار الدولة التي أسست بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1918 لذا فقد جاء نشاط التشظي الطائفي موازياً لضعف مؤسسات الدولة والمجتمع المدني لأن الاحتلال شجع الولاءات دون الوطنية وحفز الأفكار الطائفية . لا بل ان نظام ما قبل الدولة صار مألوفاً في العراق حيث تراجعت الأنظمة والقوانين لصالح العرف والتقاليد القبلية . لقد كان من المتوقع ان تعمد الدولة الجديدة الى بناء هوية وطنية للبلاد في ضوء التوجه نحو النظام الديمقراطي التعددي بعد عقود من الحكم الشمولي ، لكن الإشكالية لم تشهد محاولات للحل بل انها قد تعقدت بُعيد الاحتلال الأمريكي الذي صاغ نظاماً للحكم أعتمد المحاصصة الطائفية والقومية . ويتفق عدد من الباحثين الاكاديميين بأن الولايات المتحدة الامريكية وعموم العالم الغربي قد مهدوا لتفكيك رموز الهوية العراقية وكانت أولى مهام الاحتلال الأمريكي في العراق استئصال الفكر الوطني ومفهوم المواطنة وتقسيم العراق على أسس المحاصصة الطائفية وأول من تبنى خطاب الانتقال من مفاهيم الوطنية الى مفاهيم الطائفة هي إدارة الاحتلال الأمريكي ذاتها ليتبناها في ما بعد قادة العراق الجدد ومن ثم وسائل الاعلام العربية والغربية وتلا ذلك التركيز على مفردات سني ، شيعي ، كردي ... التي لم تكن متداولة قبل الاحتلال في الخطاب السياسي ، بل كانت مستهجنة . لقد جاء هذا التقسيم بمثابة الهدية الكبرى للجماعات السياسية المتنافسة والمتصارعة من أجل السلطة والنفوذ والمكاسب المادية التي استغلت هذه الهويات الفرعية ابشع استغلال من اجل تحقيق ما تهدف اليه ، ان الصراعات التي خاضتها الجماعات الاثنية كانت في سبيل الوصول الى السلطة ولم تكن بسبب الهوية . وهي خلاف سياسي اساساً اكثر منه خلافاً قائماً على أساس العرق او الثقافة وأن المنافسة بينهم تبدو وكأنها تتمركز حول قضية من الاحق بالحكم وحول تحديد معنى الوطنية بالنسبة الى البلد . ان ازمة الهوية في العراق هي قبل كل شيء أزمة حرية وأزمة وعي بها وأزمة حوار وتفاهم مع الآخر وأزمة دولة لم تكتمل ويتم نضجها وأزمة نظام سياسي تجاوز على حقوق المواطن وانسانيته. كما ان العراق طالما كان بلداً علمانياً يعرّف أغلب مواطنيه أنفسهم بهويتهم الوطنية وليس بهوياتهم العرقية أو الدينية. وبالرغم من أن النظام السياسي العراقي ربما قد فشل، فأن العراق ليس دولة قومية فاشلة، والدليل ان العراق أمة اصلاً تمتد جذورها بعمق التاريخ ضمن محيطها العربي وعليه لا يمكن أن يقسم طبيعياً أو تاريخياً أو عرقياً أو دينياً كما يصعب تفريقه الى ثلاث فئات متميزة عن بعضها البعض كما يروج له اعلامياً. كما ان الديانة الشخصية لم تلعب دوراً في التقاليد التاريخية او السياسية للعراق قبل الغزو الأمريكي في 2003. ان العراق ليس ببساطة بلداً مصطنعاً حتى وان اردناه في حسابات تشكيل الدولة العراقية لما بعد الوجود العثماني فلا يمكن ان نهمل السنوات الاخيرة السبع والتسعين التي عاشها العراقيون معاً ، مثلما لا يمكن التغاضي عن رغبتهم في البقاء ضمن دولة موحدة . وبطبيعة الحال لا يبدو العراق هو البلد الناشز من بين بلدان المنطقة في تعدده وفي تاريخ اضطراباته، لا ننكر ان هناك اختلافات بين افراد المجتمع العراقي ، تكرست في ثقافة فقهية وقومية ، تشتد تأثيراتها بدوافع سياسية مثلما هو الحال اليوم ، حيث تحاول جهات تتصدر الواجهة في السياسة والسلطة ابرازها والتذكير بها بين فترة وأخرى لأغراض سياسية . وعليه ان بناء عراق جديد يجب ان يستند الى أسس وطنية مجردة من أي نزعات طائفية أو عرقية أو دينية عنصرية ، لتكون الهوية الوطنية العراقية الواحدة هي الهدف أولاً وأخيراً. ولكن ليس على حساب أية مجموعة أو طائفة معينة. لقد كان للاحتلال الأمريكي وما أعقبة من مشاكل وتداعيات وافرازات أدت الى خلخلة بنية وتماسك المجتمع العراقي ، ولكن هذا لا يعني استحالة معالجة ذلك ، ان امامنا وحسب ما اتفق عليه الكثير من الباحثين ثلاثة جوانب أساسية لعملية أعادة ترميم وتجديد الهوية الوطنية العراقية ، وهذه الجوانب تتوزع ما بين سياسية وثقافية واقتصادية ، فعلى المستوى السياسي ، يجب الالتزام بدولة مدنية ديمقراطية حديثة ترتكز على حكم القانون وتؤمن بالدستور وتعمل على احترام حقوق الانسان وحرياته الأساسية ، مع وجود مؤسسة تشريعية فعالة قادرة على تمثيل مصالح الشعب العراقي والتعبير عن مطالبه . وفي الجانب الثقافي يجب تثقيف الجماهير باتجاه الايمان بثقافة التعددية الاجتماعية والقبول بالآخر من خلال الاعتراف بوجود التنوع أو الاختلاف إذ يمثل ذلك مصدراً للأثراء الاجتماعي والثقافي واللغوي الذي يمكن استيعابه ضمن أطار الوحدة الوطنية الشاملة . اما عن المستوى الاقتصادي فأن التوزيع العادل للثروات والقضاء على التمايز بين طبقات المجتمع الذي ينخر في جسد المجتمع وانعاش الاقتصاد العراقي من خلال تبني سياسات اقتصادية مخططة و مدروسة وتبني برامج الإصلاح الاقتصادي الشامل ووضع مشاريع استراتيجية تنموية تؤدي الى أنتشار الرخاء المادي الامر الذي سيسهم بلا شك في رفع المستوى الثقافي والتعليمي لغالبية المواطنين الامر الذي ينعكس بالإيجاب على بناء هوية وطنية عراقية شاملة .
1155 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع