خلاصة سريعة لما نشاهده عن حقيقة الانسان

                                                 

                          القس لوسيان جميل

خلاصة سريعة لما نشاهده عن حقيقة الانسان

خلاصة عامة لما موجود في كتبي: بالحقيقة ان ما اكتبه هنا ليس مقالا، ولذلك لا اعطي له رقما، لكنه خلاصة عامة لما دونته في كتابين لي عن الانسان، وانأ هنا في مدينة دهوك هما: اما الكتابان فخما: كيف نتكلم عن الانسان اليوم، وقواعد انثروبولوجية لظهور الروح وحركته وارتقائه، وحتى ما كان قد جاء في كتاب سابق بعنوان: كيف نتكلم عن الله اليوم. علما بأن كل هذه الكتابات كانت قد دونت بحسب منهجية واحدة هي منهجية انثروبولوجية علمية ( علوم الانسان وغيرها )، لا تريد ان تتعامل مع الكينونات السماوية لأنها كينونات تفوق قدرات الانسان الطبيعية، ولا تقبل ان تتعامل مع الانسان وفق نظرة غيبية، بعد ان عرفنا ان اية نظرة غيبية تعود الى اسحابها ولا يمكن استخدامها لأي عمل فكري او فلسفي او لاهوتي. 

ما يشاهده البشر: غير ان ما اكتبه الآن لا يمثل خلاصة سريعة لما سبق ان كتبته بنفسي، لكنه يريد ان يمثل ما يشاهده البشر بأم اعينهم عن الانسان وعن طبيعته وعن قدراته الأنثروبولوجية، وكذلك عن عجزه عن معرفة الأمور السماوية عجزا مطلقا. علما بأن عجز الانسان عن معرفة الأمور الالهية كان السبب في ان يكتب اولئك الناس عن الأمور المذكورة، ومنها امور الله تفسه، كتابات لم تكن ناتجة سوى عن عقلية تشبه لله بالإنسان Anthropomorphique اي تنظر الى الله بصورة انسان، كما يدل عليه هذا المصطلح اليوناني الأصل. فهل يا ترى يعقل ان يبني اللاهوتيون القدماء والحاليون علما لاهوتيا Théologique حقيقيا على الافتراض او الوهم التشبيهي هذا؟ اظن ان القارئ النبيه يقول: كلا! هذا غير ممكن.
المشاهدة الواقعية: غير اننا لا يهمنا ما يكتبه البشر عن الله وعن الانسان، بصورة تشبيهية خاطئة، وانما يهمنا ما يشاهده البشر عن الانسان مشاهدة واقعية عن هذا الانسان من حيث طبيعته ومن حيث اعماله الظاهرة والخفية، وما شاهده كتبة الاساطير على قلتها، وما شاهده الفلاسفة، كل بحسب زمانه ايضا، وكذلك ما قد شاهدته اجيال عديدة، حتى يومنا هذا، عن هذا الانسان، من حيث ظاهره ومن حيث باطنه ايضا.
العلماء والناس الاعتياديون وفضلا عن ذلك كله، لا يمكننا ان نهمل ما عرفته وشاهدته اجيال متعددة من العلماء ومن اللاهوتيين، وما كان قد شاهده اناس اعتيادييون من البشر، دون ان يتعمقوا فيما كانوا يشاهدونه. فهؤلاء الناس جميعا، بدؤوا يعرفون امورا كثيرة عما يظهر عند الانسان وعما يخفى، عن طريق الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي، من تفاصيل حياة الانسان، هذه التفاصيل التي ما كان يمكن ان يعرفها احد، لولا هذه الوسائل الالكترونية العجيبة، حتى اصبح الشارع البشري يصرح مع كثير من المبالغة طبعا، بأنه لم يعد شيئا عصيا على بني البشر، وأحيانا كثيرة يضيفون: سوى الموت.
الملاحظات المجمعة من كل فج عميق: ومع ذلك، ورغم كل هذه الملاحظات شبه العلمية عن الانسان، فاننا نؤكد ان الانسان ليس ملاكا ولا هو حيوان. وليس كلي القدرة ولا هو مجرد تابع وآلة بيد الله القدير. كما انه ليس عبدا ذليلا بيد الهه، لا يستطيع ان يعمل شيئا بدون ان يطلب الاذن الفوري او المسبق او المفترض Présumé من الهه ، او من وكلاء الهه، ولا يتحلى بصفة الا ويقال له انك ملزم بشكر الاله لما منحك من نعم وقدرات وامتيازات، او تعتذر لإلهك عن التقصير المخالف لمشيئته تعالى. هذا، مع العلم ان هذه الأمور قد تكون صحيحة من وجهة نظر احادية بشرية فقط ، اي قد تكون صحيحة نسبة الينا نحن البشر، وان لم تكن صحيحة بحد ذاتها.
النبذة المختصرة الموعودة: فالى القارئ الكريم اذن، نبذة سريعة جدا عن طبيعة الانسان في ايجابياتها وفي سلبياتها، وعن الأعمال الانسانية التي تصدر عن الانسان او صدرت في حقب زمنية مختلفة ومتعددة عنه. لكننا ننبه القارئ الكريم، بأن ما سوف نقدمه له سيكون من خلال وصف ومن خلال كلمة او عبارة تشير بايجاز الى طبيعة وحقيقة الانسان، من دون تقديم شرح او ادلة لما نقوله عن الانسان، لأننا نفترض ان الشرح والأدلة قد جاءت مسبقا في كتبنا التي اشرنا اليها، هذا كله باستثناء بعض التوضيحات. ولذلك نسمي ما نقدمه من صفات عن الانسان، سواء كانت ايجابية او سلبية استعراضا لأعمال الانسان الذي يُعرف من اعماله، كما ان الشجرة تعرف من ثمارها، كما يقول انجيل متى: 7:15 - 21
لن يكون التنظيم مبوبا ومنظما: لكن هذا التقديم لن يكون مبوبا ومنظما بحسب الحقب الزمنية او بحسب طبيعة اعمال الانسان المتعددة. غير ان كل كلمة او تعبير يصف لنا ببساطة عميقة ربما ما جاء في مقالات هذا الكتاب الذي ندرج فيه هذا المقال، وما يمكن ان نجده بصورة منظمة جدا، في كل مؤلفاتنا الأخرى، التي كتبت وفق منهجية انثروبولوجية واحدة. اما اذا سألنا احد عن سبب عدم تنظيم ما نكتبه في هذا المقال تنظيما فكريا كلاسيكيا، فنقول ان ذلك يأتي بكون هذا التنظيم قد سبق ورآه القارئ في طول وعرض هذا الكتاب، او يمكن ان يراه في كتبنا الأخرى. علما، بأن القارئ الكريم سيلاحظ ان شيئا من التنظيم يسود هذا الموجز، على الرغم ما سبق ان قلنا بشأنه.
التنظيم كان يتطلب مجهودا غير ضروري: وهنا نطلب من القارئ الكريم ان يعرف، بأن التنظيم الكلاسيكي الأكاديمي للموجز الذي نقدمه،يتطلب مجهودا كبيرا يكاد يساوي كل المجهود الذي بذلته في سبيل تدوين هذا الكتاب كله، علما بأننا نرى ان مثل هذا المجهود ليس ضروريا اصلا، لأن ما نقدمه هو قصاصات طيارة عن اعمال الانسان التي تشي بطبيعته الانسانية، ولم نستطع ان نكتب عنها كلها. اليكم اذن ما كنت قد خزنته، ليس في ذاكرتي فقط، ولكن على خازن الحاسوب ايضا.
طبيعة الانسان: فالانسان اذن كائن حي يجمع بين الجسد المادي وبين الروح الذي هو بعد من ابعاد الجسد المادي هذا، حيث ان الروح لا ينفصل ابدا عن مادته الجسدية البيولوجية ( الحياتية ). وعليه فالانسان ليس مركبا من كينونة مادية وكينونة روحية تسمى النفس الخالدة. وبما ان الانسان كائن مائت، فان موت الجسد يسحب معه موت جميع القوى الانسانية الأخرى فيه: العقل والمشاعر والضمير والذات التي كانت تجمع بين تلك القوى.
من نستثني من الموت المباشر: اما من نستثنيه من الموت الشامل، فهو شخص الانسان الذي ليس اكثر من صورة عن الفرد البشري، هذه الصورة الأنثروبولوجية الروحية التي يمكنها ان تبقى بين ذوي الانسان ومحبيه كما كانت عندما كان على قيد الحياة. اما صورة الانسان المتوفى ( الشخص )، فمدة بقائه بين محبيه ومن لا زالوا بحاجة اليه، فتعود الى قوة الحاجة التي لا زال يمتلكها المتوفى لكي يخدم بها محبيه المحتاجين اليه، بشتى الاحتياجات، المادية والروحية والعاطفية. انها حياة انثروبولوجية.
البقاء لزمن طويل: اما بقاء من كان ومن لا يزال يملك الحاجة التي يفتقر اليها المحب او المؤمن، لمدة طويلة جدا، ربما تكاد ان تكون مطلقة، فذاك يحدث عندما كان المتوفى وهو على قيد الحياة، يملك في ذاته حاجة انثروبولوجية مطلقة تهم حياة المؤمن بشكل مطلق يقود الى ان يرى المؤمن في المتوفى قدسية خاصة مطلقة ايضا وديمومة حياة الى الأبد ( الحياة الأبدية ). علما بأننا نرى ظاهرة القدسية هذه لدى يسوع الملقب بالمسيح وعند رسله كما نراها لدى كثير من الشهداء الأوائل الذين قاموا بخيارات مماثلة لخيار يسوع وخيار تلاميذه، الذي وان كان خيارا خاصا بأولئك المؤمنين الأوائل، الا انه يمكن ان يتكرر هنا وهناك حسب قواعد لا يمكننا ان نتكهن بها بسهولة لفرادتها.
اما خلود مثل هؤلاء الناس الذين نتكلم عنهم فيعود الى قوة ما كانوا يملكون من صفات استثنائية تشكل حاجة انثروبولوجية مطلقة للصفات التي كان يمتكلها المتوفى، والتي يمكنها ان تفيد الكثيرين من بعد مغادرة المتوفى من كان لهم بمثابة الدليل الى طريق خلاصهم الأنثروبولوجي الحضاري والاجتماعي. ومع ذلك نؤكد، ونظرا الى القواعد الجدلية Dialectique بأن لا توجد لأحد، ما بعد موته، ديمومة بدون نهاية بالشكل المطلق. فسجل التاريخ يبقى مفتوحا لكل من تنتهي حياته الجسدية والروحية ( معنى الانسان ومعنى معطياته ) ليدخل سجل الأموات في احسن الأحوال. وذلك دون ان نستثني احدا من البشر.
الانسان والتاريخ: ان مما نراه واضحا استنادا الى منهجيتنا الأنثروبولوجية هو ان الانسان ابن تاريخه بشموليته، سواء كان تاريخا حياتيا بيولوجيا، او كان تاريخا روحيا ونفسيا، او كان تاريخا اجتماعيا او كان تاريخا مقدسا، فرديا كان ام جمعيا، ام كان تاريخا مؤسساتيا ام كان تاريخا معرفيا. علما ان تاريخ الانسان المعرفي العقلي الموضوعي يبدأ بالحواس اولا، كما يقول ارسطو ــ توما الاكويني، ويمتد ليصير تاريخ الخيارات الذاتية وتاريخ المشاعر المتعلقة بالحب والكراهية، بكل انواعهما.
الانسان الظاهرة: وبهذا يكون الانسان ظاهرة فيها ما هو ظاهر للعيان وفيها ما هو خفي لا يعرف الا من قبل صاحبه، وما يريد صاحبه ان يعلن عنه. كما يعرف الانسان من علامات اخرى تدرس في علم النفس. ف/ بهذا المعنى يكون الانسان سرا يحوي معنيين: انه سر بمعنى انه خفي عن الآخرين، وهو سر بمعنى انه علامة على ما في داخل الانسان، ليكون الانسان بالتالي بين عالمين: عالم الحواس الموضوعية، اي عالم العقل الموضوعي، وبين عالم المشاعر الذاتية، هذان العالمان المتكاملان اللذان لا ينفصلان واحدهما عن الآخر ويعملان كل بحسب طبيعته الخاصة وبحسب الخدمة او الوظيفة التي يقدمانها لمعرفة طبيعة الانسان.
الانسان رجل وامرأة: اولا عندما نقول عن الانسان انه رجل وامرأة، فهذا يعني ان كلا من الرجل والمرأة يبقى انسانا ناقصا يحتاج ان يكتمل بالآخر. وهكذا، وبهذا الكلام الموجز نرى انفسنا نتكلم عن زواج الانسان لكي نقول ان زواج الانسان يختلف عن زواج ارقى الحيوانات، ويمتاز بالحب الذي يعتمد المشاعر الانسانية الراقية كما يعتمد بجانب آخر منه على العقل الذي يساعد على مساكنة رجل وامرأة مع بعضهما بوفاق وسلام ومحبة، مع انهما كانا غريبين عن بعضهما البعض، في كل شيء.
الانسان والعمل: والإنسان يستخدم عقله ومشاعره في العمل الذي يقوم به، هذا العمل الذي هو صفة انسانية واضحة، على الرغم من مشقته. وبهذا المعنى يكون الانسان بَناءا حتى لو كان في جانب آخر مخربا. وعليه ففي هذا الاطار يكون الانسان محاربا الى جانب كونه مسالما ايضا.
الانسان كائن اجتماعي: والإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش لوحده. اما قصة روبنسون كروزئيه فهي مجرد قصة لا دليل على صحتها التاريخية. وكذلك قصة روميلوس الذي ربته ذئبة في الغابة التي كان قد ولد داخلها. غير ان هذا الكائن الاجتماعي هو في الوقت عينه كائن يحب التحرر والحرية التي تنقذه من عبودية المجتمع والقدرية الصارمة والمحدودية المادية، الخالية من امكانات التصرف المتعددة.
الانسان والعلم والمعرفة: اما من حيث حب الانسان للعلم والمعرفة فلا شك فيه، لآن محبة العلم والمعرفة لدى الانسان تتبع صفة انثروبولوجية انسانية عنده. اما على الضد مما اتينا الى ذكره اعلاه ولأسباب اخرى نجد كثيرا من البشر، مكتفين بما تعلموه منذ صغرهم الى درجة اننا نشاهد هؤلاء البشر خاضعين لما تسمى غريزة القطيع grégaire L'instinct
الانسان صانع حضارة: اما من جانب آخر فاننا نجد ان الانسان يصنع حضارة: حضارة لا تعتمد على بعد واحد بل على ابعاد متعددة، لا حدود ولا حصر لها في اي زمان واي مكان كان. اما اهم هذه الحضارات هي الحضارة البدائية الاسطورية والحضارة الفلسفية والحضارة العلمية التي قد دخلتها مجتمعاتنا منذ زمن طويل. علما ان الحضارة العلمية هي اغنى الحضارات المذكورة بالجانب النظري والجانب العملي ايضا.
الحضارة والضوء الذي تلقيه: وبما ان الحضارة تلقي ضوءا على حقيقة الانسان، فان حضارتنا الراهنة الظاهرة للعيان والخفية تلقي الضوء الحقيقي على ماهية الانسان الحقيقية، تشهد بذلك علوم الانسان المتطورة والصناعات والتكنولوجية التي تبهر العيون والعقول، وتقول لنا من هو الانسان وما هو مدى قدراته الانسانية الحقيقية بعيدا عن الغيبية. فالمشاهدة العلمية تفقأ العيون حقا وتقدم البرهان على حقيقة الانسان، دون ان تستطيع ان تعرفه بالكامل. اما الحكم على الانسان وعلى هويته نظرا الى ايمانه الديني او الى عدم ايمانه، فإننا نعتقد ان هذا الحكم جائر ولا معنى له سوى التقليل من شأن العلوم باسم الدين الذي لا يحترم مثل هذه العلوم. اما في الجانب الآخر فان تاريخ الحضارات يظهر للبشر حقيقة الانسان في مختلف الحقب الحضارية.
الانسان ابن بيئته: والإنسان ابن بيئته، بكل معنى الكلمة. فهو ابن هذه الأرض الطيبة بخيرها وشرها، وبمرونتها وبمقاومتها لمجهود الانسان في السيطرة عليها. والانسان ابن الليل والنهار ( ابن الزمن ) وابن الجاذبية الأرضية، وابن كثير من عناصر الطبيعة، مثل الهواء والماء، والتي لولاها ما كان يمكن ان يعيش الانسان على ارضنا هذه.
اهمية الذاكرة والخيال للانسان: والإنسان يعيش على ذاكرته وعلى قوة خياله الذي يسمح له بتذكر الأشياء التي مر بها وجربها ورأى ان كانت صالحة ونافعة ام كانت ضارة له. فنحن لا نعرف كيف كنا نعيش ونبني وننقل حضارتنا الى اجيالنا اللاحقة بدون ذاكرة قوية. وهل يوجد في حياتنا شيء لا يعتمد على الذاكرة. وهل كان يمكن ان يكون للانسان لغة مثلا لولا وجود الذاكرة عنده؟ اما الخيال فيسمح للانسان بمد نظره الى الماضي والمستقبل، دون اهمال الحاضر، لكي يتعظ الانسان المؤرخ بالماضي ويتفاءل بالمستقبل. كما يسمح الخيال للانسان بأن يستطيع ان يتصور الأشياء كما يريدها هو ويتمناها، وليس كما هي بذاتها وواقعها، ولكي يستطيع ان يجعل الحاضر على غير ما كان عليه قبل ان يعمل عليه خيال الانسان ويصلح من شأنه، ويضيف او يحذف منه ما يشاء لكي يصير الحاضر الموضوعي مطابقا لرغبة الانسان الأنثروبولوجية.
فيما يخص الزمن:اما فيما يخص الزمن، فان الانسان يميل دائما لكي يجعل مستقبله افضل من حاضره. علما بأن هذا الخيال يعمل في كل اعمال الانسان التي لا يمكن ان تبقى على حالتها الخام كما توجد في الطبيعة، ويعدل ما فيها ويحذف ويستغني عما فيها مما لا ينفعه. وربما يكون الطبخ الدليل الواضح على التلاعب بالمأكولات لتصبح اكثر ملائمة لذوق الانسان وانفع له من الناحية الصحية ومن ناحية المذاق والشهية.
الخيال والفنون الجميلة: ولربما تكون الفنون الجميلة: مثل الرسم والنحت وفن العمارة والموسيقى والغناء والرقص والآداب بجميع اشكالها: الشعر والنثر والرواية وغير ذلك من الأمور البنيوية التي تسيطر عليها المخيلة وتبدع امورا جديدة لم تكن موجودة في الطبيعة الخام. ولهذا يقال ان الفنون الجميلة موهبة تتبع المشاعر والخيال اكثر مما تتبع العقل ومستلزماته العقلية الموضوعية. كما يقال عن الفنون الجميلة انها ابداع، هذه الكلمة التي تقترب من كلمة الخلق كثيرا. اما ما عدا ذلك، وبناء على امكانات الانسان الكثيرة نلاحظ بشرا يكذبون كثيرا ويعيشون على النصب والاحتيال، ويتكلمون مع الآخرين بكلام مزدوج المعاني يضر الحوار مع الآخر. كما نجد بشرا آخرين يصدقون ولا يخشون في قول الحق لومة لائم. كما نشاهد بشرا متشائمين ومحبطين وأشقياء بعكس آخرين نجدهم متفائلين يؤمنون بالتغلب على الصعوبات مهما عظمت.
الانسان والصلاة: من جهة ثانية نجد بشرا كثيرين يصلون، وان تعددت اساليب صلواتهم، مما يؤكد لنا ان الصلاة صفة من صفات الانسان الأنثروبولوجية. اما الذين لا يعرفون للصلاة معنى، فقد يعود ذلك الى ما وصلت اليه صلوات البشر من ضحالة شبيهة بضحالة الانسان الوثني القديم. وقد يأتي الانقطاع عن الصلاة بسبب انتشار روح العلمانية والعلمية وروح الالحاد في العالم، في حين ان الكثيرين لم يجدوا بعد البديل عن الصلاة التقليدية، هذا، مع علمنا بوجود تجارب عديدة لجعل الصلاة مهمة ومفيدة للانسان، بعد تخليصها من فكرة الاله السماوي الذي يحي ويميت ويوزع الهدايا والامتيازات لمن يشاء ولاسيما لمن يصلون ويتذرعون له.
الانسان والحرية: من جانب آخر نرى الانسان يعشق الحرية، ولا يقبل بديلا لها، وهو محق بذلك بحسب وجهة نظر انثروبولوجية معينة. فالانسان يعتقد انه غير محدود في خياراته الحياتية. فهو لا يؤمن بمحدودية Déterminisme الانسان المطلقة، ولا بحريته المطلقة التي هي اصلا غير متاحة لأحد من البشر، بالضد مما تقول به بعض الفلسفات. فالانسان بدأ يعرف اليوم ان يعيش من خلال ما تكون الطبيعة قد فرضته عليه، من حيث جيناته الوراثية ومن حيث تربيته الاجتماعية ومجهوده الشخصي، مع انه يعرف ايضا انه بامكانه ان يحسن من شأن ذاته في مجالات عديدة. ومن يدري ربما سيساعد الديجيتال على تحسين جينات الانسان نحو الأفضل. نقول ربما!
الانسان وقانون الاحتمالات والصدف: وهنا يمكننا ان نقول بأن هناك قانونا انسانيا هو قانون الاحتمالات، هذا القانون الذي يساعد الانسان بأن لا يبقى اسير الحياة المفروضة عليه، بشكل تشاؤمي Fatale. لا بل يستطيع اي انسان، اذا ما شاء واجتهد وبذل بعض المجهود، ان يستفيد من الصدف الخيرة الطيبة، لكي يحسن حياته الانسانية تحسينا عميقا في المجالات المادية والروحية. هذا، ومن يدري! فقد يكون الايمان ومساعدة الكنيسة بأشكالها المختلفة، من يستطيع ان يساعد الانسان على ان يكون متفائلا ومستفيدا من قانون الاحتمالات ومن صدفه. فرب ضارة نافعة كما يقول المثل العربي.
الفلسفة الرومانسية: وأخيرا وليس آخرا، على الاطلاق، طالما نعرف ان عالمنا في حركة دائمة نرى ان الفلسفة الرومانسية خير عون لنا في مضمار فهم الانسان. اما الفلسفة الرومانسية او الرومانتيكية فلا تعني العواطف الجياشة والخيالية فقط، لكنها تعني بالدرجة الأولى اللجوء الى القصص الرمزية او الروايات لتعريف الانسان وتحديد ماهيته.
لماذا يلجأ الرومانسي الى القصص:اما لماذا يكون اللجوء الى القصص ذات المعنى او الروايات لتحديد هوية الانسان الحقيقية، فنقول بوضوح معتمدين على معرفتنا بهذه الفلسفة، بأن استخدام الفلاسفة الرومانسيون لفلسفتهم التاريخية التي تعتمد على الروايات، يأتي كبديل عملي للتاريخ. فالتاريخ بمجرياته غير المتناهية لا يمكن متابعته الا عن الطريق الذي اختاره الرومانسيون، اي عن طريق تبديل التاريخ كمعطى دراسي معرفي بما يماثله وهو الرواية، علما ان هذه الرواية يمكن ان تكون بديلا مختصرا للتاريخ، ولاسيما ان تعريف الانسان بحسب الرومانسية لا يكتمل من قراءة وتحليل رواية واحدة، بل يحتاج الى ما هو غير متناه من الروايات القديمة والحاضرة والمستقبلية. هذه الروايات التي لابد وان تكون كلها متماثلة اي متشابهة من جهة ومختلفة ومتعددة من جهة اخرى.
فالروايات الرومانسية تعتمد على مجموعات من اللقطات التي تبين خيارات البشر المتنوعة والخاصة بكل فرد او بمجموعة محددة من الأفراد، كالأفراد المرتبطين بالحب مثلا، غير ان الرومانسيين يبقون باب الخيارات الانسانية مفتوحا امام اي تغيير حضاري وما يمكن ان يمثله من خيارات جديدة، لن تكون سوى خيارات مماثلة للخيارات البشرية القديمة.
فما يفعله الفيلسوف الرومانسي اذن هو انه يلجأ الى بعض خيارات الانسان التي وان كانت خيارات فرد بعينه، وليست خيارات غيره، وهي تبغي تعريف هذا الفرد وليس غيره، غير ان الانسان، بكونه من طينة واحدة مادية ــ روحية يجعل من اي خيار فردي ممكنا ان يصح تماثليا، وليس كليا، في حالات اخرى غير الحالة التي تكون الرواية بصددها.
وهكذا يرى الرومانسيون ان فلسفتهم هي فلسفة تاريخية نموذجية بديلة لتاريخ واقعي حقيقي. وعليه لا تقبل الرومانسية باستنساخ مادي وشامل لخيارات اشخاص الرواية، لكي تدخل هنا حقيقة انسانية اخرى تسمى التأويل والتأوين، هذا التأويل والتأوين الذي يسمح لبعض الناس ان يستفيدوا من رواية معينة مكتوبة في اطار حضارة معينة وأمزجة شخصية معينة وفي زمن ومكان معينين، لتطبيقها في زمن آخر.
الفلسفة الرومانسية ولاهوت الكنيسة: وعليه نفهم لماذا لا تقبل الفلسفة الرومانسية بتعريف الكنيسة للانسان الذي يقول ان الانسان كائن مركب من جسد ونفس روحانية عاقلة وخالدة. فالرومانسية تقول بفرادة الانسان من جميع النواحي، لذلك لا يمكن ان تقبل بتعريف الانسان بالشكل الذي تفعله الكنيسة الى حد هذا اليوم تقريبا، لأن الرومانسية تقول بان تعريف الكنيسة الجامد عن الانسان لا ينطبق على الانسان الحقيقي المغرق في التعددية في كل صفاته وخياراته الحياتية. كما ترى الفلسفة الرومانسية ان الرواية المفترض انها مستقاة من التاريخ، على الرغم من ان شخوصها كلهم ليسوا من التاريخ، لا يمكن ان تؤمن بتعريف الانسان تعريفا، وكأنه مادة جامدة لا تحمل اية حركة واية تعددية.
خلاصتنا هي تاريخ ايضا بالتماثل: وعليه فان ما قدمناه عن الانسان في هذه الخلاصة الموجزة عن الانسان، يستند الى تاريخ خيارات الانسان الحياتية، وما يظهر عليه من طبيعة انسانية حقيقية ومن افعالها. كما ان ما قدمناه يمكن ان يمثل كثيرا من خيارات الانسان على مدى زمن طويل جدا. فالانسان غير متناه في خياراته الانسانية غير المتوقعة من اي فرد بعينه، لكنها متوقعة ان تحدث عند كثيرين آخرين. فما تقدمه الفلسفة الرومانسية عن طريق الرواية في مسألة خيارات الانسان غير المتناهية يمكن ان يحدث في الواقع في اي زمان مناسب، او يحدث ما يماثله.
خيارات يسوع المسيح وتلاميذه: اما خلاصتنا التاريخية هذه عن الانسان فتشمل ايضا الخيار التاريخي الذي عمله يسوع في تصديه لفكر العهد القديم وممارساته الفارغة وشريعته التعسفية، كما يشمل خيارات الرسل وخيارات جميع المؤمنين الذين قبلوا الموت كشهادة على ما كانوا يؤمنون به. مع ايماننا العميق بأن الخيار الذي قام به يسوع وقام به رسله ومؤمنون كثيرون انما يمكن ان يتكرر اليوم ايضا في اية بقعة من العالم.
مقال مستل من كتابي غير المطبوع
كيف نتكلم عن الانسان اليوم
القس لوسيان جميل

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3064 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع