قاسم محمد داود
" حركــة الـشـواف " صفحات من تاريخ العراق المعاصر
تمهيد:
تركت الاحداث التي حدثت في الأشهر الأولى بعد انقلاب 14 تموز 1958 على مسيرة العهد الجمهوري الجديد الذي حل محل النظام الملكي في العراق، فسرعان ما دب الخلاف بين "الضباط الاحرار" الذين قاموا بالانقلاب وانفراط عقدهم بسبب اختلاف المعتقدات والطموحات الشخصية لعدد منهم، وأنعكس اثر الفرقة والانقسام على صفوف الشعب والأحزاب السياسية الأخرى، وقد ظهر ذلك واضحاً بعد اعتقال عبد السلام محمد عارف (1921 بغداد -1966) الرجل الثاني في القيادة، وتقديمه للمحكمة العسكرية العليا الخاصة، بتهمة التآمر لاغتيال عبد الكريم قاسم، وانقسم الرأي العام الى اتجاهين قومي يقف ضد عبد الكريم قاسم وإجراءاته، وشيوعي يقف مع عبد الكريم قاسم، وبدلاً من الحوار لجأ الطرفان الى القتل والعنف والتشهير. وعلى أثر ذلك قدم ستة من الوزراء استقالاتهم من حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم اعتراضاً على سياسة قاسم وطريقة معالجته لهذه الخلافات. أدى خروج الوزراء الى اشتداد التوتر السياسي وحدوث صدامات بين القوميين والشيوعين في العديد من المدن، وزيادة الاعتقالات في صفوف القومين، فأدرك البعض من " الضباط الاحرار" بأنه لابد من القيام بعمل عسكري ضد عبد الكريم قاسم فكانت محاولة الموصل الانقلابية.
المحاولة:
التسمية الشعبية لهذهِ الحركة ومثيلاتها من الانقلابات والتمردات المسلحة في العراق " ثورة" لذلك أُطلق على هذا التمرد المسلح العسكري والمدني كما يصنفهُ الباحثون في علم الاجتماع التاريخي كحنا بطاطو أسم " ثورة الشواف ". نسبة الى العقيد الركن عبد الوهاب الشواف الذي قادهُ. لم يكن العقيد الشواف وحده من خطط لهذا التمرد بل هناك من يقول انه آخر من أنظم الى مجموعة الضباط التي كانت تعد العدة للقيام بذلك، ومنهم الزعيم (العميد) الركن ناظم الطبقجلي والعقيد الركن رفعت الحاج سري. فمن هم هؤلاء الضباط:
1- العقيد الركن عبد الوهاب عبد الملك الشواف القيسي ولد في بغداد سنة 1918 أحد مؤسسي تنظيم " الضباط الاحرار" الذي قام بانقلاب 14 تموز 1958 ، آمر اللواء الخامس في الموصل وكان الشواف معروفاً في الوسط العسكري والاجتماعي بكونه يسارياً (حسب حنا بطاطو 194/3).
2- الزعيم (العميد) الركن ناظم الطبقجلي ولد في بغداد سنة 1913 ، عضو تنظيم " الضباط الاحرار الذي أطاح بالحكم الملكي في 14 تموز 1958 ، قائد للفرقة الثانية وكان مقرها في كركوك اثناء الحركة .
3- العقيد مصطفى رفعت الحاج احمد سري ولد في بغداد سنة 1914 ، مؤسس تنظيم الضباط الوطنيين ، مدير استخبارات وزارة الدفاع .
وهنا لابد من ان نذكر ان الموصل التي كانت مسرحاً للتمرد عرفت منذ وقت طويل بتداخل النزعة الدينية مع الوعي القومي، الامر الذي أهلها لأن تكون مركزاً لمعارضة الأفكار المادية والشيوعية، لذلك كانت المدينة تعتبر معقلاً معادياً للشعارات التي كانت ترفعها الجماعات التي كانت تقف مع عبد الكريم قاسم وعلى رأسها الحزب الشيوعي. وفي أجواء مشحونة بالانقسام وتصاعد الخلافات وروح العداء قرر الشيوعيون ان يعقد يوم 6 آذار 1959 تجمع لمنظمة أنصار السلام (الواجهة الشيوعية ) في تحد واضح للتجمعات القومية في الموصل وكان عبد الكريم قاسم قد اعطى موافقته على عقد التجمع وعمل على ضمان نجاحه بأن وظف في خدمته الكثير من الوسائل الحكومية كالأجهزة الأمنية والإذاعة والتلفزيون والسكك الحديدية حيث وضع قطاراً خاصاً يعمل الى الموصل بنصف الاجر، وبحلول الخامس من آذار بدأ الانصار يتدفقون على المدينة بعشرات الالوف ولأول مرة في مناسبة كهذه لوحظ أن الأنصار جاؤوا مسلحين. "حاول العقيد الشواف تفادي المواجهة، وذهب الى بغداد واطلع عبد الكريم قاسم على حقيقة الموقف "، لكنه لم يجد اذناً صاغية بل اصرار من الزعيم على عقد المؤتمر الذي كان مكرساً للدعاية له ولمواجهة القوى القومية. انعقد المؤتمر على ارض ملعب الموصل والقيت الكلمات المضادة للتوجهات القومية والتي كانوا يسمونها " القوى الرجعية ". وفي اليوم الثاني 7 آذار، أخذ القوميون يتجمعون بشكل مظاهرة ضخمة سارت في شوارع المدينة، فحصلت مصادمات بين الطرفين تبودل خلالها اطلاق نار، ووقعت أصابات، وأضرمت النار في بعض المقاهي والمكتبات والسيارات، فقام الشواف بتطبيق خطة الأمن، وأعلن منع التجول، ونزل الجيش الى الشوارع، وجرت حملة من الاعتقالات في صفوف الطرفين.
وجد الشواف الفرصة مناسبة للبدء بالحركة دون انتظار موافقة شركائه في بغداد وكركوك والوحدات العسكرية الأخرى، كالزعيم (العميد) الركن ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري وغيرهم من الضباط ، مستغلاً الصدامات التي حدثت في اليوم السابق، فقام باعتقال قادة الشيوعيين من الضباط وضباط الصف وعدد من ابرز شيوعي الموصل. وفي الساعة السابعة من صباح يوم الاحد 8 آذار 1959 اذاع " من الإذاعة التي حصل عليها من الجمهورية العربية المتحدة ووضعت في مدرسة التعبئة في معسكر الغزلاني البيان الأول للانقلاب " الذي اعده بنفسه وقرأ بصوت محمود الدرة ، وتضمن نقداً لاذعاً لسياسة الزعيم عبد الكريم قاسم ، منذ قيام " ثورة 14 تموز " واتهمه بخيانة الثورة " وكانت مقدمة البيان: (أيها المواطنون عندما اعلن جيشكم الباسل ثورته الجبارة في صبيحة 14 تموز الخالد ، عندها حطم وتأييدكم الاستعمار وعملائه، وقضى على النظام الملكي، وأقام بمؤازرتكم النظام الجمهوري الخالد لم يدر بخلده أن يحل طاغية مجنون محل طاغية مستبد ، وتزول طبقة استغلالية بشعة ، ليحل محلها فئة غوغائية ...) كما وصف البيان عبد الكريم قاسم بالخيانة فقال : (... هذا الزعيم الذي خان ثورة تموز ، وعاث بمبادئها ، وأهدافها ، ونكث بالعهد ، وغدر بإخوانه الضباط الأحرار ونكل بهم ، وأبعد أعضاء مجلس الثورة الاشاوس ليحل محلهم زمرة انتهازية رعناء ، وقادته شهواته العارمة الى تصدر الزعامة ، وأعتمد على فئة تدين بعقيدة سياسية معينة لا تملك من رصيد التأييد الشعبي غير التضليل ، والهتافات الغوغائية، والمظاهرات ...) وأشار البيان الى ان الحركة محض داخلية من اختصاص الشعب العراقي وحده ورفض أي تدخل خارجي في شؤون العراق الداخلية من أي دولة كانت . وأعلن التمسك بأهداف " ثورة 14 تموز الخالدة " ، ومراعاة مبادىْ الدستور ، وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي ، وتطبيق سياسة اشتراكية ديمقراطية تعاونية . وفي السياسة الخارجية أشار الى تبني سياسة الحياد الإيجابي ، والتعاون مع البلدان الصديقة والمحافظة على التزامات العراق الدولية . ودعا البيان عبد الكريم قاسم الى الاستقالة حتى يستطيع مجلس السيادة ممارسة سلطاته وتأليف وزارة ، وأختتم البيان بدعوة المواطنين الى الهدوء والسكينة ، وتجنب الاضرار بالممتلكات العامة او سفك الدماء .
اما على الجانب الآخر في بغداد فقد صادف يوم الحركة عيد المرأة العالمي في 8 آذار ، وكان الزعيم عبد الكريم قاسم يحضر الاحتفال في قاعة سينما الخيام ، وبعد أنهاء خطابه اخبره مرافقيه بخبر الحركة فترك مكان الاحتفال وعاد الى مقره في وزارة الدفاع التي كان هو وزيرها بالإضافة الى منصب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة . بعد ان تشاور مع قادته العسكريين أصدر مرسوماً بإحالة العقيد الركن عبد الوهاب الشواف آمر جحفل اللواء الخامس ، على التقاعد فوراً وخصص مكافأة نقدية قدرها عشرة آلاف دينار لمن يقبض عليه حياً او ميتاً، كما اصدر امراً يقضي بتعيين العميد يونس محمد طاهر آمراً للواء الخامس بدلاً من الشواف ، ثم صدر أمراً آخر من قاسم موجه الى الضباط وغيرهم من المراتب في اللواء الخامس يوعز اليهم بإلقاء القبض على الشواف ، كما صدرت بيانات عدة من الحاكم العسكري العام (اللواء احمد صالح العبدي 1913 ــ 1968 بغداد ) حول الموضوع ذاته . وأصدر العقيد طه مصطفى البامرني قائد المقاومة الشعبية ( ميليشيا مسلحة أسست في الاول من آب 1958 وربطت بوزارة الدفاع ، قدر عدد المنتمين اليها آنذاك ب11000 شاب وفتاة وكان الحزب الشيوعي يسيطر عليها ) أمراً لمرؤوسه في الموصل مهدي حميد " بسحق المتآمرين والخونة " . وفي صباح يوم 9 آذار قامت اربع طائرات من السرب الخامس في معسكر الرشيد بقصف مقر الشواف ، أدى قصف الطائرات القادمة من بغداد الى جرح العقيد الشواف وأثناء ذهابه لمعالجة الجرح حوصر من قبل جنود معارضين له لألقاء القبض عليه فبادر بأطلاق النار على نفسه وتوفي في الحال . وفي الساعة الثامنة والنصف صباحاً قطع راديو بغداد برامجه وأعلن مقتل الشواف. سادت الفوضى مدينة الموصل بعد انتشار خبر مقتل الشواف ، وحدث قتال بين قوات الجيش ، وتدفقت اعداد كبيرة من العشائر العربية والكردية الى المدينة ، " وأخذ افراد المقاومة الشعبية والعشائر تجوب المدينة وتفتش البيوت والمحال ، وبدأ الاقتصاص من القوميين " وسقطت المدينة تحت سيطرة الشيوعيين ، وانتشرت اعمال القتل والسحل والنهب ، ولعبت الفوارق القومية والطبقية والاقتصادية والطائفية والعداوات الشخصية دورها في التحريض على القتل والانتقام . "وكان المشاركون في الحركة يشنقون ويعلقون على أعمدة الكهرباء ، أو يسحلون في شوارع المدينة وهم أحياء حتى يلفظوا انفاسهم " ، وبلغ عدد الذين سحلوا 30 شخصاً من المدنيين والعسكرين ،من ضمنهم العقيد الشواف ، بعد سيطرة الشيوعين على المدينة قاموا بتشكيل محكمة لإدانة المتعاونين مع الشواف برئاسة العضو في الحزب الشيوعي عبد الرحمن القصاب ، وأصدرت المحكمة احكاماً بالإعدام على ما يقارب 17 طالباً نقلوا تحت حراسة فصيل الدفاع وبعض افراد المقاومة الشعبية على وجبات الى موقع ( الدملماجة ) شرقي نينوى التي جرى تنفيذ الحكم فيها .واستمرت المذابح واعمال السلب والنهب ثلاثة أيام وقدر عدد القتلى 200 قتيلاً ، وحدثت اعمال عنف مماثلة في مدن العراق المختلفة ، وبخاصة في كركوك والبصرة ، وأعتقل الكثيرون ، وجرت تصفية تكاد تكون شاملة في صفوف الجيش من العناصر القومية. بعد فشل حركة الشواف اعتقل جميع الضباط الذي ايدوا او اشتركوا في الحركة ومعظمهم من منتسبي اللواء الخامس والوحدات المجحفلة معه وبضمنهم امروا تلك الوحدات وعدد من ضباط القاعدة الجوية في الموصل، والعقيد رفعت الحاج سري مدير الاستخبارات العسكرية بالاضافة الى العميد الركن ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية واحيلوا الى (محكمة المهداوي) وهي المحكمة العسكرية الخاصة وسميت محكمة الشعب، أسست عام 1958 في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم لمحاكمة الوزراء والمسؤولين في العهد الملكي الذي سقط بانقلاب عسكري صبيحة 14 تموز 1958 وكان رئيسها ( العقيد فاضل عباس المهداوي 1915- 1963 بغداد) وهو ابن خالة عبد الكريم قاسم ، وكانت تعقد جلساتها في قاعة الشعب في منطقة الباب المعظم، وتنقل وقائعها على الهواء مباشرة من الراديو والتلفزيون، وقد استمرت جلسات هذه المحكمة حتى سقوط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963 ، شهدت هذه المحكمة محاكمة رجال العهد الملكي ومحاكمة العقيد عبد السلام محمد عارف، ( رئيس الجمهورية من 8 شباط 1963 لغاية 13 نيسان 1966 ) بتهمة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم . حكمت هذه المحكمة على الضباط المشتركين والمؤيدين للحركة بالإعدام رمياً بالرصاص وكان عددهم 22 ضابط ونفذ بهم امر الإعدام في ثلاث وجبات في ميدان رمي أم الطبول ، الوجبة الأولى في 30 آذار، والثانية في 25 آب والأخيرة في 20 أيلول من العام نفسه ، و في 25 أب 1959 نفذ حكم الإعدام شنقاَ حتى الموت بفاضل حمادي الشكرة وهو صاحب مكتبة بمدينة الموصل . سددت حركة الشواف في الموصل ضربة قوية لأمال الزعيم عبد الكريم قاسم في إقامة حكومة قوية مستقرة ، وفشلت جهوده لأحداث توازن بين الفئات المختلفة .
1136 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع