القس لوسيان جميل
هل العلم واحد ام اثنان
عندما يستطيع كاتب هذه الأوراق المنثورة ان يجمع بين اكثر من علم من علوم الانسان خاصة في علم واحد، وفق منهجية انثروبولوجية متميزة خاصة به، هذه المنهجية التي ليست غريبة عن الفكر المعاصر الأنثروبولوجي،حينئذ يهمه تساؤل العنوان الذي يقول: هل العلم واحد ام اثنان. ولكن لماذا يهمه هذا التساؤل يا ترى؟ نقول لآن الكاتب يتصدى لحيلة فكرية يجدها عند الأوساط السلفية التي وجدت نفسها في حالة تناقض بين طروحاتها الاسطورية في مجال المعتقدات وبين طروحات المؤمنين بالعلم كوسيلة وحيدة لمعرفة الحقائق التي تهم حياة الانسان. علما بأن العلم هنا هو العلم الموضوعي الوضعي Objective الذي يصل اليه الانسان من خلال المشاهدة المباشرة او المشاهدة بواسطة الأجهزة المناسبة.
كما يجب ان ندخل في خانة العلم كل معرفة تأتي من مشاعر الانسان الذاتية Subjective ويمكن تصنيفها ووضعها في قوالب معقولة، وان كان ذلك بدرجة اقل من العلوم الموضوعية.علما بأن العلم الناتج من المشاعر الانسانية هو اقوى وأعمق وأشمل وأكثر تعريفا للانسان، من العلوم الموضوعية، شرط ان نوحد بين المعرفتين الموضوعية والذاتية في معرفة انسانية واحدة لا تقبل الانقسام والتفرد، ذلك ان المعرفتين ( العلمين ) بعدان مهمان ومتلازمان في منظومة واحدة هي الانسان.
الايمان ليس علما: اما الايمان الحقيقي،فهو ليس علما، ولا يضيف شيئا جديدا لمعرفة الانسان. ولا علاقة له بأية معرفة موضوعية، في مسألة وجود او عدم وجود اي شكل من الغيبيات. ولذلك لا نستطيع ان نقول ان للانسان معرفتين هما: المعرفة الموضوعية التي تأتي عن طريق الحواس اولا، ومعرفة الايمان التي تأتي من الله عن طريق الايمان. اما سبب تأكيدنا هذا فهو ان الايمان لا يمكن ان يعمل في المجال الموضوعي على الاطلاق، لأن هذا المجال له قواعد محددة تنحصر في المعرفة عن طريق الحواس ولا تقبل، بحسب طبيعتها الموضوعية اي تدخل من قبل الايمان الذي ينتمي الى معرفة المشاعر الذاتية. اما المشاعر الذاتية فلا تشمل غير باطن او داخل الشخص البشري، ومعرفة حقيقة مشاعره وأهميتها له ولغيره. وعليه يمكننا ان نؤكد ان المشاعر لا تشكل علما للانسان يمكن مشاركة الآخرين به. ولكنها تلفى مشاعر خاصة، يمكن احيانا، ومن خلال دراسة نفسية تعميمها بشكل نسبي على آخرين. ومن هنا، وبما ان معرفة وجود الباري ومعرفة طبيعته لا تتم الى من خلال الفلسفة، وهي ليست علما، ومن خلال الجانب الروحي عند الانسان، اي من خلال مشاعر الانسان حسب. فالانسان يمكنه ان يعرف شيئا عن طبيعة الله، عندما يكون الله بصفات حضارية مستقبلية يمثل حاجة انثروبولوجية مطلقة للانسان. علما ان البشر لا يمكن ان يحبوا اي واقع الا اذا كان حاجة مهمة وانسانية في حياتهم. غير ان محبة الأشياء والصفات النسبية تبقى مجرد محبة شدتها تعود الى شدة الحاجة المذكورة. كما يقول بذلك علم النفس الذي يكشفه لنا عالم النفس ماسلو. اما في حالة ان تكون حاجة الانسان حاجة حضارية جديدة مطلقة في اهميتها عند الانسان، مثل حاجة التقدم الحضاري، حينئذ لا تكون هذه الحاجة محبوبة فقط ولكنها تكون مقدسة ايضا، تحمل كل صفات القدسية، الأمر الذي حدا بالقدماء ان يجعلوا من هذه القدسية حاجة الهية لا توجد الا في عالم الآلهة. علما يمكننا ان نسأل الفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة عن ذلك، حيث ان هذه الفلسفة كانت تقول ان كل الأشياء والصفات في عالمنا موجودة كفكرة وكماهية في عالم المثل العلوي الالهي. في حين يقول العلم الأنثروبولوجي ان كل صفة وكل وجود روحي موجود في عالم الانسان الأنثروبولوجي المقدس وليس الالهي.
بماذا يفيدنا الايمان: وهنا، وهنا فقط، وعندما يكون الاله حاجة انثروبولوجية انسانية مقدسة تعود الى المشاعر وإحساساتها، يكون الايمان مفيدا جدا. لماذا؟ ببساطة لآن الأحاسيس الذاتية الداخلية ليست بالبداهة التي يمكنها ان تقرر اعتمادا على هذه الأحاسيس نفسها، لذلك يأتي الايمان ليقول للانسان عليك ان تصدق ما تشعر به باطنيا، فهو لا يغشك. لذلك نقول ان الايمان لا يتعامل مع الحواس الموضوعية بل يتعامل فقط مع الحواس الداخلية الذاتية Subjective. كما نقول ان الايمان ليس معرفة او علما ثانيا لآن الايمان لا يعمل اكثر من تعزيز المشاعر وتقويتها، الى الدرجة التي يمكن فيها للفرد الانساني ان يقوي ويعزز ما تقول به المشاعر، ويعزز تقبله للأمور النافعة وللحاجات الأنثروبولوجية المطلقة التي لا يستطيع الانسان ان يستغني عنها، اذا اراد ان يعيش كانسان موضوع في دوامة التطور التي يصعب على الانسان ان يعطي حكمه الصائب فيها، بدون فضيلة الايمان الأنثروبولوجية، حيث يحدث هنا ما يحدث بين المحبين عندما يقررون ان ما يشعرون به هو حقيقة ويستحق اتباعه. هذا، وبما ان الأمر كله لا يرقى الى العلم الموضوعي فيمكن للانسان ان يضل طريق الحقيقة الانسانية الأنثروبولوجية التي تعرضها له المشاعر، وليس العقل والمنطق السليم الواضح.
ماذا يحدث في حالة الخلط: اما عندما تخلط الكنيسة، ومعها جمع مضلَل، بين قوى الحواس وما تعطيه وبين قوى المشاعر وحدودها الحقيقية، حينئذ تتحول القصص الدينية الى اسطورة حقيقية لم تعد مقبولة في زمننا. وكذلك عندما يتم استخدام الايمان لإرغام المؤمنين البسطاء وغير البسطاء على قبول الاسطورة كحقيقة ايمانية مقدسة وإلهية، الأمر الذي يسمح للسلفية الدينية بأن تبقى حاضنة اساطيرها التي لم تعد تفيد احدا، لأن هذا الشكل من الايمان بالغيبيات يبتعد عن الواقع ويجعل الوجود الغيبي بديلا عن الوجود الأنثروبولوجي، الأمر الذي يحرف رسالة يسوع عن هدفها الحقيقي الذي هو الانسان بحقيقته الحضارية الانسانية ويعطي للانسان المؤمن اهدافا غيبية لا يمكن ان يستفيد منها الانسان، لأنها ليست حاجته الأنثروبولوجية المطلقة، ولآن الانسان قد يخاف الالهيات ويعبدها وينسى حاجاته الانسانية الحقيقية التي يفترض هي الأخرى تأتيه باسم المقدس الأنثروبولوجي الانساني، الذي يحتاجه الانسان لتوجيه حياته الوجهة الصحيحة والمفيدة والمساعدة على تطوير حياة البشر الأفراد والجماعات.
اما عندما تقول الكنيسة للمتعلمين، لكم علمكم وللكنيسة علمها، فإنها بالحقيقة انما تمارس حيلة دفاعية بقولها ان العلم علمان: العلم الانساني والعلم الالهي. غير ان الكنيسة تتجاهل الحقيقة التي تقول بأن النور ( نور الحقيقة ) لا يخفى بغربال، وأن الحقيقة الانسانية مثل تسونامي تجرف من امامها كل من يتجرأ وان يقف بالضد من عملها الجدلي التغييري.
926 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع