لطيف عبد سالم
القرار...! قصة قصيرة
التأريخ خلفها ينسج صورًا تخدش بشدةِ وطئها ما تبقي من وسامتِها، ومَشَقَ قوامها، وسواد مقلتيها الذين كانوا يذيبون هواجس من يرعى بواحتِها، بعد أن أصبح سيلان الدمع منذ سنوات طوال يدثر جمالها بفعل الخشية من المجهول الذي يتجسم بكوابيس ثقيلة تخيم بأحاسيسٍ مبعثرة على مجمل فضاءات حياة من كانت يومًا قد يصح فيها قول قيس ابن الملوح:
"مُفَلَّجَة الأنْياب لَوْ أنَّ رِيقَهَا -- يُداوى به الموتى لقاموا من القبر".
وهي صبية لم تتجاوز ربيعها الثالث عشر، كانت ( سعدية ) تسير حافية على شواطئ أحلامها البريئة؛ لذا لم تبدِ - حينئذ - مبالاة إزاء ما رغب القيام به والدها الفلاح البسيط الذي اضطره تزايد وطأة ضغوطات الحياة بفعل استبدادِ الاقطاع وظلمه التفكير بالرحيل عن قريته الوادعة على أحد الجداول المتفرعة من نهر الفرات، وهجر مروجها الحالمة الممتلئة بالخضرة والمفعمة بالحياة، فكان أن انتقل إلى إحدى المناطق الشعبية في ضواحي العاصمة بغداد، بعد نحو عام من استقالة الوصي عبد الإله عن وصاية العرش، واستلام الملك فيصل الثاني عرش العراق.
لم يكن أمام هذا القروي البريء - الذي ترنم في فضاءات قريته لسنواتٍ بأغنياتِ الحصاد ورقصات الدخول وأهازيجه الممزوجة بحلاوةِ أصوات المزامير - خيار سوى الركون مجبرًا إلى العيش وسط صخب الحياة اليومية في المدينة، ومواجهة الضياع في ضجيج زحمة طرقاتها.( )
صغر سنها ساهم في جعلها غير مدركة لمعنى الاقتران برجل، ولا بما يمكن أنْ يهددَ حياتها ويضع مستقبلها على المحك، حين صمم والدها على تزويجِها لأبن عمها ( مزيعل ) بائع البخور في سوقِ حيها العتيق المطل على سدة ترابية أقامتها الحكومة لدرء مخاطر فيضان النهر، على الرغمِ من معرفته أنَّ أكثرَ من شابٍ متحضر في مدينتِها يتمنى لو كان عريسها.
أمها التي تخفي في دهاليز أعماقها صرخة محبوسة بعد أن استباحت حريتها ظلمة أقبية مجتمع كرهت غالبيته كلمه الحق، لم تكن أفضل منها حالًا، فزوجها الذي تعودت بفعل ما وروثته من بيئتها على مناداته بكلمة عمي، غير عابئ بمشاعرها، فقد كان يزجرها ويكثر من توبيخها كلما حدثته بتوسلٍ في محاولةِ فك طلاسم إصراره على إتمام هذه الزيجة، فهي مثل كثير غيرها لا حيلة لها في مواجهة سطوة السيء من عرف العشيرة الذي لا يجف نهره ولا ينضب معينه؛ لتأصله في أوهامٍ عميقة من ذاكرة أجيال رجال، حفرت كينونتها وسط مسارات الجهل المتناثر في فضاءات الاضطهاد، فلم يَعُدّ ينقصه سوى استعباد من هم في مخيلتهِ أقل منه نفوذًا وقوة؛ تخفيفًا من وطأةِ شعوره بالقهرِ، فكان أنْ نحا بعدوانيةِ صريحة صوب احتقار المرأة، حين فرض عليه شعوره بالعجز ورضوخه للقهر، التسلط عليها ومعاملتها بقسوةٍ لا رحمة فيها، فضلًا عن حرصهِ على التحفظِ من محاولةِ ذكر اسمها في مختلفِ المجالس، إلى جانبِ عدم الإشارة إليها من دونِ ذكر عبارة ( أجلكم الله ) أو ( تكرم من طاريها )؛ تعبيرًا عن الاستخفافِ بأنوثتها وآدميتها، بوصفِها من وجهة نظره كائن أقل شأنًا يتصف بالوهنِ والجهالة، فلا عجب أنْ يفضي العرف الضاربة جذوره في أعماقِ رب أسرتها الذي كثيرًا ما حرص على إظهار ورعه وطهره وتقيده بتعاليم السماء، في إصرارهِ على تزويج أبنته الوحيدة التي كانت تؤنسه ممازحتها، وتؤرقه مخاصمتها له عند عودته عصرًا من أرصفة مساطر العمالة في حال نسيانه حلوى ( شعر البنات ) التي تدخل البهجة في نفسها، إلى رجلٍ يكبرها بأكثرِ من عقدينِ من الزمن، بالإضافة إلى سيرته غير القويمة التي تعكس ما عرف عنه من أنَّه رجلٌ أسير شهوته وهواه، فهو الخارج توًا من أحدثِ أزماته التي إعتاد افتعالِها مع زوجته الثانية، والتي ما برحت الهموم قلبها بعد أن تيقنت من موتِ أمانيها في جوفِ عقلها مذ أنْ صدمت برجل غلبت عليه حماقته يوم زف إليها عريسًا، وجعلها بفعلته التي تفوح منها روائح الأنانية امرأة كسيرة الجناح تجهد لستر صرخات وجعها، فيما لم تغادر روح زوجته الأولى جسدها، إلا والحزن يسكن ما بين جنباتها.
لم تَعُدّ محاولة تلك الفتاة المكابرة، كافية لحجبِ مرارة سواد لياليها الظليم حين يهبط على منزلِها زائرًا ثقيلا يعصف بنفسِها الحبلى بالآهات، فيبعث في ثناياها القنوط المتأتي من قلقِها واضطرابها لمجردِ استذكار بعض ما خف وقعه من أحداثٍ اكتنفت سفر حياتها التي كثيرًا ما أرعبت قلبها الذي اكتوى بنيرانِ عذاباتها، بعد أن أصبحت وحيدة لا يشاركها همها سوى الوحشة الممزوجة بمشاعرٍ محترقة تبعث لواعجها نفسًا مضطربة تنبض حيرة وحسرة؛ جراء موت أغلب أمانيها في جوفِ عقلها، إضافة إلى ما فرضته عليها دروبِ الجهل واستبداد التخلف من ضياع لأنوثتها وكرامتها الإنسانية والبسيط من أحلامِها، فكانت ابتسامة ملائكية تحفر قرارها في صخر الوجع!.
(1) الدخول: التسمية المحلية لعيد نوروز في أرياف جنوبي العراق.
797 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع